فلاديمير العرب


قام السيد لورنس فريدمان في كتابه المتميز” الاستراتيجية: تاريخ” بتعريف الاستراتيجية بـ “فن صناعة القوة”. وهذا يُعَد بمنزلة عدسة نستطيع من خلالها دراسة أحد التوجهات الجغرافية السياسية الرئيسة للعام الحالي؛ وهي عودة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط.

وبعيداً عن علاقاتها الوثيقة مع النظام السوري التي تعود إلى السبعينات، لم تؤدِّ روسيا دوراً بارزاً في الشرق الأوسط منذ عام ١٩٧٢، عندما طرد الرئيس أنور السادات المستشارين السوفييت من مصر.

 

لمَ العودة الآن؟ على المستوى العام، من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد أن يتحدى فكرة النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة ويشجع العودة إلى نظام متعدد الأقطاب وإن كانت هناك بعض القيود المفروضة ذاتياً على تطلعاته. وعلى الرغم من تدخله في جورجيا وأوكرانيا، إلا أنه لا يبدو غير عازم على بدء حرب واسعة النطاق من خلال الهجوم على أي من الدول الأوروبية الشرقية التي هي بالأصل أعضاء في الناتو. لكن بوتين مع ذلك، على صعيد الشرق الأوسط، لديه الرغبة في تقويض النفوذ الغربي وخلق قوة خاصة به دون المخاطرة بخوض حرب مع الغرب.

وكما يعلم أي ديماغوجي فإن إحدى الطرق لخلق قوة من لا شيء هي العثور على مواطن التقسيم ومن ثم استغلالها. وقد استغلت روسيا، في الشرق الأوسط، الانقسام الكبير بين نفور الغرب من الإسلاميين من جهة، وانتهاكات حقوق الإنسان من جهة أخرى. وغالباً ما ينتج عن النزاع بين هذه الأهداف التباساً في السياسة الخارجية الغربية، كما يفتح المجال السياسي فتستطيع روسيا أن تعمل من خلال استثمار القمع ومصادرة الديمقراطية.

 

كما تدعم موسكو، دون أدنى شك، الأنظمة الاستبدادية الحالية في دمشق ومصر وطبرق والتي تصورها على أنها الحصن في مواجهة انتشار الإسلام المتطرف. إذ يدعم بوتين إجراءات الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر ضد الإخوان المسلمين بصورة مستمرة، على سبيل المثال؛ مواجهة انتشار الأدلة على الأساليب القمعية التي تتبعها حكومته العسكرية.

كما كثفت روسيا، منذ عام 2013، من تزويدها الحكومة المصرية بالأسلحة مستغلة تردد الولايات المتحدة في توفير المعدات العسكرية التي من الممكن استخدامها في القمع السياسي الداخلي.

وعلى الرغم من أن مصر ما تزال تعتمد على واشنطن للحصول على الدعم المالي أكثر بكثر من اعتمادها على موسكو، فإن هذا التصرف يجسد استراتيجية روسيا المتمثلة باستغلال أي خط اتصال بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في الوقت الذي تراوغ فيه واشنطن فيما يخص الأمن وحقوق الإنسان.

كما أننا  نرى الشيء ذاته في ليبيا وسوريا، حيث لا ترضى روسيا بالتعامل مع شريك أسسته الولايات المتحدة.

ففي سوريا، على الرغم من الأعمال الوحشية ضد حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومة السورية والتي جذبت الاحتقار الغربي، لم يتمكن الغرب من أن يفسر كيف أن التخلص من نظام بشار الأسد سيحسن من الوضع الأمني في البلاد في الوقت الذي سيؤدي فيه ذلك إلى المزيد من الفوضى بوجود الإسلاميين. استغل بوتين هذه الفجوة من خلال دعم الأسد دون تحفظ، تاركاً الغرب في جدل حول “انتقال” تدريجي في السلطة  بعيداً عن الرئيس السوري. كما عزز ذلك من نفوذ روسيا وإيران، الدولتان الوحيدتان اللتان تتمتعان بالنفوذ للبدء بهذه المرحلة الانتقالية.

