on
إعادة “تنظيم الدولة”
ثائر الزعزوع
يبدو الحديث عن دولة سورية حقيقية، في ظل هذه الفوضى التي تشهدها، سواء أكانت عسكرية أم سياسية، رفاهية، قياسًا على ما بات يتم تداوله، لا على أطر ضيقة فحسب، وإنما في اجتماعات موسعة تضم مسؤولين كبارًا لدول تبدي حرصها، ظاهريًا، على وحدة سورية، لكنها بشكل أو بآخر تريد التخلص من أعباء هذا الملف الشائك الذي يزداد تعقيدًا كلما مر الوقت، ويفتح الباب واسعًا على مختلف الاحتمالات، ويُشكّل التقسيم بالنسبة لكثيرين حلًا مرحليًا. لا بد منه لأجل وقف النزيف المستمر منذ أكثر خمس سنوات، والحروب المستعرة على مختلف الجبهات، ليُنتقل بعده إلى التفكير في حلول أخرى، تسهم في إعادة تجميع الدولة وفق أسس لم يُفصح عنها، لكنها على كل حال قد تستغرق عقودًا قبل أن تُنفذ، وخاصة إذا ما أخذنا في الحسبان حجم الخراب والدمار الهائل، إضافة إلى ملفات المهجرين والنازحين والمفقودين، وكل هذه ملفات لن يكون حلها في المتناول وسوف تأخذ أبعادًا مختلفة.
وبغض النظر عن “الدولة” التي يتحدث عنها نظام دمشق، والتي تحرص وسائل إعلامه على تصويرها معافاة، ولن تلبث أن تقف على قدميها حال زوال “العصابات الإرهابية المسلحة” كما أعلن ذلك رأس النظام في أكثر من لقاء تلفزيوني أجري معه، إلا أن الواقع يشير -بكل تأكيد- إلى مزق متناثرة يصعب تجميعها، سواء سقط النظام أم لم يسقط، وتشكل الميلشيات المتقاتلة والفصائل المتناحرة التي تقاتل مع النظام أو ضده، والتي أخذت طبيعة الكيانات المستقلة في القرار والتحرك، وتملك كل واحدة منها أجندتها الخاصة ما بين حلم “دولة” أو “إمارة إسلامية” أو “إقليم مستقل”؛ وصولًا إلى أكثرها شراسة وتنظيمًا وهي تلك التي تعمل لتنفيذ مخطط إيراني محكم ساهم التدخل الروسي في دعمه وإسناده، والتي استطاعت أن تتمركز جغرافيًا ضمن خطة إخلاء المناطق من أهلها، فباتت تحيط بالعاصمة دمشق تقريبًا، وهي تسعى للاستحواذ على حلب في حال نُفذ المخطط الروسي الذي سوف يفضي إلى إخراج ساكنيها منها، دون أن ننسى بطبيعة الحال الهيمنة شبه المطلقة لتنظيم داعش على محافظتي دير الزور والرقة، وهو خلق عوامل استقراره وبقائه، وسوف تؤدي معركة طرده من مدينة الموصل العراقية في حال نجاحها إلى تقويته أكثر في سوريا، مع توقع فرار الآلاف من عناصره باتجاه الأراضي السورية، وسيكون موضوع استئصاله من الأرض السورية معقدًا وشائكًا، وسينتج احتمالات جديدة أكثر تعقيدًا.
وإذا كنا قد سمعنا في أوقات سابقة أصواتاً تطالب بضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، فإن تلك المؤسسات نفسها، و حتى في حال تم الحفاظ عليها، فلن تكون قادرة على الإحاطة بالتطورات الهائلة التي شهدتها “الدولة” السورية، فهي مؤسسات واصلت عملها داخل حدود “سورية المفيدة” فقط، وأما خارج تلك الحدود فقد استحدثت مؤسسات مختلفة تماماً لتلائم الشكل أو اللا شكل الجديد الذي وصلت إليه الأوضاع ما بين هيئات شرعية، ودواوين حسبة، وإلى ما هنالك من مسميات، صارت تستوجب التحول إلى نظم مختلفة كليًا عن تلك التي كانت موجودةً أقله؛ حتى بدايات العام 2014، وهو العام الذي بدأ يشهد تغيرات متسارعة، وتحولات جذرية، ما زالت مستمرة ومرشحة للتطور أكثر، و ترافق مع موجات نزوح وتهجير قسري، وصفت بأنها أكبر عملية “عبث” ديمغرافي تشهدها المنطقة، ما خلق مجتمعات جديدة، ستكون مسألة تفكيكها وإعادة الأمور إلى حالاتها الطبيعية رهانًا كبيرًا، يفضل كثيرون عدم التفكير به في الوقت الحالي، فما بالك بوضع تصورات لمعالجته.
وما دام الوصول إلى حل ينهي هذه المأساة أمرًا غير متوقع، أقله في المدى المنظور، وهو يحتاج بكل تأكيدًا لما هو أكثر بكثير من مجرد تحركات دولية خجولة وبيانات واجتماعات من وقت لآخر، فإن “الدولة” مقبلة على مزيد من التفكك و”الخراب” ما يجعل لزامًا على القوى الوطنية السورية، من مؤسسات ومنظمات، أن تسعى لإيجاد صيغ تحافظ على الكيان السوري، ليس من خلال الاعتماد على خطاب وحدة وطنية مترهل وشعارات باتت مرفوضةً، مثل تلك التي ما زال الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أو سواه من الكيانات التي انبثقت إثر اندلاع الثورة، وربما قبلها، تعمل ضمن أطرها الضيقة، بل إنها لم ترق إلى الحالة الثورية التي عصفت بكل ما سبقها، وأطاحت بالأفكار والقوالب الجاهزة، بل وحتى اللغة التي كانت سائدة. ولهذا فإن أي محاولة لإعادة إنتاج ما سبق، أيًا يكن ذلك؛ حتى لو كان ثقافيًا وفنيًا، لن تكتفي بالاصطدام برفض شعبي، بل قد تستدعي العودة إلى حالة التصادم مرة أخرى، ما يقودنا بالضرورة إلى الدوران في حلقة مفرغة، وسيجد الجميع أنفسهم خاسرين، والأكثر قساوة هو أن تتبدد الدولة كليًا ولا تكتفي بالتقسيم بل قد تنساق إلى حروب بين أقسامها.
المهمات أعلاه بكل تأكيد منوطة بمراكز أبحاث، بدأنا في الآونة الأخيرة نشهد ظهورًا خجولًا لعدد منها، تكون قادرة على قيادة الرأي العام وتوجيهه لا السير وراءه واتباع أهوائه وتقلباته كما فعلت المعارضة السياسية طيلة السنوات الفائتة، والتي تحولت من قيادة الجماهير كما تقتضي طبيعتها إلى الانقياد، وهذا ما أدى إلى فقدانها صدقيتها وقيمتها فصار وجودها يساوي عدم وجودها، بل صارت عبئًا ثقيلاً على الثورة وعلى الشعب.
المصدر