on
الإعلام والمؤامرة المستمرة
سلام الكواكبي
من خلال تبحّر السوريين في تجارب إعلامية سلطوية خلال عقود، كما وقوعهم ضحايا تجارب إعلامية خاصة، حملتها حقبة “التحديث والتطوير” في ظل “بسطار” سلطة العسس والمال في آنٍ معًا، صارت نظرة جزء يُعتَدُّ به منهم إلى العمل الإعلامي، وخصوصًا بعد تحرّرهم الكلامي على الأقل، مشوبة بالتشكيك بصدقية أي وسيلة إعلامية كانت، إضافة إلى رؤية مخططات معقدة ومتشابكة وراء أي رسالة إعلامية تُعنى بشؤونهم وبشجونهم، وهم أيضًا، يُطبّقون نظرية المؤامرة في أكثر لبوسها سذاجةً في أثناء تحليلهم للخطاب الإعلامي المعني بهم.
علم الإعلام، والذي له جامعاته ومعاهده، يحتوي على استعراضٍ لكل جوانبه السلبية والإيجابية، كما في كل زمانٍ ومكان. وفي المقابل، فالتركيز على سلبياته يُشير غالبًا، وليس دائمًا، إلى ضعفٍ بنيوي في فهمنا لوظيفته، كما هو دليلٌ آخر/ جديد على تمسك بعض التعليقات بمشاجب شتى؛ لعلّها تُنسينا ضعف الأداء أو تشتته أو بعض نتائجه العكسية.
وبعد أن تعودنا على أن يكون الخطاب الإعلامي تلقينيًا وحمّالًا لكل صنوف التحوير والكذب والتضخيم، وما يسميه الفرنجة بالـ “بلا بلا”، ونسميه -نحن- باللغة الخشبية الخالية من أي مضمون، صرنا نبحث عن مطابقة ما تعودنا عليه في كل متابعة لإعلام الـ “غير” وأداء “الآخر” في التواصل والتوصيل. وأصبح جلّنا “خبراء” إعلاميين، نؤمن بنظرية المؤامرة منطلقًا مريحًا وحمّال أوجه لكل تحليل.
الإعلام الغربي متآمر علينا منذ الأزل، فهو قد كان خاضعًا لمجموعات الضغط اليهودية في مخيالنا الجمعي، صار مقرّبًا من سلطة المال، قبل أن ينتقل ليخضع إلى مستبدينا الأشاوس، وبالتأكيد، لا طهرانية في الرد، فكلٌ من العوامل المؤثّرة المذكورة قد تُمارس نوعًا من التأثير على نوعٍ معين من الإعلام منفردًا أو مجتمعًا. ولكنها ليست القاعدة التي تنفي الاستثناء.
في بدايات الثورة السورية، سعى كثيرٌ من الصحافيين الغربيين إلى القيام بعملهم سعيًا مهنيًا على المسرح الداخلي، من خلال عكس مجريات الأحداث، ومحاولة التعرّف على أبعاد المأساة، وعلى العكس من واجبهم المهني نظريًا، فقد تعاطف كثيرٌ منهم مع الحَراك الشعبي، ومارسوا دورًا مهمًا في تقديمه بصورةٍ مثاليةٍ في وسائلهم الإعلامية المختلفة، ورقية كانت أم صوتية أم مرئية، ومع تطوّر الثورة السلمية إلى العمل العسكري، وتوضّح بنيان المقتلة السورية، أصبح عمل الإعلام الأجنبي في خطرٍ موضوعي متأتٍ من انعكاسات المعارك الجارية حولهم، والتي دفعت بكثير من المؤسسات الى سحبهم؛ حفاظًا على حياتهم وأمنهم الشخصي.
