on
على الكتائب الإسلامية الخروج من المأزق الذي وضعتنا فيه
رشيد الحاج صالح
لم يعد من الممكن التفكير في استمرار الثورة، التي تعاني من أوضاع معقدة تكاد تودي بها، دون قيام الكتائب الإسلامية المُحاربة للنظام الأسدي بتقييم شامل لمجمل أوضاعها في سورية هذه الأيام، وإعادة النظر في جدوى الصراع العسكري الذي تخوضه ضد النظام الأسدي وإمكانية نجاح ذلك الصراع. وهذا يعني التفكير في مجمل الثورة، وضرورة أن تقرر تلك الكتائب هل هي، في النهاية، مع الثورة أم تندرج في إطار الثورة المضادة.
نقول ذلك؛ لأنه بات من الواضح لغالبية السوريين الذين يتبنون الثورة أن هناك “مأزق كبير” تعاني منه تلك الكتائب، مثل ما يعاني منه النظام نفسه. ويتمثل هذا المأزق في وصول الصراع العسكري مع النظام الأسدي إلى آفاق شبه مسدودة، نتيجة مراوحة الصراع في مكانه لسنوات عديدة، وحتى تراجع تلك الكتائب في عدة أماكن، فضلًا عن الدمار الذي يحدثه طيران النظام والطيران الروسي في المناطق التي تقوم تلك الكتائب بتحريرها (ريف حماة الشمالي قبل أسبوعين، وحلب خلال الشهر الماضي)، وحالة الكر والفرّ التي تجعل في النهاية المنطقة المتنازع عليها يبابا ومجرد أطلال.
طبعًا لا بد من التذكير بأن طريق عسكرة الثورة لم يكن خيار السوريين في ظل وجود خيارات أخرى متاحة. فعسكرة الثورة كانت خيار السوريين تحت ضغط قتل المدنيين بأعداد كبيرة في الساحات والشوارع العامة وعلى مداخل الجوامع أثناء المظاهرات والتجمعات الشعبية، الأمر الذي جعل من المظاهرات والاعتصامات أمر شبه مستحيل. فأتى تشكيل كتائب مسلح لحماية المتظاهرين من القتل بدم بارد أولًا، ونتيجة انشقاق الجنود الذين رفضوا إطلاق النار على المدنيين ثانيًا. غير أن ذلك لا يعني أن النظام لم ينجح في عسكرة الثورة، لأنه يعتقد أنه يستطيع الانتصار إذا ما تحولت الثورة السلمية لتصبح بيد الكتائب المسلحة، وبالتالي فإن السير في طريق العسكرة وحده يعني أننا سائرون في الطريق الذي رسمه النظام لمواجهة الثورة. وهنا تأتي أهمية التفكير في خيارات أخرى. والتفكير في خيارات أخرى لا يعني التخلي كليًا عن العسكرة بالضرورة، لأن إلقاء السلاح في هذه المرحلة هو عمل شبه انتحاري، ولكن يعني أن العسكرة وحدها أمر لا طائل منه.
وعلى ذلك، لا بد من أن يكون واضحًا لدى تلك الكتائب أن عدم الوصول إلى هدف ما عن طريق معين يعني ضرورة التفكير في طرق أخرى، والتعنت والإصرار على طريق الدمار والخراب، والتمويه على ذلك بشعارات دينية وسياسية ليس لها أي معنى لدى السوريين أمر لا طائل منه. وهذا التفكير التقييمي يحتاج إلى جرأة وحس عالي بالمسؤولية. لأنه يتطلب نقدًا ذاتيًا أولًا، والتفكير في طرق لم تكن في الحسبان ثانيًا، واللجوء إلى خيارات قد تحمل قدر كبير من المخاطرة والمجهول ثالثًا، وتغيير في خارطة التحالفات رابعًا، وتغيير في مسلمات التفكير بالثورة من الأساس خامسًا.
