طحن الذاكرة والجسد


ديمة ونوس

كيف يمكن لنا، نحن سكّان هذا الجزء من العالم، أن نستيقظ صباحًا؟ بأي مزاج نسعف ذاكرتنا لنبدأ صباحًا عاديًا أو غير عادي على الأقل، لأن صباحاتنا في الواقع لا يسكنها سوى الانحطاط، وليس ذلك الانحطاط الذي اعتدنا عليه، بل أسفل عتبة من الانحطاط يمكن تصوّرها، إلى درجة أننا فقدنا الدهشة، ولم نعد ننتظر أحداثًا خيالية ولا أسطورية تنتشلنا مما نحن غارقين فيه. هل سيكون وصول المرشّح الجمهوري دونالد ترامب إلى سدّة الحكم، أمرًا مفاجئًا بالنسبة إلى أنصار هيلاري كلينتون في منطقتنا؟ ألا تنتمي إمكانية وصوله إلى الحكم، إلى الانحطاط الذي نعيشه منذ لحظة استيقاظنا؟

ميشيل عون جاء رئيسًا للبنان بدعم من دول معارضة لنظام بشار الأسد، وبدعم من شخصيات سياسية لبنانية مناصرة للثورة السورية وداعمة لها! ولم يكن لوصوله إلى قصر بعبدا طعم المفاجأة ولا الدهشة، لأننا وصلنا إلى زمن مفتوح على كل الاحتمالات. من كان يدعم النظام السوري بخجل وبين الأسطر، أطلق صوته عاليًا، ومن كان يدعم المعارضة بصوت عالٍ، خفت صوته مبرّرًا ذلك الخفوت بعدم وجود البديل، وبالتخبّط الذي تعيشه المعارضة السياسية وعدم قدرتها على التواصل مع الداخل السوري. وبشار الأسد أعلن بقاءه في الحكم على الأقل حتى عام 2021، بحضور مجموعة من الصحافيين والمحللين السياسيين الأميركيين والبريطانيين! ولم يكن لتصريحه أيضًا طعم الدهشة. لكنه مطعّم بالانحطاط الذي وصلنا إليه على مرأى ومسمع الجميع، من أصدقاء للشعب السوري إلى داعمين لثورته إلى متعاطفين معه.

كيف يمكن لنا، نحن سكّان هذا الجزء من العالم، أن نستيقظ صباحًا؟ كيف لنا أن نلملم أشلاء بعضنا البعض وذلك الوجع الآخذ بالنمو خبرًا وراء الآخر؟ وكم يبدو الوجع جافًّا، فجًّا، إن افتقر للدهشة! الدهشة من فعل مهما بلغت قسوته، تعني الرفض والتمرّد وعدم الاستسلام والتمسك بشهقة أمل. أما ذلك الوجع الصافي تماماً من أي دهشة، فكيف في استطاعتنا استيعابه والالتفاف عليه والعبث بمفهومه، كي ننجو بأرواحنا من الانحطاط.

كيف يمكن لأجسادنا أن تنفصل عن جسد صيّاد السمك المغربي محسن فكري؟ كيف باستطاعتنا ألا نكون مكانه كل لحظة منذ طحنته شاحنة نقل النفايات؟ ببساطة، لأننا نعرف في عقلنا الباطن أن الحادثة تلك ليست فردية ولا استثناء! باتت القاعدة، ويمكن لأي جسد من أجساد سكّان هذا الجزء من العالم، أن يطحن بالطريقة ذاتها وبطرق أخرى لا تقل وحشية. مئات الآلاف من السوريين طحنتهم براميل النظام السوري وأصدقائه، وهشّمت أجسادهم وحشية التعذيب في السجون وثقبهم الرصاص وابتلعتهم الأرض في قصف متواصل لا يستثني مدرسة هنا ومشفى هناك!

كيف يمكن لذاكرتنا أن تنجو من محاولاتهم المستميتة لدفنها بعد تغيير معالمها؟ إن كانت جريدة مثل الـ “نيويورك تايمز” شريكة في حرق تلك الذاكرة عندما تطبع صباحًا على صفحتها ما يعبث بذاكرة شعوب بأكملها! عندما تطبع على أوراقها حروفًا تشكّل جملًا سريالية تفوّه بها الطاغية من قصره الآمن. “أعترف بحقوق المواطنين.. أعدهم بعصر جديد من الانفتاح والحوار بعد فوزي بالحرب.. سأبقى على الأقل حتى تنتهي ولايتي الثالثة عام 2021.. أدخلت خدمة الـ 4G على الهواتف المحمولة أثناء الحرب.. العلمانية تعني حرية الدين.. لا يوجد معتقلي رأي في سجوني، بل داعمين للإرهاب.. النسيج الاجتماعي في سورية هو اليوم أفضل بكثير من قبل”.

إنه زمن طحن الذاكرة والجسد.. فأين عسانا نعيش؟ في أي شاحنة نفايات؟ وتحت أي ركام؟




المصدر