وصار من يُغامر منهم في الولوج إلى مناطق الصراع، يضع نفسه في عهدة بعض المُيّسرين المحليين الذين بدأوا نشاطهم تطوّعًا، وسرعان ما احترفوه، وصاروا وسطاء مدفوعين؛ لتسهيل عمل المراسلين ترجمةً ونقلًا ومبيتًا… إلخ. لم يكتف بعضهم بهذا الدخل الملائم، فصاروا، وهم قلّة، ولكن القلّة أساس العلّة، يعمدون إلى “بيع” المراسل إلى كتائب “ثورية”، تستخدمهم كرهائن مُدرّين للمال “الحلال”، بما أنهم من “الكفار”. وصار من المحرمات إدانة هذه التصرفات؛ لأنها “فردية” و “شاذة”، ولا تعكس “روح الثوار”.
نتيجة هذا الشكل من “الترحيب”، ابتعد الاعلام عن ساحات الوغى، وانتقل إلى ساحات أكثر أمانًا في الدول المجاورة؛ ليحصل على ما تيسّر من معلومات تصل إليه من مراسليه المحليين الذين استطاع بعضهم -فقط- أن يحمي نفسه من تحريف الحقائق ومن المبالغات غير المجدية، ومن التبريرات الممجوجة لتجاوزات وانحرافات طبعت عمل عديد ممن ادّعوا قربًا من الثورة.
في عديدٍ من اللقاءات، ينبري إعلاميون سوريون لنعت الإعلام الغربي بالانحياز، وبتشويه الحقائق، وبخيانة الثورة. أما الانحياز، فلا يوجد إعلامٌ غير منحاز بالمطلق، إلا في مخيلة بعضهم، وليس في الانحياز النسبي النابع من كون الإعلامي إنسانًا وليس “روبوت” سلبية مطلقة، بل على العكس. على أن يلتزم بالمعايير المهنية في “انحيازه” النسبي. أما في تشويه الحقائق، فإن لم يصل الإعلامي إلى المصدر الرئيس، واستعان بوسطاء، أو بما يرده من وكالات، فهو يمكن أن يخطئ وينقل صورة غير دقيقة، دونما سعي واضح إلى تشويه الحقائق إلا فيما ندر. أما فيما يتعلق بـ “خيانة” الثورة، فهل آن لنا أن نعرف، ونحن الذين نتهم على “الطالعة والنازلة” وسطاء الأمم المتحدة والإعلاميين الأجانب، بخيانة “ثورتنا” وكأنما من واجبهم النضال إلى جانبها، والتغطية على انحرافاتها، وتبرير تجاوزاتها، وإيجاد الأعذار لجرائم بعض من انتمى إليها.
ألا ينبري بعضنا لتخوين بعضنا الآخر، حتى في الندوات العلمية، إن أشار هذا الآخر إلى انحرافات ما أو إلى سلبيات ما؟ وكأنما من الثورة في شيء أن نكذب ونُخفي ونبرر؟
النظام فهم اللعبة، وهو صاحب الخبرة في تطويق الإعلام الرسمي، وتطويع الإعلام الخاص محليًا، فصار يفتح أبوابه، التي كانت موصدة تمامًا، أمام الإعلام الغربي؛ لكي يغطي من طرفه، وبالتالي؛ ينقل الصورة من الجانب الآخر. وإن قرأنا ما سبق من أسطر، فيمكن أن نستنتج بأن “انتصار” النظام النسبي في هذا الملف، ليس عائدًا إلى قدراته و”فلهويته” فحسب، بل إلى عجز الطرف الآخر عن فهم أهمية الإعلام، واستيعاب مهنيته، والتعامل معه، ليس كجريدة حزبية نضالية، بل كوسيلة توصيل إن حصلت على الغث، فستنقله، وإن حازت على الثمين، فهي ستفعل أيضًا.
قبل زيارة مهمة لمسؤول سوري معارض مهم إلى عاصمة أوروبية، تواصلت رئيسة تحرير الصحيفة الأولى في عاصمة هذه الدولة مع المعارض الصنديد، مانحة إياه الصفحة الأولى؛ لكي يجيب عن أسئلتها كما يحصل دائمًا مع رؤساء الدول قبل وصولهم؛ فما كان منه إلا أن اعتذر بداعي الانشغال. بعد ظهيرة يوم الانشغال هذا، كان صاحبنا يكتب التعليق تلو التعليق على الفيسبوك (…). ولله في خلقه شجون.
المصدر