دروز سورية في عيون أميركية


شوكت غرز الدين

مقدمة: نشر «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، مقالًا لزميل زائر في المعهد هو «فابريس بالونش» (Fabrice Balanche)، بعنوان «الدروز والرئيس الأسد: حلفاء استراتيجيون»، بتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2016. وزودّ الكاتب مقاله بخريطة وأرقام إحصائية ليُظهِر المقال ظهورًا محايدًا وعلميًا.

ولأهمية هذا المعهد في إرشاد سياسة الولايات المتحدة الأميركية واستراتيجيتها، بواسطة المعرفة التي يقدمها، من جهة أولى، وللمغالطات التي في المقال، والتي تؤسس لمعرفة خاطئة، وبالتالي سياسة خاطئة تجاه السوريين، من جهة ثانية، سأحاول أن أناقش المقال؛ لنتعرف على أنموذج من الرؤى الأميركية عنّا، لعلّ السوريين يتعرفون على بعضهم بعضًا بعيون واقعية لا بعيون أميركية؛ فالمعرفة تؤثر في رسم السياسات سواء أكانت معرفة صحيحة أم معرفة خاطئة، وكلما كانت المعرفة صحيحة اقتربت السياسة من العقلانية والواقعية وابتعدت عن الأوهام. ولا مناص من المتابعة والمجابهة والتناصت لتقريب معرفتنا من الواقع أولًا، وعدم الانجرار وراء ما يدعى خبراء وباحثون ومختصون غربيون ثانيًا. فمن تجربتنا في السنوات الأخيرة مع أطروحات هؤلاء، نجد أنه غالبًا ما تكون المعرفة التي يقدمونها ضبابية ومغرضة ومتعالية عن الواقع.

دروز سورية في عيون

عن المعهد: تأسس معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عام 1985، من قبل مجموعة صغيرة من الأميركيين الملتزمين بتعزيز مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبحسب «محمود أيوب» تأسس من لجنة العلاقات الأميركية – الإسرائيلية المعروفة اختصارا بـ «أيباك». وبحسب موقع المعهد الإلكتروني فإنه «يسعى لتعزيز فهم متوازن وواقعي للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، ودعم السياسات التي تضمن سلامتها». وبكلام آخر: إنَّ من جملة أبحاث المعهد تقدِّيم معرفة عن السوريين؛ لتوظيفها في سياسات تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها؛ ولذلك؛ يشوب المعرفة التي يقدمها عَنّا كثيرًا من الشوائب التي تصبّ في غير مصلحتنا نحن السوريين.

عن الكاتب: أما عن كاتب المقال، فابريس بالونش، فهو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في جامعة ليون2، وزميل زائر في معهد واشنطن. يتقن العربية والفرنسية فضلًا عن لغته الأم. له عديد من المقالات في الشأن السوريّ مثل: «من سيستولي على مدينة الباب؟»، «القصف الأميركي في دير الزور: التداعيات على الأرض»، «ماذا سيحمل العالم الثاني لتدّخل روسيا في سوريّة؟»… باختصار، إنه يقدم معرفة ونصائح لإرشاد أصحاب القرار في الولايات المتحدة.

ملخص المقال: يرى الكاتب أنَّ الدروز حلفاء استراتيجيون لنظام الأسد، وقد قاموا بإقامة الحواجز وقطع الاتصال فيما بين المناطق الثائرة وسمحوا للنظام باستخدام المطارات لقصف جيرانهم. فالدروز أقليّة محايدة عمومًا في الحرب الدائرة في سورية. ولم تستطع قوى الثورة والمعارضة كسب هذه الأقليّة إلى جانبها، وإنما استطاع نظام الأسد كسبها إلى جانبه؛ وذلك من خلال استغلال أخطاء قوى الثورة والمعارضة في عدم طرح العلمَانية، وعدم الترحيب بالدروز في قوى الثورة إلا بعد أن يرتدوا الثوب الإسلامي النمطي، كما حدث مع دروز أدلب، وفي توظيف تخوف الدروز عمومًا من النصرة وداعش لصالحه.

ومن هنا يرى الكاتب أنَّ الدروز تحولوا من الحياد إلى التحالف مع الأسد استراتيجيًا؛ ولذلك 1-  قامت ضواحي دمشق، كجرمانا وصحنايا، بقطع الارتباط بين الغوطتين، الغربية والشرقية. 2- وقامت القرى الدرزية في جبل حرمون، كحضر وحرفة وعرنا، بقطع الاتصال بين درعا والقنيطرة وبين القلمون. 3- وقامت محافظة السويداء بقطع الطريق بين المتمردين في الأردن وبين سوريّة، فضلًا عن استخدم النظام مناطقهم في السويداء لقصف درعا وحماية وجود قواته فيها. مبينًا هذه الأطروحة مثلثة الأطراف بخريطة عن تواجد الدروز في سوريّة ودورهم الاستراتيجي كحلفاء لنظام الأسد. ولأن النظام لا يدافع عن السويداء بقوة، فقد كلّف المليشيات المحليّة البالغة 10 آلاف بحسب الكاتب، في الدفاع عن السويداء، وعقد اتفاقًا مع “مشايخ العقل” في السويداء لكي يخدم ابناؤها خدمتهم العسكرية ضمن حدود محافظة السويداء.

