حقل ألغام أم إعلام


حافظ قرقوط

لطالما كان الضوء خصمًا للصوص، هكذا أيضًا كانت أضواء كاميرات وأقلام وأصوات الإعلاميين، ولهذا كان لصوص الأوطان أيًا كانت درجات لصوصيتهم ومناصبهم في كل بقاع الأرض، في الأنظمة الفاسدة والشمولية ومن يدور في فلكها، على عداء دائم مع الإعلام، وهكذا كان النظام السوري ـ ابن هذه الدائرة الفاسدةـ عدوًا للحياة ولمن يدافع عن حق البشر بالحياة.

دأب النظام السوري منذ تكوينه على ابتكار الطرق والأدوات، التي تعينه على كتم صوت الإعلام الحر، وبقي يلاحقه لآخر نفس، وهو ككل متهم يمكن القول عنه، عن سابق إصرار وتصميم، أبعد كافة الصحافيين الذين لا ينتمون أو يسوّقون له، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وأصدر حافظ الأسد قرارات اسمية بنقل عدد منهم من وزارة الإعلام إلى وزارات ومؤسسات أخرى، ومُنعت حتى صحافة الأحزاب التي انضوت تحت يافطة جبهته التقدمية، فقد حكم هذا النظام سورية بالحديد والنار، في ظل قانون طوارئ ضيّق من خلاله الخناق على كل ما يمكن أن يهدده ولو بكلمة بسيطة، وجعل لنفسه إعلامًا ذا لون واحد ونسق يُشبه أرتال الجنود في القطع العسكرية؛ حتى في طريقة عرض العناوين الرئيسة، إن كان في الراديو أو التلفزيون أو الصحف، وهو على  طريقة “نسخ- لصق” بمفهوم الكمبيوتر والشبكة العنكبونتية.

صحف البعث، الثورة ، تشرين، يعرفها المواطن السوري جيدًا، ويدرك أن واحدة منها تكفي للاطلاع على ما تحويه البقية، أما التلفزيون الرسمي، فلديه نشرة أخبار بقالب واحد، عن الرئيس وضيوفه وإنجازاته ومكرماته وبرقياته المُرسلة والمتلقاة، ووُضع كل من يعمل في مجال الإعلام تحت الرقابة الصارمة، ولم يكن لأحد فرصة من تلك الكوادر كي ينمّي قدراته أو خبراته أو يجتهد ولو بكلمة، واستمر الحال على ما هو عليه حتى بعد عصر الفضائيات، على الرغم من منح بشار الأسد تراخيص جديدة لإعلام خاص وعام بعد عام 2001، إلا أن الجمهور قد تسرب بأغلبيته من خلال جهاز التحكم نحو المحطات الآتية من بعيد، لتقدم الأخبار والمعلومة بطرق لم يعهدها السوري من قبل.

جاءت الثورة السورية لتفجر معها طاقات سوريّة هائلة في هذا المضمار، من كوادر شابة تمتلك شجاعة الإقدام والحضور، ولا تملك الأدوات والخبرة، فاعتمدت أبسط الإمكانيات لنقل الصورة والخبر، وأخذت تطور ذاتها، كذلك وجدت الطاقات التي خسرت أجمل أيام عطائها في قبضة قانون الأحكام العرفية، وجدت مع الثورة متنفسًا لها لتحاول التعويض عن نكبتها بسنيّ عمرها التي أُهدرت دون أن تنتج شيئًا مهمًا.

أدرك النظام خطر الإعلام عليه خلال الثورة، كما كان يدركه من خطر على حكمه في السنوات العجاف، ومنذ بداية الحراك المدني للشباب الثائر، أخذ يتصيد أصحاب الكاميرات والكلمات، وأصبح كل من يحمل حتى جهاز هاتف نقال في أي زاوية تشهد حدثًا أو مظاهرة، أصبح خصمًا خطرًا يجب ملاحقته والخلاص منه، ولكن المدهش بالموضوع أن المئات من الشباب السوري تحمس لنقل الخبر والعمل بمجال الإعلام، حتى تطوعًا، وأخذت الأحداث تُنقل من الحي الصغير وحتى المنازل والمواقع الضيقة على كامل الجغرافيا السورية، وظهرت وسائل إعلام عديدة لتواكب الحدث وإن كانت غير منتظمة وغير مهنية بشكل كاف، لكن ضمن الظروف القسرية التي أحاطت بالمشهد، كان ذلك الانتشار الإعلامي يُعدّ ثورة بحد ذاته، حتى أخذت تبرز أسماء شابة تطور لغتها ومفردات الصياغة وتراسل محطات لها تجربتها، ورويدًا رويدًا أصبحت بعض تلك الأسماء حالة إعلامية بحد ذاتها وتدير صفحات لها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما زاد من إرباك وإزعاج النظام، فحاول عن طريق عدد من (الشببيحة) تقليد هؤلاء الشباب، وأخذ يشوّش من خلال محطات تابعة له وموظفين براتب ثابت يديرون صفحات على وسائل التواصل، لتظليل المعلومة.

كانت طائرات وقناصو النظام وأدواته القاتلة بدورها متيقّظة، وتحاول الوصول لأي شخص يعمل بهذا المجال، لتصبح سورية من أخطر بلدان العالم لعمل الصحافيين بحسب تصنيف (منظمة مراسلون بلا حدود)، وهنا يُمكن الإشارة إلى أن بعض الفصائل المُقاتلة ضد النظام، هي الأخرى تعاملت مع الإعلاميين ووسائل الإعلام التابعة للثورة، بطريقة الأنظمة الشمولية، وهذا سبّب أذى كبير للثورة، وفي هذا الإطار أيضًا تعرض الإعلاميين لانتهاكات خطيرة في المناطق االتي يُسيطر عليها تنظيم الدولة (داعش)، الذي بدوره احتكر التغطية والخبر في مناطقه، عن طريق وكالته (أعماق)، فقد أوردت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها حول الانتهاكات بحق الإعلاميين في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، “مقتل 4 إعلاميين على يد القوات الحكومية، وإعلاميين اثنين على يد تنظيم (داعش)، واعتقلت جبهة فتح الشام إعلاميَين، وأفرجت عنهما، وأصيب 3 إعلاميين على يد القوات الحكومية، و2 على يد القوات الروسية وتنظيم (داعش)، كما أصيب إعلامي على يد قوات (الإدارة الذاتية الكردية)”.

كان (المركز السوري للحريات الصحفية في رابطة الصحفيين السوريين)، المعني برصد وتوثيق الانتهاكات بحق الصحافيين، والمواطنين الصحافيين، والمراكز الإعلامية في سورية، قد وثق مقتل 376 إعلاميًا منذ بداية الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 حتى بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

لا يوجد أمام من يعمل بالإعلام في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ سورية، وربما تاريخ الشرق الأوسط برمّته، وضمن حقل الألغام الذي يعملون به، سوى شد أزر بعضهم بعض، وهذا ما أوردته أيضًا (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) بنهاية تقريرها، حيث أوصت “المؤسسات الإعلامية العربية والدولية بضرورة مناصرة زملائهم الإعلاميين، عبر نشر تقارير دورية تُسلط الضوء على معاناتهم اليومية وتُخلد تضحياتهم”.




المصدر