استسهال القتل


باسل عودات

واحدة من “إنجازات” النظام السوري، العديدة جدًا، والمتنوعة جدًا، هي تعميم القتل المجاني في سورية، واستسهاله، ونشره في كل ركن، وفي كل زمان ومكان، وبكل الطرق والأشكال. موت مجاني طال الجميع، معارضين ومؤيدين وما بينهما، مدنيين وعسكريين، أطفالًا وشيوخًا ونساءً، من كل دين وملّة، ليصبح الموت حدثًا عاديًا لا يُكترث له في كثير من الأحيان.
منذ انطلاق الانتفاضة/ الثورة قبل خمس سنوات ونيّف، بدأ النظام السوري يُعمّم الموت المجاني، الذي طال كل من انتفض ضده، وكل من أعلن استياءه من الحكم الشمولي الأمني الطائفي، فثمن إسكات المُعارض -أكبر مُعارض- طلقة رخيصة، ولأنه كذلك، استسهل هو وحاشيته وميليشياته وقتَلته هذا المبدأ، ولم يُفكّروا لحظة بأن كل شخص يُقتل هو منظومة اجتماعية متكاملة، أم وزوجة وأبناء، أهل وأحبة، حكايات صغيرة وذكريات، وقصص حب وخيبات، وأحلام صغيرة تبخّرت.
شرّع النظام لإيران التدخّل، ومنحها صك للقتل، للانتقام من ماضي عمره من عمر آخر الرُسل، ومن شعب وقف في وجه مشروعات ملالي طهران الغريبة عنه، ولأن الرعاع كُثر، والنفوس المريضة كذلك أيضًا، جيّشت إيران ميليشيات من كل حدب وصوب، وعبأتهم نفسيًا لخوض “حرب مُقدّسة” في أرض مُقدّسة، فاستسهلوا القتل وعمموه.
صكّ آخر مشابه منحه النظام لروسيا، من أجل حمايته، فسمح لها أن تُلقي حممها فوق رؤوس السوريين، تقتل بالجملة دون تمييز، وتحصد حصدًا أرواح البشر، بانشطاري وارتجاجي وفراغي، بلا حساب ولا مُحاسب.
وشرّع أيضًا، بممارساته وحربه العبثية المفتوحة، للتنظيمات الجهادية العالمية، أن تدخل وتُمارس هوايتها المفضّلة، وتجزّ رؤوس “الكافرين” وغير الكافرين، لا تُفكّر للحظة من هم ومن ينتظرهم في بيوتهم، وكم طفل سيصبح يتيمًا بعد هذا “الجز”، وكم امرأة ستترمل كل يوم، وكم أم سينفطر قلبها، كما شرّعت حرب النظام المفتوحة -التي هي بدورها من “إنجازات” النظام الكثيرة جدًا والعديدة جدًا- للتحالف الدولي وغير الدولي لملاحقة “المتطرفين” وقتلهم، بآلاف الأطنان من الصواريخ التي تقتل “بمعيتها” آلاف الأبرياء.
صار السوري يسمع عن الموت كحدث يومي اعتيادي، فهناك قُتل أربعون شاب في كمين، وهنا سُوّيت عمارة بالأرض وطّمِر تحتها ثلاثون، وقرب تلك القرية جرت معركة راح فيها خمسون، ووسط تلك البلدة سقط برميل محشي بالكيماوي حصد أرواح مئة، وذاك الصاروخ الذي أصاب مشفى أنهى حياة سبعين، ودُمّرت قافلة مساعدات ودّمرت معها حياة عشرين… وتمر الأرقام كعداد لا نهاية له، وبلا حساب، ولا محاسبة، ويُدفن تحت التراب العشرات، كل يوم، وربما كل ساعة، في قبور بشواهد، وقبور دوارس، قتلى معروفون ومجهولون، يُصلًى عليهم ولا يُصلّى، يعرف أهلهم بمصيرهم ولا يعرفون.
صار الروسي والإيراني والعراقي واللبناني يُقاتل في سورية، ويَقتُل، ومعه الأفغاني والتونسي والجزائري والشيشاني، يهجرون بلدانهم وبيوتهم وأُسرهم وابتسامات أطفالهم؛ ليأتوا إلى “ساحات الوغى”، قاتلين أو مقتولين، ولا أحد منهم يعرف هوية من سَيَقتُل ولا هوية قاتِله، وفي الغالب، لا يعرف لماذا يَقتُل ولا لماذا سيُقتل، أهو الهدف الديني أم دنيوي، في لعبة موت سهلة ومجانية لا تنتهي.
صمتُ المجتمع الدولي عما يجري في سورية، هو أيضًا نوع من أنواع استسهال القتل، ومجانيته، فحتى إعلامه ملّ من ذكر أعداد القتلى في سورية، فلا مقتل مئة أو مئتين يستحق “مانشيتًا” صحفيًا، ولا قصف مدرسة أو مستشفى أو حضانة أطفال يستحق فعلًا حازمًا، فالموت هناك، في سورية، أمر عادي، وبما أن هناك ملِكَ موت يحوم، فليحم فوق سورية، وليقبض أرواح من يريد، فرديًا وبالجملة، فكل شيء هناك مُباح، والموت والقتل هناك مجاني، لكل الأطراف، وبكل الأدوات.
ثمة أم هنا، وحبيبة هناك، وأطفال صغار بعمر الورود، ينتظرون عودة الغائب، من كل الأطراف، يريدونه سالمًا لا غانمًا، إن كان هناك مجال للاختيار، لكن من يستمع لمن؟
وعلى الرغم من أن إلقاء دلو في نهر لن يزيد من تدفقه، إلا أنه، وللتاريخ على الأقل، لابد من التأكيد، أن استسهال القتل، ومجانيته، واحدة من “إنجازات” النظام السوري، العديدة جدًا، والمتنوعة جدًا.

“المدن”