دروس مغربية في الثورة


محمد ديبو

لم يكن انتفاض الشارع المغربي مفاجئًا إلا لمن لم يقرأ الربيع العربي في العمق، أو من لم يعترف به حتى الآن، أولئك الذين لا يرون في الشعوب إلا “رعاع” تقاد حيث يريد لها أرباب السلطات أو “الثورات” أو الأديان؛ إذ بين ليلة وضحاها، تبيّن أن كلّ التخويف والرعب الذي مارسته السلطات وإعلامها من الإرهاب وسقوط الدولة وتفكّكها والحرب الأهلية و”السورنة” والعرقنة والدعشنة أيضًا، لم تجدِ نفعًا. بل الملفت هنا، أنّ الشارع انتفض في أوج دعاية السلطات هذه، وفي الوقت الذي تبلغ الساحات العربية مستوى من العنف لم يشهده تاريخها الحديث ولا القديم؛ ما يعني أنّ انتفاض الشارع المغربي جاء أبكر ممّا يمكن توّقعه، قياسًا على تجارب سابقة؛ إذ لطالما استخدمت السلطات التجربة اللبنانية (1975-1990) والجزائرية (التسعينيات) والعراقية (2003 وما تلاه)؛ لتخويف شعوبها من التغيير أو المطالبة بأبسط الحقوق، وقد نجحت هذه الدعاية في تأخير ثورة الشعوب إلى عام 2011، في حين أنّ الربيع المغربي عاد خلال وقت قصير، وفي لحظة تبدو فيها داعش في قمّة توّحشها وبربريتها، والحروب الأهلية في أحطّ مستنقعاتها، والسلطات المستبدة في أشدّ لحظاتها فجورًا وقتلًا، والنظام العالمي في أكثر لحظاته عريًا وانكشافًا، سواء لجهة تبيان عجزه عن إدارة العالم، ووضع مصالحه فوق مصالح الشعوب، أو لجهة التحوّلات التي يعيشها على صعيد صعود قوى وهبوط قوى أخرى، بالتوازي مع تراجع دور القوة الأميركية عالميًا؛ لنكون أمام أوّل الدورس المغربية، بأنّ الشعوب لم تعد تخاف فزاعات السلطة، بعد أن اكتشفت دور السلطات (محلية وعالمية) في خلق هذه الفزاعات، ودعمها لجعل الخيار قائمًا، بين السيئ والأسوأ، ومن هنا يأتي الدرس المغربي أملًا للشعوب التي لم تزل تقود مخاضًا صعبًا ضد الاستبداد، بأنّ محاربة داعش وتفكّك الدولة والتخويف بهما لن تلغي مطالب الشارع المستمرّة بالحرّية والعيش الكريم.
إذا كان الربيع المغربي قد سلك طريقًا خاصًا به، يمكن وصفه بالطريق الثالث، أي الإصلاح من داخل منظومة الحكم، فإنّ ما يجري في الساحات اليوم يؤكد أنّ هذا الطريق كان صائبًا، رغم كلّ ما يقال عنه، لجهة أنّه جنّب البلد مسارات الفوضى والحرب الأهلية التي دخلتها بلدان أخرى. ولكيلا يبدو هذا الكلام رجمًا للثورات التي نحت نحو العنف (لأنّ لذلك أسبابه الموضوعية)، بل لأنّ ما توّفر للشرط المغربي لم يتوافر في بلدان أخرى، حيث وجدنا سلطة مستعدّة للتراجع خطوة إلى الخلف وحزب إسلامي قوي مستعد -أيضًا- للتراجع خطوة إلى الوراء، والذهاب في تجريب مسار ما، قد يقال كثير هنا في صحّة هذا الخيار من عدمه، وفي كونه أجهض حركة عشرين فبراير، وفرّغها من محتواها، وفي كونه أتاح للسلطة الملكية المناورة بالتعاون مع إسلام سياسي لا يهمه سوى البقاء في السلطة، والدليل أنّ ما اتخذه بنكيران من قرارات اقتصادية اجتماعية صبّت ضد الشرائح الأفقر في المجتمع، واستهدفت الطبقة الوسطى، وقد يكون كلّ هذا صحيحًا، ولكنّ الصحيح -أيضًا- أنّ هذا الطريق جعل الشعب المغربي يحتفظ بقدرته وطاقته على التظاهر، مرّة تلو المرّة؛ إذ لم تتوقف المظاهرات طوال حكم بنكيران، وما كان لها