“نوفمبر” خورخي غالان: منعطف السلفادور الرهيب


في روايته “نوفمبر”، يستعيد الشاعر والروائي السلفادوري، خورخي غالان (1973)، أحداثاً وقعت سنة 1989، حين قامت جماعة من المسلّحين المتواطئين مع الجيش بقتل ستّة قساوسة وامرأتين هما أم وابنتها في “جامعة أميركا الوسطى” (UCA) في السلفادور.
بسبب إصرار غالان على المضيّ في كتابة عمله الروائي وتعرية ظاهرَتي العنف والإفلات من العقاب في بلاده، تلقّى تهديدات بالقتل. ومنذ سنة تقريباً، يعيش في إسبانيا، هو الذي يعلم أن العودة إلى بلده الأم محفوفة بخطر الموت، لأنه اختار أن يؤجّج الذاكرة ويفضح ما حدث في تلك الليلة المرعبة من ليالي تشرين الثاني/ نوفمبر 1989.
هذا الشهر، قدّم غالان، في “مكتبة أوتشو إي ميديو” في مدريد، روايته الصادرة عن “دار توسكيتس” في إسبانيا، بمشاركة الروائية الإسبانية ألمودينا غراندي والمخرج إيمانويل أوريبي، إلى جانب خوان خوسيه تامايو، وهو صديق مشترك للكاتب ولأحد ضحايا الحادثة.
لعلّ من يقابل غالان للوهلة الأولى سيستبعد أن يفتح هذا الشخص الهادئ، في كتاباته، ملفّ العنف والرعب في السلفادور التي تُعتبر من أكثر بلدان أميركا اللاتينية عنفاً، فهذه البلاد الصغيرة التي يبلغ عدد سكّانها ستّة ملايين نسمة تسجّل ما معدّله 51 جريمة قتل في اليوم الواحد، ومن بين هؤلاء الضحايا أحد أصدقاء الشاعر، والذي قُتل، يقول غالان، بالرصاص في الشارع العام، خلال جدال حول حركة المرور.

هذا العنف المستشري يقابله من الناحية القانونية إفلات من العقاب. هنا، يستشهد غالان بقتلة الضحايا الذين استعادهم في روايته “لا يزال القتلة طلقاء، باستثناء الجنرال مونتانو، السجين في الولايات المتّحدة، والذي يُمكن أن يجري تسليمه إلى إسبانيا لمحاكمته هناك”، بعد أن قدّم غالان نفسه إفادةً ضدّه لدى القضاء الإسباني.

يشدّد غالان، في الندوة نفسها، على أن العدالة ينبغي أن تأخذ مجراها الطبيعي، حتى لا تتكرّر مثل هذه المآسي. يقول إنه ينتظر تحقّق ذلك من خلال استقدام مونتانو لمحاكمته في إسبانيا، مشيراً إلى أن أربعة عشر عسكريا آخرين شاركوا في المجزرة ولا زالوا طلقاء، بل إن بعضهم يمارس، إلى اليوم، نشاطاً سياسياً ويتمتّع بالحصانة في “مجلس الشيوخ”، وفق قوله.

لا يُخفي الكاتب حنينه إلى بلده، لكنه يلفت إلى أن حياته هناك مهدّدة، بعد أن تلقّى تهديدات مباشرة بالقتل بعد نشر روايته التي قدّمها في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي في المكان نفسه الذي حدثت فيه الجريمة؛ “جامعة أميركا الوسطى”، وهي أيضاً الجامعة التي زاول فيها تعليمه.
يقول غالان إنه عاش “في بلاد لا يستطيع المرء أن يسير فيها بأمن وطمأنينة، بلاد يمكن أن تنتهي فيها الحياة في أي منعطف أو زاوية. لقد رأيت أناساً طيّبين وأبرياء كانوا يمضون إلى عملهم لعيلوا أسرهم بكرامة وهم يموتون. الإرهاب شيء يومي بالنسبة إلينا. وهذا يبرّر لنا التساؤل حول الجدوى من أن يعيش المرء هكذا، عن مصدر كلّ هذا العنف”.
ما الآثار التي تخلّفها تلك الحرب الطويلة، ذلك العنف في السلفادوريين؟ سؤال يجيب عنه قائلاً “لقد خرجت بلادي من حرب رهيبة لتدخل في أخرى أكثر رهبة: الحرب بين العصابات.
هيمنت الجريمة على جميع أنحاء السلفادور، وهذا العنف هو الأثر الجلي للحرب الأهلية. في بداية التسعينيات كان لدينا مجتمع مليء بالأسر المفكّكة نتيجة الحرب، وحدثت هجرة واسعة إلى الولايات المتّحدة وبلدان أخرى، وقد شكّلت البطالة والفقر والأسر الممزقة أرضاً خصبة مناسبة لتناسل العصابات، فصار العنف خبزنا اليومي”. يضيف: “في طفولتي كانت الحرب، ولما صرت شاباً كانت الحرب. أنا، وككلّ الذين وُلدوا منذ السبعينيات، لا أعرف حقيقة أخرى غير تلك”.
لكن “نوفمبر”، التي صدرت العام الماضي وما زال الكاتب يعيش توابعها إلى اليوم، ليست رواية عن الحرب، بل عن الحياة الموسومة بالخوف، وهذا ما يجعل الكاتب يحنّ إلى سنوات الخمسينيات التي لم يعشها “تلك السنوات التي كانت فيها بلادي جنّة، ولم يكن يحدث فيها أي شيء رهيب”.

إلى جانب أعماله الروائية والشعرية، صدرت، في 2011، مختارات من نصوص خورخي غالان في أنطولوجيا بعنوان “الشعر في مواجهة اللايقين”، وفي 2015 كان الشاعرَ الأميركولاتيني الذي نال أكبر نسبة من التصويت من قبل مائتي ناقد ألّفوا أنطولوجيا بعنون “القاعدة المفتوحة: الشعر المتأخّر في اللغة الإسبانية”.

وقد حازت أعماله في السنوات الأخيرة العديد من الجوائز في أميركا اللاتينية وفي إسبانيا. ومؤخّراً، حاز الكاتب جائزة “بيت الأميركتين للشعر” لسنة 2016 عن ديوانه الشعري “تحت ليل نوفمبر اللاينتهي” الذي يُعدّ بشكل ما امتداداً للرواية، وقد اعتبرته لجنة التحكيم “عملاً نوعياً مميّزاً يجمع بين تقاليد اليوميات التاريخية والاستقصاء للأحاسيس الفردية التي تواجه الواقع، انطلاقاً من التعبيرات الشعرية”.



صدى الشام