on
الصورة الفيسبوكية لليأس السوري
العربي الجديد
عند استعادة الحديث عن الأعوام الأولى للحراك السوري، يميل كثيرون إلى الحديث عن أن الشوارع “غصّت” بالشباب السوري، في المظاهرات والوقفات السلمية. لا شك أن الحراك كان موجودًا وفعالًا، خصوصًا في العام الأول، قبل التحول إلى خطاب تسليحي علني. ولكن جدلًا ليس قليلًا كان يتناول أعداد هؤلاء الشباب، ونسب المشاركة.
والحقيقة أن هذا الجدل غير منصف إطلاقًا، إذا اقتصر على “الشارع” بمعناه الحرفي، فلم يكتف الشباب الناشط السوري بالعمل على المظاهرات وحسب. كان عدد كبير منهم من الأوائل المشاركين في تخطيط الأنشطة المدنية، وإنجاز نشاطات فنية بصرية (غرافيتي مثلًا) أو موسيقية، فيما انهمك جزء كبير منهم في مساعدة الوافدين وتأمين احتياجاتهم والمناصرة عبر مجموعات وصفحات “فيسبوك” أطلقوها من باب “الفزعة” لمساعدة إخوتهم السوريين في المدارس والملاجئ، أو ممن لا مكان لهم. شهدت تلك الفترة الوسيطة حضورًا راسخًا لتشارك الهم السوري والمعاناة الإنسانية التي جمعت السوريين في مناطق مختلفة، وتجدر الإشارة إلى أن النظام الحاكم نفسه، في تلك المرحلة من الانفجار التاريخي، لم يملك إلا ترك هذه المجموعات تعمل على تنظيف الفوضى التي خلفتها سياساته العشوائية. وبذلك، كان في كل محافظة أو مدينة عشرات المجموعات التي تعمل في مبادراتها المستقلة قصيرة الأمد، من جمع بطانيات إلى تأمين ألبسة أو مساعدة في تحضير مراكز الإيواء. بدا وكأن هذا الحشد من الشباب السوري المنتشر كان الطرف الذي حال دون انهيار المجتمع فجأة ودونما إنذار، والأهم أنهم قدموا كل تلك الجهود من دون طلبٍ من أحد.
هناك سببان كبيران أديا إلى تراجع هذه الظاهرة، فمن جهة أولى، كان أغلب هؤلاء الشباب يتطوعون بجهودهم أو بأموالهم في محنةٍ سوريةٍ، افترضوا أنها ستدوم أسابيع أو ربما بضعة أشهر. ليس من المستغرب أن نسبة كبيرةً منهم قد استنفذت لاحقًا، وأعلنت عجزها عن الاستمرار في هذه الحلقة المفرغة، خصوصًا مع تداخل أدوار “المساعدين” و”المحتاجين”. تعرّض بعض هؤلاء، عاجلًا أم آجلًا، لخسارات متلاحقة، ماديًا ومعنويًا ونفسيًا، من دون تعويض أو مساعدة أو أمل بالحل.
من جهة ثانية، بعد انقشاع غبار الفوضى في عدة مناطق من سورية، عاود النظام السوري ترتيب أولوياته للتحكم بتفاصيل العمل المدني بالترغيب والترهيب، فشدد التضييق على أغلب ناشطي العمل المدني باتجاه العمل تحت “سقف الوطن”، أو الهروب خارج البلاد.
في العامين الأخيرين، اختفت تلك المجموعات التي كانت تعمل بجد في تأمين أوضاع النازحين في سورية، أو العمل على حمايتهم، وانتشر ناشطوها في أصقاع الأرض، متجهين نحو الخلاص الشخصي والهروب من الجحيم السوري إلى أبعد ما يمكن. لكن، حينما عبر كثيرون منهم هذه المرحلة، عاد ذلك النشاط بصورة أخرى، بل بهدف آخر تمامًا: إخراج باقي السوريين من الجحيم ذاته، فظهرت من جديد المجموعات التي تنذر نفسها لمساعدة السوريين، إنما لتقدّم، هذه المرة، خدمات تبدأ من تأمين المنح الدراسية، إلى تأمين العمل للاجئين، وصولًا إلى تيسير خدمات تزوير الأوراق الرسمية للسوريين وتقديم المساعدة والإرشاد في دول اللجوء. وتخصصت عشرات المجموعات في “فيسبوك” في (لم شمل السوريين) و(تهريب السوريين)، فيما تخصصت صفحات أخرى في ملاحقة وعرض تفوق سوريين عديدين في بلاد اللجوء دراسيًا أو أخلاقيًا أو علميًا… وما تزال هذه المجموعات تتكاثر بالعشرات، بشكل تطوعي وغير مأجور في معظم الحالات.
إنه اليأس يعلن نفسه، اليأس من أن المأساة السورية قابلة للإصلاح. هو انتصار خيار “الوطن الكريم” على خيار “الوطن السوري”، مع محاولات جميع أطراف النزاع التأكيد على استحالة اجتماعهما.
(*) ناشطة سورية
المصدر