on
الصراع على الرقة
حسين عبد العزيز
بعد تردد دام أكثر من نحو عام اتخذت الولايات المتحدة قرارا بفتح معركة الرقة أخيرا، ويبدو واضحا أن إطلاق هذه المعركة ليس منفصلا عن الأزمة الروسية الأميركية في سوريا، بمعنى أنه إذا كان ملف حلب يقترب شيئا فشيئا نحو حاضنة النظام، فإن الرقة لا ينبغي لها أن تشهد مصيرا مماثلا.
لكن إذا كانت أزمة حلب محكومة ببعدها الداخلي الميداني، فإن أزمة الرقة محكومة ببعدها الخارجي السياسي بين ثلاثية تركيا والولايات المتحدة والأكراد، ومن هنا تأتي خصوصية معركة الرقة وإشكاليتها.
غموض عسكري
أن يعلن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر أن عملية عزل الرقة ستبدأ خلال أسابيع، معناه أن ثمة إجراءات عسكرية ضرورية يجب اتخاذها في محيط المحافظة قبيل بدء المعركة.
أولى خطوات عملية العزل هي تنظيف محيط المحافظة من أي تواجد للتنظيم، والمقصود هنا بطبيعة الحال شرق حلب الذي يحد الرقة من الغرب، وليس الحسكة التي تحدها من الشرق كونها خالية من التنظيم.
ثمة مستويان من العملية العسكرية: المستوى الأول عزل المحافظة عن محيطها الخارجي، وهنا سيكون لـ “قوات سوريا الديمقراطية” و “وحدات حماية الشعب الكردي” دور رئيسي فيها، والمستوى الثاني عملية تحرير الرقة ذاتها، ولن يكون للأكراد أي دور فيها وفق ما أعلن مسؤول أميركي وقبله كارتر من أن عملية التحرير يجب أن تقوم بها قوى عربية، وهنا سيكون لتركيا دور بارز وهو ما أكده كارتر أثناء لقائه نظيره التركي عصمت يلماظ “نعمل بشكل كبير مع الجيش التركي في سوريا.. أعطى ذلك نتائج مهمة جدا مع الاستيلاء على دابق في أكتوبر/تشرين الأول”، كما سيكون للعرب في “قوات سوريا الديمقراطية” دور أيضا.
لكن ذلك لا يحل المعضلة القائمة والغموض في التصريحات الأميركية، وهي كيف يمكن لـ “وحدات حماية الشعب الكردي” المشاركة في عملية العزل في ضوء الوقائع على الأرض بعد التغيرات التي أجرتها عملية “درع الفرات” وتقويض التواجد الكردي في شرق حلب باستثناء تواجدهم في مدينة منبج المحاطة بفصائل “الجيش الحر”؟
بعبارة أخرى، لا يوجد حضور عسكري قوي للأكراد شرق حلب بشقيه الشمالي والجنوبي، اللهم إلا إذا كانت واشنطن بصدد التوصل إلى اتفاق مع أنقرة يسمح بعودة الأكراد إلى الجبهة الحلبية على حدود الرقة، وهذا أمر يبدو مستحيلا بعد عملية “درع الفرات”.
لكن ثمة ثغرة إبرة تحاول الإدارة الأميركية الولوج منها، إنها معركة الباب التي مازال مصيرها مجهولا على الرغم من التصريحات التركية من أن المدينة هي هدف لـ “درع الفرات”.
وإذا ما سيطرت فصائل “الجيش الحر” على الباب ثم انتقلت إلى منبج لطرد الأكراد منها، فإن ذلك سيؤدي إلى تصعيد خطير في هذه المرحلة، ويبدو أن عدم خروج الأكراد من منبج الآن ناجم عن موقف أميركي مؤيد، ذلك أن واشنطن لا تفضل أن تدخل “درع الفرات” في العمق السوري (الباب) خشية حصول تصادم مع قوات النظام التي أعلنت منذ نحو عشرة أيام أنها ستتعامل مع التواجد التركي في سوريا على أنه احتلال.
التصريح هو الأول من نوعه منذ بدء عملية “درع الفرات” قبل نحو شهرين، وهذا يعني أن قوات النظام ستضرب هذه القوات إن اقتربت من الباب، الأمر الذي يفسر قيام قوات النظام والطيران الروسي في الآونة الأخيرة باستهداف مواقع الجيش الحر على جبهات القتال ضد التنظيم.
ولذلك تميل واشنطن إلى الاعتماد على الأكراد في عملية ملاحقة تنظيم الدولة في أماكن تواجده في الباب ومحيطها، وربما تكون الصفقة لذلك هي خروج الأكراد من منبج مقابل ترك الأتراك لمدينة الباب، أو على الأقل السماح للأكراد المشاركة فيها.
وما يؤكد الغموض القائم إعلان الرئيس التركي أن الولايات المتحدة لم تجب بعد على الأسئلة حول مشاركة تركيا في معركة الرقة، حيث يبدو أن الإدارة الأميركية لن تصل بعد إلى الصيغة النهائية لتفاصيل القوى المشاركة في العملية وطبيعة دورها وحدودها الجغرافية.
ودون حل أزمة الباب لا يمكن إطلاق معركة الرقة ليس فقط لقطع التوصل الجغرافي للتنظيم بين محافظتي الرقة وحلب، وإنما خوفا من ارتداد التنظيم نحو حلب مع اشتداد المعارك.
جبهة متناقضة
المفارقات الجغرافية والديمغرافية لمحافظة الرقة تقتضي بالضرورة اصطفاف الأطراف المتنازعة في جبهة موحدة مع ضمان حصص هذه الأطراف ضمن الواقع الذي سيلي السيطرة على الرقة.