 

أما بالنسبة لليبيا، فالولايات المتحدة لديها سلطة في حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة، المتمركزة خارج طبرق، والتي تسعى إلى توحيد البلد الممزقة. لكن المشكلة أن حكومة طبرق الانفصالية في شرقي ليبيا، التي تدعمها مصر والإمارات العربية المتحدة، لم توافق على هذا الاندماج.

وعندما وجدت روسيا أن الفرصة سانحة للتدخل بين الولايات المتحدة واثنين من الحلفاء التقليديين (مصر والإمارات العربية المتحدة )، وفي تأييدها الاسمي لعملية الأمم المتحدة الرسمية، قامت روسيا بتهريب الأسلحة عبر صربيا وروسيا البيضاء، على الأرجح، إلى قوات اللواء خليفة حفتر الداعم لحكومة طبرق. وبعد نجاح حفتر في السيطرة على محطات النفط في حوض سرت في ليبيا على امتداد الشهرين الماضيين، وتشدده في مواجهة الجماعات الإسلامية في بنغازي، يبدو أن الغرب قبل بواقع _ وضرورة _ قوته إلى حد ما وبالتالي قبول نفوذ روسيا في ليبيا.

ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن التغير الدبلوماسي المفاجئ في موقف بوتين من تركيا. إذ عندما شعر بوتين، مجدداً بوجود الفرصة المناسبة للانسحاب التدريجي من حلف شمال الأطلسي، بعد محاولة الانقلاب على الرئيس رجب طيب أردوغان في شهر يوليو/ تموز، دعا بوتين الزعيم التركي إلى موسكو. ومن ثم رُفِعَت العقوبات الروسية التي فرضت على تركيا عقب إسقاط المقاتلة الروسية في سوريا العام الفائت ويجب على الغرب الآن أن يتعامل مع الوضع الحساس لدولة عضو في الناتو تتقاطع فلسفة رئيسها السياسية مع ما يقابلها عند بوتين أكثر من تقاطعها مع القيم الديمقراطية التي من المفترض أن يحميها حلف شمال الأطلسي.

وعلى الرغم من محاولة بوتين إقحام نفسه في سياسات مناطق أخرى من الشرق الأوسط هذا العام، يجب علينا ألا نغالي في مدى نفوذه. نذكر على سبيل المثال أن الدعاية أعطت قيمة كبيرة لصلة الروس بإحدى الغارات في سورية  التي انطلقت من قاعدة إيرانية في شهر أغسطس/ آب ما أثار غضب طهران وأدى إلى طرد الروس من القاعدة بعد ثلاثة أيام.  وبالمثل، لن ينتج عن محاولة بوتين في اتخاذ دور في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية هذا العام، التي يبدو أنها تهدف في المقام الأول إلى تحدي الولايات المتحدة التي تؤدي دور الوسيط الأساسي، لن ينتج عن تلك المحاولة، على الأرجح، أي تطور

 

بالتالي، هل يُعَدُّ بوتين عقلاً مدبراً استراتيجياً أم مخاطراً متهور؟ والحقيقة أكثر ركاكة. على الرغم من أن روسيا قد حققت مكاسب دبلوماسية هذا العام، لا سيما في شرق ليبيا وتركيا بالإضافة إلى دعمها للأسد، لكنها حملت روسيا تكلفة اقتصادية طويلة الأمد.

وكما يعلم أي غوغائي أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على القوة الناجمة عن لا شيء عن طريق الانقسام، تكمن في الاستمرار بتأجيج نيران الصراع الدائم الذي ترتكز عليها هذه الانقسامات. لكنك عندما تجعل من نفسك عدواً دائماً للغرب، لا يجب أن تتفاجأ عندما تبدو لك الأمور كأنك الطرف المتلقي للعقوبات الاقتصادية ومصدر قلق عام للشركات الغربية للاستثمار في بلدك.

