ليلة باردة تحت السرير


مصطفى تاج الدين الموسى

لم يعرف من أين تأتي هذه الموسيقى، من طيفها الأنثوي الذي يسبح الآن في خياله؟.. يجوز، أم من المذياع فوق طاولته؟ ربما.

انتبه له تحت الطاولة فانحنى ليضع أمامه قطعة جبن. ثمّة صداقة غريبة نشأتْ بينه وبين هذا الفأر بداية هذا الشتاء.

فجأةً، دخل صديقه سالم الذي يستأجر معه هذه الغرفة، وهو يمسح عن معطفه ما قد أصابه من المطر المنهمر في الخارج. الفأر تحت الطاولة، وطيف حبيبته في خياله هربا مذعورين إثر دخول سالم.. قال له سالم بفرح وهو يلهث:

ـــ وأخيرًا وافقتْ أنْ تأتي هذه الجميلة ُلتمضي ليلةً في سريري.. يا إلهي كم أتعبتني!! كل الفتيات اللواتي اصطدتهنّ في الجامعة بكفّ، وهذه وحدها بكف.. تستحقّ، إنها الأجمل.. وأطيب الطبخات تلك التي تظلّ طويلًا على نارٍ هادئة..

ضحك سالم ضحكات شهوانيّة بينما تأفف نهاد منّه، كان قد اعتاد خلال سنتين في هذه الغرفة على المغامرات الحمراء لـ سالم، المشهور بين كل شباب الجامعة بقدراته -العجيبة والذكية- على اصطياد الفتيات وإقامة العلاقات معهن؛ حتى صار بخبرته مرجعيّة يوثق بنصائحها لأي زميل يحلم بمغامرة حمراء في الجامعة.

قال له نهاد بحنق متلعثمًا كعادته:

ـــ والله تعبتُ بسببك.. كل فترة تجلب فتاة.. مرة تضعني في الخزانة ومرة على السقيفة ومرة تطردني لأنام عند جابر.. إلى أين أذهب الآن والمطر ينهمر في الخارج بغزارة؟

ـــ اقترح عليكَ أن تختبئ تحت السرير؛ وأنا أكيد، أن سماعك للهاثنا طوال الليل، لن يُسيء لعذريتك..

قال سالم وهو يضحك بجنون، فلكمهُ نهاد منزعجًا من سخريته على كتفه. نهاد الذي لم يتذوق طعم الأنثى في حياته بعد، ولم يفكر في هذا -أصلًا- بسبب خجله غير الطبيعي، لدرجة أنه عندما يقف في ممرات الجامعة مع فتاة لأمر له علاقة بالدراسة، خلال دقيقتين فقط يصير وجهه أحمرَ من شدة الخجل.

ـــ ومن هي التي اصطدتها لتكون عشاءك الليلة؟

تساءل نهاد بلا مبالاة وهو يوضّب كتبه على الطاولة.

ـــ يُمنى…

سقط قلبه ليتهشم كمزهرية، ارتجف كل جسده.. يُمنى التي كانت منذ قليل تسبح في خياله بألوانها البريئة.. استدار إلى سالم وكأنه عجوز قد شاخ في ثانية.

ـــ أنت تكذب.. يُمنى محترمة وعاقلة..

من بين ضحكاته الخبيثة أجابه سالم:

ـــ لا أحد محترم وعاقل في هذا العالم سوى غبائك..

ـــ لا مستحيل.. أنت كاذب..

ـــ بعد قليل تأتي لتتأكد بنفسك..

دارتِ الدنيا أمام عينيه، يُمنى التي يحبُّها بصمتٍ عن بعدٍ، منذ سنتين، لا يمكن أن تكون هكذا، لطالما راقبها في المحاضرات ومقهى الجامعة وممراتها وحديقتها، وتبادل معها الملخصات والابتسامات اللطيفة بخجل، كم تمنى لو أنه يلمس يدها.

رنّ الهاتف الجوال لـ سالم فتكلم عبره مسرعًا ثم أغلقه.

ـــ هيا.. لقد وصلتْ.. اختبئ، إن شاهدتكَ ستذهب.. أخبرتها أنّه لا أحد غيري في الغرفة..