اليوم أن تشهد هذا الزخم لو سلك الربيع المغربي منذ عام 2011 طريق العنف، ودون أن يعني ذلك -أيضًا- أنّ السلطة تراجعت بنية أنّها تريد إصلاحات فعلية، بل كان كلّ تفكيرها -عام 2011- يتعلّق بكيفية إجهاض الحراك عبر نقله من الشارع إلى ضفة السياسة؛ حيث يمكن لها أن تحتويه، على أن تعمل -لاحقًا- على إعادة الجميع إلى المربع الأوّل، كما بيّن سلوكها قبل الانتخابات الأخيرة؛ حيث وقفت إلى جانب حزب الأصالة والمعاصرة الذي يعدّ حزب الملك عمليًا، وأحد أدوات الدولة العميقة، ودون أن يعني ذلك -أيضًا- أنّ حزب العدالة والتنمية يمثل بديلًا حقيقيًا للمغاربة، أو أنّه نهاية ربيعهم، بل هو مجرد محطة أولى في محطات الربيع المغربي، ويبدو أنّها استنفذت تاريخيًا، كما يشي حراك الشارع اليوم، إلا أنّ أهميتها تكمن في كونها جنّبت المغرب خيارات سيئة، وتركت، في الوقت نفسه، الباب مفتوحًا للتغيير، وهنا، يأتي الدرس المغربي الثاني، بواقع أنّه قدم خيارًا ثالثًا عبر الإصلاح من داخل بنية الحكم، مع المراهنة على التراكم السياسي التدريجي، عبر المراهنة على الشعب الذي يبقى حيًّا؛ لمنع السلطة من إعادة الالتفاف على الإصلاح، وبحيث أنّ “إسقاط النظام” أو “تغييره” يتمّ على دفعات وليس دفعة واحدة، وأنّ الانتقال السياسي مرحلة طويلة، تتقدّم حينًا وتتأخر حينًا، عبر طريق متعرّج إلا أنّها تبقى قائمة، مع إعادة التذكير بأنّ هذا الخيار لم يكن ممكنًا في بلدان أخرى مثل ليبيا أو سورية، حيث وحشية السلطة فاقت كلّ متوّقع، في حين أنّ السلطة المغربية اختارت أساليب أقلّ عنفا، وستبقى تعمل لإبقاء قواعد اللعبة بين يديها، وفي الوقت نفسه، سيبقى الشارع حيًّا لمنعها من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
الدرس الثالث، وقد يكون الأهم، وهو درس موّجه في اتجاهات عدّة، ألا وهو أنّ الجناح السياسي للربيع (على أهميته) لا يكتمل دون جناحه الثاني، أي الاقتصادي الاجتماعي، فالناس ثارت؛ لأجل لقمة الحرية ولقمة الخبز معًا، فإذا كانت السلطة المغربية منحت بعض الحريات، منذ عام 2011 حتى اليوم، فإنّ الشق الاقتصادي الاجتماعي شهد تراجعًا مريعًا، ما أعاد الناس إلى الشارع مرّة أخرى، بل إنّ التشابه الكبير بين “محسن فكري” (السمّاك المغربي) ومحمد البوعزيزي (صاحب عربة الخضار التونسي)؛ لجهة انتمائهما إلى أفقر طبقات المجتمع، يعطي فكرة واضحة عن كون أنّ الشق الاقتصادي الاجتماعي هو جوهر الربيع ومحتواه، فإذا كانت الناس تريد حريات؛ فلأجل أن تستثمر هذه الحريات في الضغط؛ لتحقيق مطالبها في العيش الكريم، ووقف الهدر والفساد، ولعلّ وقوف الربيع التونسي اليوم في نقطة الانسداد التاريخي، لجهة عجزه عن تحقيق شيء يذكر في هذا المجال، يجعل الربيع التونسي لم يغادر منطقة الخطر، على الرغم من أنّه الأنموذج الأهم عربيًا، ومن هنا تأتي رسالة المغرب -أيضًا- إلى القوى العالمية والمؤسسات النقدية الدولية التي تسعى لفرض اقتصاد السوق خيارًا وحيدًا، بأنّ هذا الطريق لا يؤدي إلّا إلى الثورة، وها هي تعود من البوابة المغربية التي ظنّ الجميع أنّه تمّ تجاوزها؛ لتعيد رشّ الأمل على جثّة اليأس الذي عمّمته تجارب سورية وليبيا واليمن ومصر.




المصدر