إن للأسلوب الذي يتم بموجبه محاربة النظام الأسدي مساوئ كبيرة تفوق حسناته بأضعاف مضاعفة. سيما وأن تطورات السنة الأخيرة بيّنت للسوريين، بما لا يجعل هناك مجال للشك، أن هناك خطًا أحمر وخطان أخضران على الجميع العمل ضمنها. وأما الخط الأحمر فيتمثل في عدم السماح لأي طرف من الأطراف المتنازعة بتحقيق نصر كاسح ومبين، الأمر الذي يعني استمرار الصراع لأمد غير معروف، تحدده القوى الدولية الفاعلة. وهنا يبدو من الواضح أن آماد الصراع ستطول لأنه لا يبدو أن أحدًا مهتم بالإسراع في إنهاء النزاع طالما أن القتل والتدمير ينال من السوريين وحدهم ولا يطال أي طرف آخر.
وأما الخطان الأخضران فيتمثل أولهما في أن سقف التدمير والقتل مفتوح على مصراعيه، ودون أي رادع محتمل. وهذا واضح من طريقة تجاوب القوى الدولية مع مجازر النظام الأسدي والخراب الذي تتركه طائراته (أخرها تدمير جزء كبير من حلب). أما الخط الأخضر الثاني فهو ترك الباب مفتوحًا لكل الدول الفاعلة للتدخل في سورية بالطريقة التي تريدها ووقتما تشاء. وهذا يشمل إيران وروسيا والخليج وأميركا وتركيا والعراق وأوروبا، وحتى لبنان، أما تعداد جنسيات المقاتلين الأجانب الذين جلبهم كل من النظام والكتائب الإسلامية فتحتاج لصفحة كاملة على الأقل.
وعلى الرغم من أن الكتائب المسلة تخوض معارك ضارية مع النظام الأسدي في أماكن عديدة وتحقق ضربات موجعة ضده إلا ان التفكير الهادئ يبين بوضوح أن تلك الانتصارات تذوب من بين يد السوريين كما يذوب الملح في الماء. فالمناطق المحررة إما تذهب إلى (داعش) بعد عدة أشهر من تحريرها (الرقة، دير الزور، مناطق واسعة من الحسكة وشمال حلب، وريف حمص الشرقي..) أو تتحول إلى مناطق تتنازع عليها الكتائب الإسلامية نفسها، حيث تتراجع أسباب الحياة إلى أدنى مستوياتها. وفيما يتعلق بالصراع بين الكتائب الإسلامية، وبكلام أكثر وضوحًا بين الكتائب الإسلامية السلفية الجهادية، إي الصراع العسكري “داخل البيت السني”، فمن الواضح أنه في تزايد مستمر، وأنه أصبح يؤثر مؤخرًا بشكل كبير في حسم معارك كبيرة. فالمعارك التي اندلعت في ريف حماة بين جند الأقصى وحركة أحرار الشام الإسلامية الشهر الماضي أفشلت معركة حماة، ووضعت شكوك كبيرة في اختراق تلك الكتائب من قبل النظام، مثلما أن المعارك التي خاضها جيش الإسلام في غوطة دمشق مع كتائب إسلامية وغير إسلامية، والمعارك التي تندلع من حين لآخر بين تلك الكتائب، والتي تفاجئنا يوميًا، أودت بحياة المئات من المدنيين و”الجهاديين”، وسمحت للنظام بالتقدم في مناطق عديدة، ومكنته من حصار بعض الأماكن والعمل على ترحيل سكانها.
يعود ارتفاع وتيرة الصراعات الإسلامية – الإسلامية ببساطة إلى أنها كتائب تعمل وفق حسابات المكسب والخسارة والاستقواء، والصراع على الغنائم والنفوذ، وهذا يجعل منها كتائب مأجورة تعمل للذي يدفع لها أكثر أولًا، ولا يوجد في ذهنها سوى الحصول على أكبر قدر من المال، لأن المال يجلب لها مزيد من السلطة والنفوذ ثانيًا، وبالتالي ترتفع أسهم الفصيل العسكري نفسه ويصبح مرشح للحصول على التمويل أكثر من غيره، كلما تمكن من الحصول على مزيد من القوة والنفوذ. وهذا يعني في النهاية أن تلك الكتائب ليس لديها أي مشروع يأخذ بعين الاعتبار مطالب السوريين العاديين في العدالة والحرية والعيش بكرامة، بل إن الأمر لا يتوقف عند حد تجاهل تلك المطالب أو المماطلة في أخذها بعين الاعتبار ليتعداه إلى وقوف تلك الكتائب الصريح ضد تلك المطالب. فشعارات تلك الكتائب وكتاباتها على الجدران تحذر وتستهجن كلمات الحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وتحولها إلى كلمات مشكوك في اصلها، وتدخل من يستخدمها في دائرة الشبهة وحتى الخروج من الدين. وهذا واضح من طريقة إدارة تلك الكتائب للمناطق التي تسيطر عليها، حيث القضاء أصبح بيد مجموعة من رجال الدين المتنفذين أو محدودي الكفاءة، مثلما أصبحت أمور الماء والكهرباء والطرق العامة تقوم وفق مبدأ الإتاوات، أما النظام المالي فلا حسيب ولا رقيب. الأمر الذي أدى إلى حصول افتراق كبير بين الجمهور السوري وتلك الكتائب.