ويرى الكاتب -أيضًا- أنه لا يزال الحل المتوفر أمام الدروز بربط مصيرهم كليًا بمصير الأسد حلًا غير مرضٍ؛ لأن سقوط الأسد سيترك الدروز في مهب الريح. وتمثل الحلول البديلة التي تم النظر فيها في الماضي في إقامة منطقة مستقلة في “جبل الدروز” مع حدود مفتوحة مع الأردن تحت حماية دولية حلًا مستقبليًا يجب التأسيس له.

ويختتم دراسته بمقترحات للإدارة الأميركية حول الدروز ومكانتهم الاستراتيجية كما يعتقد بقوله:  “من الصعب فصل “جبل الدروز” عن نظام الأسد بقوة الإقناع وحدها. ولا يمكن كسب ولاء الدروز ما لم تنقطع صلتهم عن دمشق، وحتى في هذه الحالة سيحتاجون إلى ضمانات ملموسة وفعلية بأن القوى الدولية ستحميهم من التنظيمات الجهادية مثل «جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية»… ومن هذا المنطلق، إذا كانت واشنطن وحلفاؤها يريدون لهذه الأقلية الاستراتيجية أن تلعب أي دور في الإطاحة بالنظام أو في إنهاء الحرب بشروط ميسّرة، فلا بدّ لهم من طمأنة الدروز المحليين بشكل واضح بأنّ لديهم مستقبلًا آمنًا في سورية من دون رعاية الأسد”.

ملاحظات وأسئلة استنكاريّة: تستمد مكانة الدروز الاستراتيجية أهميتها حسب الكاتب من الجغرافيا السياسية التي يشغلونها. وهذه الجغرافيا السياسية هي التي تساعدهم ليشكلوا حاجزًا بين المناطق السنيّة الثائرة والمتمردة ويقطعون الأوصال فيما بينها. وهذا الأمر غير صحيح وغير وارد استنادًا إلى الواقع والخريطة التي يرفقها الكاتب في المقال. فكيف لصحنايا ولأشرفية صحنايا أن تحجز مدينة داريا وتفصلها عن الغوطة الشرقية وهما يحدانها من الجنوب فقط؟! بينما المناطق السنيّة كالقدم والميدان ونهر عيشة على حدودها الشرقيّة. وكذلك كيف لقرى حرمون الدرزية أن تفصل بين درعا وبين القلمون؟!

أجل نوافق الكاتب بالمكانة الاستراتيجية للدروز، ولكن بخلافه نرى منبعها مختلفًا ولا نضخمها كما يفعل. فللدروز مكانة استراتيجية كما للمكونات الأخرى في سوريّة، ولكنها تنبع من ولائهم الوطنيّ وولائهم العروبيّ وولائهم الإسلاميّ. وهذا الولاء مثلث الأطراف لا تخطئه عين على مدار تاريخهم في سوريّة. إنهم مشاركون أساسيون في مقارعة الاستعمار للدفاع عن بلدهم سوريّة ورفض تقسيمها بأي صورة من الصور، وبالوقوف مع جميع القضايا السوريّة العالقة كقضية استعادة الجولان ولواء إسكندرون وقضية التقدم في سوريّة، وكذلك في قضية الوحدة العربية وتبنّيها وتبني قضية فلسطين، كما في كونهم مذهب إسلاميّ يحمون الثغور العربية والإسلامية تاريخيًا. ومثل هذه القضايا الكبيرة هي ما تبناها القوم الأكثري أساسًا، أي السنّة، وكان التحالف سيد الموقف بين السنّة والدروز تاريخيًا.

