الرقة.. الفناء الخلفي لمعركة الموصل


المدن

يعيش سكان مدينة الرقة، العاصمة المزعومة لتنظيم “الدولة الإسلاميّة” في سوريا، زمنًا وإيقاع حياة مختلفين، أو ما يمكن أن توحي به تصريحات يومية لوزراء دفاع وخارجية لدول مؤثرة في الملف السوري حول معركة استعادة الرقة.

ومع كثرة وتواتر التصريحات حول قرب تشديد الحصار على الرقة، وهي محاصرة ومعزولة فعليًا من الشمال والغرب والجنوب منذ قطع الجيش السوري الحر مدعومًا بقوات تركية آخر منفذ بري لتنظيم “الدولة” مع تركيا عبر جرابلس في 24 آب/أغسطس، وسكان الرقة يجدون أنفسهم معزولين عن العالم الخارجي وعاجزين عن التحرك أو التوجه بفعل حصار مُشدد يفرضه التنظيم على التنقل والأخبار والمعلومات.

وحيث لا تتوفر في مدينة الرقة سوى أربعة مقاهي إنترنت للعموم، يُديرها موثوقون مقربون من “داعش”، فقد واصل التنظيم خلال الأيام القليلة الماضية حملة إزالة وتحطيم مستقبلات البث الفضائي.

هذه الحملة، المستمرة منذ شهور، وضع لها التنظيم خطة تنفيذية مُنظَّمة من ثلاثة مراحل؛ في المرحلة الأولى دعا الناس إلى تحطيم هذه الأجهزة طوعًا، ثم ألزمهم في المرحلة التالية بتسليم هذه المستقبلات عند تسديد ما يترتب عليهم من فواتير كهرباء أو هاتف، لينتقل في المرحلة الأخيرة إلى تقسيم المدينة إلى أحياء وتسيير دوريات “الحسبة” فيها كي تصادر الأجهزة من سطوح البيوت عنوة بعد معاينتها بيتًا بيتًا.

ولم يبقَ لعموم سكان المدينة من مصادر معلومات وأخبار مُجازة سوى تلك التي تبثها شاشات عملاقة نصبها التنظيم في ساحات المدينة تصوِّر معاركه ومشاهد قتل المخالفين والمقاتلين الأعداء، إضافة إلى نشرات أخبار وتحليلات مطبوعة يوزعها عناصره باليد تعكس رؤية التنظيم.

لكن النتائج الجانبية لمعركة الموصل بدأت تنعكس بشكل يومي أكثر وضوحًا خلال الأسبوعين الأخيرين، رغم برود جبهات القتال حول الرقة وندرة الضربات الموجهة من قبل قوات “التحالف”. فقد بدأ تدفق أسر قادة ومقاتلي التنظيم، مهاجرين وعراقيين من القائم والقيارة، إلى الرقة منذ 13 تشرين الأول/أكتوبر، الأمر الذي أضاف عبئًا إضافيًا على ما يُسمى “ديوان العقارات” المُكلف باستقبال وإسكان هذه الأسر. “ديوان العقارات” وَفّر بعض الشقق في “السكن الشبابي” شرقي المدينة بعد أن طرد منها أسر عناصر من أنصار التنظيم، بعضهم من أبناء الرقة، وبعضهم من أبناء مدينة منبج كانوا قد حلوا بها بعد انسحاب التنظيم منها منذ شهرين، فيما استقبلت أُسَرُ عناصر مُهاجرين عراقيين، وأقرباء وأنسباء لهم، في بيوت كان قد استولى عليها التنظيم في وقت سابق في محيط محطة القطار في الجزء الشمالي من المدينة.

“التحالف الدولي” وجّه خلال هذه الفترة ضربة وحيدة إلى ما يُعتقد أنه هدف هام، ربما أحد قادة التنظيم، وصل إلى الرقة لإيداع أسرته. الغارة التي نفذها الطيران، استهدفت “السكن الشبابي” في 18 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد خمسة أيام فقط من وصول أول دفعة من أسر قادة ومقاتلي التنظيم إلى الرقة، من دون أن تتضح حقيقة ونتائج هذه الغارة بسبب العزلة التي تتمتع بها هذه المنطقة وخلوها المطلق من السكان المحليين.

وفي موازاة ذلك نقل التنظيم أكثر من سبعين معتقلًا، من النساء والرجال، من سجونه في الموصل إلى الرقة، حسب إفادة أحد شهود العيان. والمُعتقلات هن 22 امرأة، منهم 13 أيزيدية وتسع سوريات، فيما المعتقلون هم 49 رجلًا، سوريين وعراقيين وأجانب، وزعوا إلى مجموعات صغيرة وُنقلوا إلى جهات مجهولة، يُرجح أنها معتقلات التنظيم السرية في الرقة وريفها.

وفي نهاية تشرين الأول/أكتوبر، نقل التنظيم خريجي آخر دورة من دورات “أشبال الخلافة”، ممَنْ خضعوا لإعداد عقائدي وعسكري في “معسكر أشبال الزرقاوي”، من الرقة إلى الموصل، للمشاركة في المعركة هناك. وتخرّج من تلك الدورة، خمسون طفلًا ومراهقًا لا يتجاوز عمر أكبرهم 17 عامًا، وينتمون حصرًا إلى أسر مهاجرة، ويُشكلون الدفعة التاسعة من خريجي “معسكر أشبال الزرقاوي” الذي أقامه التنظيم في منطقة المحمية الطبيعية للغزلان السورية في منطقة “الكرين”، التابعة لمدينة الطبقة في ريف الرقة الغربي.

الرقة، التي تكاد تخلو اليوم من سكانها الأصليين، تحولت خلال الأعوام الثلاثة الماضية إلى مستعمرة استيطانية بشكل يتناسب مع وفود المقاتلين الجوالين ومع خسارة التنظيم للمزيد من الأراضي التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما من مراحل تمدده وتوسعه. ويبدو أن ما ينتظر المدينة، ومَنْ بقي فيها من أبنائها، قد يكون مصيرًا قاتمًا ومأساويًا، فإما دروع بشرية لأشباح لا يعرفونها، أو فارين إلى مجهول أقسى وأمر.

(*) كاتب سوري




المصدر