ويبدو أن التوتر بين السوريين والكتائب الإسلامية مرشح للازدياد، مثلما وصلت الحرب الكلامية إلى مستويات غير مسبوقة بعد التصريحات الأخيرة للقيادي في جيش الفتح عبد الله المحيسني (حذف تلك التعليقات بعد موجة النقد التي تعرض لها) والتي قال فيها في حسابه على تويتر: “إن نزول البلاء في الشام، من قصف للطيران والتأخر في النصر، سببه انتشار سب الله سبحانه وتعالي بينهم”، الأمر الذي يترتب عليه تحويل بشار الأسد إلى منفذ لذلك العقاب الإلهي ضد السوريين. وطبعا يعرف أهل الرقة أكثر من غيرهم أن هذا الخطاب، وتلك التبريرات تحمل بصمات خطباء داعش وجبهة الشام (النصرة سابقًا) في الجوامع، والذين لا يتركون فرصة إلا ويؤكدون فيها على فسق وفساد وكفر وارتداد السوريين، وهو ما يبرر، بالنسبة لـ (داعش)، تقديم محاربة السنّة على محاربة النظام لأن الأولوية هي لمحاربة الفاسقين وليس الكفار، لأن محاربة الكفار ليس لها أي جدوى إذا كان من يحاربونهم فاسقين.
لقد وصلت حالة العدمية واللاجدوى من المعارك التي تخوضها الكتائب الإسلامية مستويات غير مسبوقة. فنتيجة المعارك في حالة النصر أو الهزيمة واحدة، وهي تدمير المنطقة التي تدور فيها المعارك وتهجير غالبية سكانها: في حالة انتصار مليشيات النظام الأسدي يجري تعفيشها والتنكيل بسكانها، وفي حالة انتصار الكتائب يجري الاستقواء على الناس واعتبارها منطقة غنائم مستباحة، أو منطقة انتظار لصراع مسلح إسلامي إسلامي قادم.
هناك ثلاثة أساليب كبرى تلجأ إليها تلك الكتائب في سورية، وهذه نفس الأساليب التي يلجأ إليها النظام الأسدي (كل الطغاة يلجؤون إليها على مر التاريخ). أول تلك الأساليب هو الاعتماد على أيديولوجية تدغدغ عواطف الناس وتضمن ولائهم، وهذا الأمر يتم من أجل الاستقواء على الشعوب (قد تكون الأيديولوجية قومية أو دينية أو طائفية، وعلى الأغلب أيديولوجية ماضوية)، أما ثاني تلك الأساليب فهو الاعتماد على مصادر قوة خارجية والتشبيك مع أطراف فاعلة تقدم العون مقابل أن تضمن نفوذ ما، أو تمرر مصلحة تعنيها، وثالث تلك الأساليب هو الاعتماد على القوة العسكرية والتخويف في ضبط الشارع العام (أطلق عناصر الكتائب الإسلامية النار على متظاهرين ضدها، وأصبحت لهم سجون معروفة، كما أن عناصرها ينظرون إلى مصطلحات حقوق الإنسان بسخرية لاذعة).