وبالرغم من مقاربة الأرقام الاحصائية، التي يوردها، من الواقع، ودقة الخريطة عن توزع الدروز جغرافيًا، إلا أن تفسير هذه الأرقام والاستناد إلى هذه الخريطة هو عمل غير محايد ومغرض؛ لأنه يفترض أن الدروز مجموعة مصمتة قد حمت دمشق، وقطعت الأوصال بين الثوار، وأنها بحاجة لحماية دولية رأينا ما يشبه هذه الحماية في كوباني أو عند الأزيديين. ولم يذكر الكاتب دروز الجولان المحتل إسرائيليًا ورفضهم الهوية الإسرائيلية، ولا دروز حيّ التضامن الذي هدّمه النظام فوق رؤوس ساكنيه واضطروا للنزوح إلى السويداء. إنه مقتنع أن الحاضنة الاجتماعية الموالية او المعارضة تستطيع تقرير التموضع العسكري والأمني وتقرير سلوكه. وكأن القواعد الجويّة الموجودة في مناطق سنيّة أو علويّة أو كرديّة… لا تسهم في القتال مع النظام رغمًا عنهم، وكأن الحاضنة الأهليّة الدرزية أو غيرها هي من تقرر استخدام القواعد الجويّة من عدمه!

هل فعلًا الوضع كما يصوره الكاتب؟! الجواب لا ببساطة؛ لأنه حسب الخريطة التي يعتمدها الكاتب عن أماكن انتشار الدروز، يظهر كيف لا يمكن لصحنايا وأشرفيتها إعاقة داريا عن الاتصال بالغوطة الشرقية، ويظهر كيف لا يمكن لوجود الدروز في حرمون أن يعيق تقدم المتمردين إلى القلمون، وحتى جرمانا التي تحاذي المليحة من الغرب لا تقطع الأوصال بين الغوطتين. وهذا يجانب حقيقة أن أعلب المناطق حول دمشق هي بيد النظام. وهو وعملاؤه المتنوعون من يقطعون الطرق والاتصالات والإمدادات، ولا تقوم بذلك الحاضنة الاجتماعية أو أحد مكونات الشعب السوري كما يحلو لبعضهم تصوير الوضع.

خاتمة: إنها رؤية تعدّ الدروز مجموعة مصمتة تقف على نسق واحد فيختزل وجودهم العياني في مجردة أثيرية ترتبط بخياراته لزاوية الرؤية. ويضخِّم دورهم الاستراتيجي في حماية دمشق وتقطيع الأوصال فيما بين المناطق الثائرة، وبالتالي تضخيم دورهم في الإطاحة بالنظام أو إيجاد تسوية ميسرة.

وكذلك هي رؤية ترى السوريين طوائفَ وأقوامًا متناحرة؛ أي نُتفًا وجزرًا منعزلة تحتاج الحماية الدولية، ولا تراهم شعبًا تليق به الحرية والكرامة في دولة وطنية ذات نظام ديمقراطي. وتهمل إهمالًا مقصودًا النسبة والتناسب بين الأفعال المساندة لنظام الأسد وبين عدد السكان. فكم قدّم الدروز من الرجال والمال لدعم النظام وعددهم حوالي 700 ألف نسمة؟ إنها نسبة تكاد لا تذكر في الواقع، ولم تتم عن قناعة عامّة بل بالصدفة والإجبار. فالامتناع عن الالتحاق بجيش النظام موقف عامٌّ وأهليّ لا نخبوي عند الدروز؛ لغياب القضية الوطنية وحضور القضايا الشخصية. وقد فُرض هذا فرضًا على النظام الذي حاول الالتفاف عليه بكثير من الطرق ولم يستطع، ومنها طريقة أن يخدم الدروز ضمن السويداء ولم يستجب إلا القلة القليلة منهم.

وتبرز مشكلة الحاضنة الاجتماعية كمبرر للقتل والقصف والتنكيل، بحسبان أن الحاضنة هي من تقرر استخدام المطارات في منطقتها، وهي من تقرر الخطط الهجومية! وواقع الحال أن الحاضنة مرتهنة ومخطوفة ولا تستطيع تقرير شيء. ومعاقبتها من أكبر المسائل التي أوصلت السوريين إلى هذه النتائج البائسة. والتناقض واضح وغير مبرر عنده؛ فالدروز بحسبه محايدون، ولكنهم حلفاء استراتيجيون، وهم يريدون العلمانية تحت الحماية الدولية، وفي الوقت نفسه، هم طائفة صغيرة لا تقرر مصير سورية إلا بالدعم الأميركي لا بالتشارك مع باقي مواطنيها…

يقوم مقال الكاتب على مغالطات عديدة لإبراز المكانة الاستراتيجية للدروز. ويخبرنا كيف فصلوا بين المناطق الثائرة وكيف حموا العاصمة دمشق من تقدم الثوار، وكيف أنهم إذا طمأنتهم أميركا وحمتهم سيسقطون النظام، أو على الأقل سيصلون إلى تسوية للوضع… إنه يعتقد أن الدروز هم سوبرمان أو “سوبر طائفة”، أفشلت الثورة وقضت عليها وتحالفت مع الأسد. فينسى أن السياسة هي علاقات موضوعية بالدرجة الأولى؛ ليقنعنا بخزعبلات الإرادوية والحماية الدولية والانفصال.




المصدر