ومن الممكن أن يعتقد بوتين أن ما يقوم به في منطقة الشرق الأوسط سيمنحه السلطة للتخلص من العقوبات، على الرغم من أن العقوبات الأوكرانية والسورية ليست على صلة رسمية. والأكثر واقعية هو أن نفترض أن تشجيع بوتين لحالة الصراع الدائم مع الغرب يجعل من تخفيف العقوبات أمراً غير محتمل الحدوث على المدى القريب، خصوصاً في حال دخول هيلاري كلينتون البيت الأبيض. وفي حال فكر بوتين بتضييق الخناق على روسيا لتدخل في وضع يضطرها إلى توجيه اقتصادها نحو الصين بعيداً عن الغرب، هذا سيمنح بكين نفوذاً كبيراً في موسكو.

ومن المهم أيضاً أن نلحظ دور التضليل والخداع في الاستراتيجية الروسية. هذه إحدى طرق خلق القوة من لا شيء، بيد أنها قوة مزدوجة تقضي على مصداقية المرء على المدى الطويل.

لنأخذ على سبيل المثال علاقة روسيا مع المملكة العربية السعودية. على الرغم من أن الجانبين على طرفي النقيض من الحرب الأهلية السورية، إلا أن بوتين تمكن من جذب الرياض إلى مجال روسيا الدبلوماسي من خلال التعاون في السياسة النفطية نظراً لمدى احتياج كل من دول الأوبك بقيادة السعودية وروسيا إلى أسعار أعلى بكثير لتتمكن الميزانية الحكومية من تحقيق الموازنة.

وأعربت موسكو عن التزامها بهذا التعاون، كما يبدو أن السعوديين صدقوا هذا التأكيد _ ذلك أنه في حال عدم وجوده، تستطيع روسيا أن تلتهم الكثير من الأسهم التي نجمت عن خفض الإنتاج السعودي. ويكاد يكون من المؤكد أن الرياض ستخسر في أي صفقة من هذا النوع. إذ قال إيغور سيتشن، الرئيس التنفيذي لشركة النفط “روسنفت” التي تسيطر عليها الدولة الروسية، الشهر الماضي، أن شركته لن تسهم في أي اتفاقية من هذا النوع، ما يتعارض مع بوتين ضمنياً.

ويبدو أن روسيا تريد أن تحصل على توقيع السعوديين على صفقة ليس لموسكو نية في دعمها. لكن من الصعب لنا أن ندرك إلى أي مدى يستطيع بوتين أن يخدعهم بتحمل هذه الاعباء الثقيلة. على المدى القصير، سيؤدي الإعلان الرسمي عن اتفاقية إنتاج النفط بين منظمة الأوبك وروسيا، التي من المتوقع أن تتم الشهر الجاري، إلى ارتفاع في أسعار النفط مؤقتاً. لكن على المدى البعيد، عندما تفشل هذه الاتفاقية، كما ينبغي أن يحدث، سينجم عنها تراجع مصداقية بوتين لدى الرياض ودول منظمة الأوبك.

 

وفي الواقع، يعتمد نجاح استراتيجية بوتين على الإطار الزمني: في العالم 2016، ظهرت روسيا في منطقة الشرق الأوسط؛ على المدى الطويل، ستفوق قيمة الضرر الذي سببه للاقتصاد الروسي من خلال قطع العلاقات مع الغرب، ستفوق قيمته قيمة تحالفه مع حكومات شرق ليبيا وتركيا أيضاً. وبالكاد يستطيع الاقتصاد الروسي، المتضرر في الأصل نتيجة انخفاض أسعار النفط، من الانفصال عن أسواق رأس المال الغربية والاستثمار فيها.

لكن ربما يكون النجاح الروسي على المستوى الدولي طريقة خاطئة للتفكير في مكاسب بوتين الناجمة عن استراتيجيته في الصراع الدائم. لربما تكون الاستراتيجية عبارة عن الفن في صناعة القوة، إلا ان القوة التي يُعْنَى بها الاستراتيجي قد تكون القوة في الداخل. ومن الواضح أن الصراع الدائم في الخارج يساعد بحشد الدعم الشعبي بين المواطنين الروس للحفاظ على بقاء بوتين في الكرملين، حتى وإن فسدت بلاده من حوله.

رابط المادة الرئيسي : هنا.



صدى الشام