ارتبك نهاد كثيرًا كطفلٍ أضاع أمه في سوقٍ مزدحم، وبلا وعي أسرع، وصوت كعبٍ أنثوي على الدرج يعلو مع خفقات قلبه، ليحشر جسده تحت السرير.

دخلتْ يُمنى الغرفة ليخطف سالم قبلة ًمن شفيتها، ابتسمتْ له ثم تلفتتْ في أرجاء الغرفة بريبة.

ـــ أين صديقكَ الأبله؟

ـــ طلبتُ منّه أن يذهب لينام عند جابر

ـــ يا إلهي!! كيف تستطيع أن تعيش مع هذا الأبله بنفس الغرفة؟.. عليه أن يعيش جانب أمه فقط..

من تحت السرير تأمل نهاد حذاءها وتأوّه بصمت، إنّه صوت يمنى.. هربتْ من عينه دمعة لتمتزج بغبار البلاط.

قدمّ لها سالم مشروبًا.. رقصا قليلًا، ثم تبادلا الفكاهات البذيئة التي يخجل نهاد من أن يحكيها أو حتى يسمعها.

بعد منتصف الليل بدأ سالم بتعريتها، تمنعتْ قليلًا ثم استسلمتْ ليديه.

كانت ثيابهما تتساقط –تباعًا- أمامه على الأرض، وكل شيءٍ يسقط داخل روحه بضجيجٍ موجع.. عندما شاهد حمالة صدرها تسقط، خوفٌ عظيم انفجر داخله؛ فأغلق عينيه كمن يهرب من رؤية مجزرة. تحت السرير بين عتمة وبرد ضاعتْ روحه.

ذبحه لهاثهما.. صار سقف السرير يرتطم برأسه لينزف ألف قهرٍ وقهر، كلماتهما الماجنَة في الأعلى كانت تصله على هيئة سكاكين لتتسلّى بطعنه.. صار يهذي، همس لنفسه: “يا الله.. يا الله.. لماذا كل هذا الألم؟”.

تمنّى لو أنه يرجع الآن إلى قريته البعيدة، اشتاق إلى كل شيءٍ فيها.

هذا السرير صار سفينة لقراصنةٍ داكني الأرواح، تبحرُ فوق مائه النقي.

بكى كثيرًا.. بكى بحرقة، صار الغبار تحت السرير بسبب دموعه وحلًا.

صوت لهاثهما كان أعلى من صوت بكائه، تنهد.. تنهد بصمتْ.

عندما أشرقتْ الشمس كان المطر قد انقطع، نهضتْ يُمنى بكسلٍ لذيذ عاريةً عن السرير، وهي منتشية، ثمَّ فتحتْ النافذة قليلًا ليدخل ضوءٌ شاحب لصباح شتوي، إلى الغرفة، قبلتْ سالم في شفتيه ثم خرجتْ إلى المطبخ لتشرب.

انتهز سالم الفرصة ليميل برأسه لأسفل السرير وهو يلوح بكفه لصاحبه.. همس له، ثم نزل إلى الأرض ليلتقط كف صاحبه من العتمة ويسحبه.

دخلتْ يُمنى فشاهدتْ سالم جاثيًا على الأرض، اقتربتْ فشهقتْ برعبٍ وهي تشاهد النصف العلوي لجسد نهاد ممددًا على الأرض خارج السرير.

نظر إليها سالم بعينين تائهتين، قال لها بصوتٍ مخنوق:

ـــ لقد مات..

صرختْ وهي تصفع بيديها خديها، أسرعتْ لتجثو جانب الجثة فشاهدتْ حمّالة صدرها بيد نهاد.. وجهه كان أزرقًا، كسماءٍ صافية لا طيور فيها. شاحنةُ ندم دهستْ ملامحها.

هو وهي دخلا معًا في بكاءٍ هستيري.

هناك.. على حافة النافذة، كان الفأر واقفًا يراقبهم بصمت.

جثة صديقه الميت على الأرض، نصفها تحت السرير.. عن يمينها فتاةٌ عارية وعن يسارها شابٌ عاري، وحولهم بكاءٌ مرير.

بهدوءٍ، استدار الفأر.. انسلّ من فتحة النافذة ثم قفز ليرمي بنفسه منها إلى الأسفل، خلال هذا الصباح الداكن.




المصدر