ومن السيناريوهات المطروحة لهذه المعركة أن يشارك الأكراد والأتراك وفصائل الجيش الحر في صيغة تبدو مستحيلة الآن، لكن الواقع العسكري في الرقة ربما يفرض هذه المعادلة.
الوضع في الرقة يختلف عنه في الموصل، وهذا هو السبب الذي جعل الإدارة الأميركية تؤخر المعركة، ففي الموصل يوجد جيش نظامي يمكن التعامل معه على الأرض ولديه أسلحة ثقيلة كثيرة ويشكل قاعدة خلفية داعمة للقوى المشاركة معه في محاربة التنظيم، أما في الرقة فلا يوجد مثل هذا الجيش، ولا يمكن الاعتماد على فصيل موحد فقط لشن المعركة، فالوحدات الكردية وحدها و”درع الفرات” وحده ليس بإمكانهما خوض معركة بهذا الحجم.
حاولت واشنطن خلال الأشهر الماضية توسيع دائرة المقاتلين العرب بضم مجموعات أخرى في قتال التنظيم، مثل “الجيش الثوري في الرقة”، وعشائر عربية لا بد من تأمين دعمها لإحراز نصر على التنظيم.
بالنسبة لـ “وحدات الحماية الكردية” سيكون لها دور في معركة الرقة ضمن أطراف المحافظة ولن يكون لها دور في عمق المحافظة وعاصمتها تحديدا، وسيترك للقوى العربية داخل “قوات سوريا الديمقراطية” ومجلس الرقة العسكري دور في هذه المعركة.
والتصريحات الكردية واضحة في هذه النقطة، وآخرها ما أعلنه رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صالح مسلم، من أن الأكراد لا يطمحون إلى السيطرة على الرقة، لكن من يسيطر عليها يجب أن يكون صديقا للأكراد.
ومن الواضح أن تركيا والفصائل المدعومة من قبلها سيكون لها الدور الأكبر بسبب الإنجازات السريعة التي حققتها عملية “درع الفرات” وبسب خصوصية الرقة بالنسبة للأتراك.
بيد أن مشكلة المعركة تكمن في توزيع المهام العسكرية على الأرض، فالحدود الشرقية للمحافظة نحو الحسكة محسومة للأكراد و”قوات سوريا الديمقراطية”، أما في الغرب من ناحية حلب، فهنا تكمن المشكلة، الأكراد يسيطرون على المناطق القريبة من الرقة مثل عين العرب ـ كوباني وعلى منبج، ويسيطرون على تل الأبيض داخل الرقة في الشمال على الحدود التركية، في حين تنتشر فصائل “الجيش الحر” غرب الفرات على مسافة بعيدة من الرقة.
وعليه فإن المجال الجغرافي الذي ستتحرك فيه تركيا ما زال غامضا إلى الآن، ولا يوجد سوى احتمالين: الأول أن يعبر الحر شرق الفرات ويتقاسم جبهة حلب ـ الرقة مع القوى العربية في “قوات سوريا الديمقراطية”، بحيث يكون الجزء الجنوبي من نصيبه، ويكون الجزء الشمالي من نصيب “قوات سوريا الديمقراطية”، الثاني أن يدخل الأتراك معركة الرقة من الأراضي التركية، لكن هذا الاحتمال يتطلب دخولا عسكريا مباشرا، ويتطلب أيضا إنهاء السيطرة الكردية على الشريط الحدودي للرقة مع ما يعنيه ذلك من قضاء على التواصل الجغرافي للأكراد في شرق الفرات (الحسكة ـ الرقة).
وهذه مرحلة لا يبدو أن الولايات المتحدة وصلت إليها خشية من انفراط عقد تحالفها مع الأكراد، ذلك أن الأكراد قد يتحملون تقسيم تواجدهم غرب الفرات، ولا يتحملون ذلك في شرق الفرات.
تواريخ مفتوحة
إذا كانت عملية عزل الرقة ستكون خلال الأسابيع المقبلة، فإن المعركة داخل الرقة ما تزال بعيدة، لأسباب مرتبطة بالنجاحات العسكرية في عملية العزل ومدى تماسك الأطراف المشاركة فيها، ولأسباب سياسية متعلقة بالولايات المتحدة.
بالنسبة للشق العسكري، من غير الواضح كيف ستؤول معركة الباب، هل سيتخلى التنظيم عنها ويتحه نحو الرقة لتعزيز تواجده؟ خصوصا أن تقارير كثيرة أكدت قبل أشهر أنه أجلى عائلات كثيرة منها، أو يعزز تواجده في المدينة لإبقاء أذرع لها قادرة التحرك؟
وبالنسبة للشق السياسي يفضل الأتراك والأكراد على السواء بدء المعركة بعيد وصول رئيس جديد إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة.
تركيا على سبيل المثال لا تثق بأوباما الذي أتعبها كثيرا في الملف السوري ـ الكردي، وهي تفضل أن تتم الاتفاقيات والتفاهمات حول المعركة ومستقبل المشهد العسكري في اليوم التالي مع إدارة جديدة وليس مع إدارة منتهية.
والأمر كذلك بالنسبة للأكراد، فبعد خيبات الأمل من إدارة أوباما لما حصل في الريف الشمالي لحلب، لا يثق الأكراد بالرئيس الأميركي، ويخشون أن تتكرر التجربة مرة ثانية أثناء المعركة الكبرى في الرقة، ولذلك يفضلون كما الأتراك أن تبدأ المعركة بعيد وصول رئيس جديد للبيت الأبيض.
وأغلب الظن أن المعركة ستؤجل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية وضمان حصول الأطراف المحلية والإقليمية على التزامات أميركية لا تستطيع الإدارة الحالية إعطاءها أو الوفاء بها.
“الجزيرة نت”