التفكير بطرق مختلفة يعني الحصول على مصادر قوة جديدة أولًا ، ويعني تخليص النظام من أكبر قدر ممكن من مصادر قوته ثانيًا. والنقطة الأولى مرتبطة بالنقطة الثانية. المصدر الأساسي لقوة الكتائب المسلحة هو التمويل الخارجي (لو قُدر للسوريين الراغبين بإقامة حكم مدني ديمقراطي الحصول على دعم لكانوا بقوة الكتائب الإسلامية)، والحصول على التمويل أمر طبيعي، فكل الأطراف في أي نزاع كان تبحث عن تمويل وحلفاء يدعمونها، غير أن الخطأ الكبير الذي وقعت به تلك الكتائب الإسلامية هو تجاهلها لمصادر القوة الأخرى واكتفائها بالتمويل. ومن المعروف في فلسفة السياسة، ومنذ أيام الثورة الفرنسية، أن أهم مصادر القوة هو الشعب أو الناس، فالثورات تنجح بقدر ما تحشد أكبر قدر من المؤيدين وتعبر عن مطالبهم وحاجاتهم. غير أن الكتائب الإسلامية السورية تجاهلت السوريين ومطالبهم البسيطة في العدالة والعيش الكريم تجاهلًا كاملًا، معتمدة على التمويل الخارجي، وأنها في النهاية ليست بحاجة لناس ليس لهم حول ولا قوة، وأنها تستطيع أن تسيطر على الوضع إما عن طريق الترغيب وتزيين وجودها، الذي هو أمر واقع، ببعض الشعارات السياسية (محاربة النظام) والدينية (تطبيق شرع الله)، أو عن طريق الترهيب والقوة العسكرية المباشرة.
لا شك أن تلك الكتائب تشكو اليوم من قلة التمويل وعدم الحصول على أسلحة نوعية، وهذا واضح من عشرات البيانات التي تستغيث فيها لإنقاذها، وشكوتها الدائمة من الطيران الذي تمكن من حسم عشرات المعارك لصالح النظام. السوريون يريدون أن تعود تلك الكتائب لحضنهم وتتبنى مطالبهم وتكون عونًا لهم، وأن تؤمن بثورتهم ومطالبهم في الحرية وأعيش الكريم، وأن يكونوا شركاء لها وليسوا مجرد تابعين. أعتقد أن الكرة الآن في ملعب تلك الكتائب، لأن العودة إلى السوريين أهم بكثير من التمويل الخارجي، ويمنح تلك الكتائب قوة مضاعفة تزيد من قوتها، غير أن تلك العودة بحاجة إلى وقفة صادقة مع النفس، تنظر للسوريين بوصفهم هم أبناء الثورة وهم بيضة القبان في النهاية، أما التمويل فلا يجلب سوى مزيد من التبعية للآخرين والمذلة، ولهم في النظام الأسدي أسوة حسنة.
فلا بديل أمام الكتائب الإسلامية سوى الرجوع إلى حضن السوريين والتصالح مع مطالبهم، والتعامل مع الممولين انطلاقًا من كونهم أبناء للشعب السوري الثائر وممثلين له، وليس بوصفهم مجرد منفذين لأجندات خارجية، وعندها تعرف تلك الكتائب إذا كان الداعمين لها هم داعمين لها أم أن هناك وراء الأكمة ما ورائها. سيما وأن غالبية السوريين أخذوا يشككون منذ سنوات بنوايا الدعمين وغاياتهم من دعم الثورة السورية.
لن يقف السوريون مكتوفي اليد لفترة طويلة، كما أنهم ليسوا وحدهم في أزمة، فالكتائب الإسلامية في أزمة تتمثل في أن أمرها بدأ يفتضح للقاصي قبل الداني، وأن تمويلها يتراجع الأمر الذي يجعل صراعاتها بين بعضها أمر مرشح للازدياد، كما أنها ترتهن لقوى لا تريد إنها الصراع في سورية، ولن تزودها بأسلحة مضادة للطيران، وهو أمر يجعل النظام الأسدي يحتفظ بعنصر التفوق في المعارك العسكرية، أي أن تلك القوى تتخذ من تلك الكتائب وقود لها لا أكثر. أما أزمات النظام الأسدي فحدث ولا حرج وليس أقلها أنه يكاد يتلاشى وتبتلعه المليشيات الطائفية وروسيا وإيران، مثلما أن الداعمين للنظام الأسدي أو للكتائب الإسلامية لديهم أيضًا أزماتهم الخاصة بهم. فالجميع مدرك أن الثورات لم تنتهي، وأنها قد تنفجر، وتستعيد جذوتها في أي لحظة، وما الأزمة التي اجتاحت مصر إثر الكلام الذي تحدث به صاحب “التكتك” سوى خير مثال على ذلك.
المصدر