رقصة القبور أو الموت المتكرّر
7 نوفمبر، 2016
عمار ديوب
منشغلةٌ بالسّياسيّ بامتياز. إنّه الأساسيُّ فيها وهي تتحرّك بين الحاضر والماضي، وربّما تؤشّر للمستقبل. لا يمكن لثقل الماضي أن يجعل منه الأساس، فالماضي مضى ولن يعود. الماضي تُعاد كتابتُه انطلاقًا من حاجات الحاضر. الرّواية ومهما تنوّعت أشكالُها تظلُّ عملًا تخيّليًّا، ولهذا لا يمكن التّعامل معها كنصٍّ فكريٍّ بأيّة حال من الأحوال. التعامل يكون معها كبنية مغلقة بذاتها، وعلاقتها بالواقع وفق تأويل نقديٍّ له، يُظهر أهميّتها الأدبيّة وغير الأدبيّة، ولكنّ التّعامل الدّقيق معها يتحدّد على أساس بنيتها الأدبية، وهل هي أدب جيّد أو سيئ.
في رواية رقصة القبور لمصطفى خليفة، يعَدّ عبد السّلام آل الشيخ الشّخصيّة المركزيّة فيها، وهو قياديٌّ في حزب اشتراكيّ معارض. عبد السّلام هذا، إضافة لاشتراكيّته، فهو يعيش كأمير بخدم وحشم وعبيد، بل ويتغنّى بسرد تاريخ عائلته الممتدّ إلى ما قبل الإسلام، ومعاناة أفرادها -بعد تفرّعات الإسلام- إلى شيعيّ وسنيّ، ونشوء دول متعدّدة وفق هذا الأساس، واجتثاث التّجمّعات الجديدة المنتمية إلى خالد المخزوميّ، أي عائلته.
سرد تاريخ العائليّة الخالديّة يستدعي ربط كلّ ذلك بعبد السّلام “السّني”، وتصوير الصّراع مع السّلطة الحاكمة وكأنّه صراع سنّيٌّ علويّ، بل وكأنّ عبد السّلام ذاته وجد وسيلة جديدة للصّراع، فكانت الحزب الاشتراكيّ هذا. النّظام الّذي يحاربه -أيضًا- نظامٌ طائفيّ مغلقٌ، ويخوض حربًا ضدّ طائفة بعينها. صحيح أن الكاتب حاول أن يقدّم شخصيات خارج القيد السّنّيّ العلويّ، كما حال مهران وابنته مارال، الأرمنيين، وكذلك غياب التّحديد الطّائفيّ لشخصيّة الرّاوي أو حبيبته لميس؛ ولكنّ الصّراع السّياسيّ بين عبد السّلام، الذي هيمن في حزبه، والنّظام، قُدّم كصراعٍ طائفيٍّ، وهذا ما يحصل حينما يعتقل هو بالذّات. وتناقش الرّواية هذه النّقطة بالتّحديد، أي أسباب اعتقاله والتّخوف من الاستمرار بذلك وضرورة الإفراج عنه، وأن الرّسالة إليه وصلت، وأن ذلك الإفراج يخفّف الاحتقان الطّائفيّ وهكذا.
لم يكن من الضّرورة الاتّكاء على التاريخ والسّرد فيه لو كان الأمر هامشيًّا، والاتّكاء الكبير عليه ربّما يُراد منه القول إنّ كلّ حركة سياسيّة حديثة لا بد أن تستفيد من التّاريخ لتقوى وتتوطّن وتنتصر. إن فشل الحزب الّذي تركه أثناء انعقاد مؤتمره، وضعف برنامج مجموعته، وبالتّالي تهميشَ دوره فيه، دفع عبد السّلام للطّيران ودخول الخلوة للمرّة الثّالثة، ليخرج بعدها زعيمّا لعشيرته بعد وفاة والده. أيقن عبد السّلام بفشل العمل العسكريّ أثناء انعقاد المؤتمر، ولكن عودته لخلوته هي مؤشّر على الفشل الكامل للخيار الاشتراكيّ كذلك؛ فالحزب فاقدٌ لممكنات الانتصار، والقوّة الأكبر يحوزها النّظام، وربّما الدّور الأكبر سيكون للدّين، فهل هذا ما أراد قوله مصطفى خليفة؟. ولنفترض أن هذا صحيح، ألم يكن للإخوان المسلمين دورٌ في خراب سوريا؟ وأيضًا ألم يفشل مشروعهم في الثّمانينيّات في إزالة الاستبداد؛ وربّما كانت حربهم حينها سببًا في ترسيخ دعائمه، وهو الأدقّ.
أولاد عبد السّلام الذي قُتل حالما خرج من خلوته وأراد مشاركة عائلته الكبيرة والممتدة في أصقاع الأرض، والتي تأتي للمشاركة باحتفالات معينة، أصبحوا متشدّدين دينيًّا ورفضوا عودة والدتهم مارال، الّتي سمحت لنفسها بإقامة علاقات جنسية متعددة مع الذّكور والإناث. هذا التشدّد يُفسح المجال لفكرتنا السّابقة، أنّ الكاتب أراد القول أنّ الحاضر وجه من وجوه الماضي، وهذا يكشف عن مشكلة في تفسير الحاضر ذاتِه، أي ما هي طبيعة النّظام الحاكم، فهل هو طائفيّ فعلًا، أم هو يستخدم الطّائفيّة والتّطييف؟ ويمكن الإضافة هنا: هل يستطيع أي نظامٍ -في عالمنا المعاصر- أن يكون طائفيًّا؟ وأخيرًا أليس الدّين والطّائفة والطّائفيّة -في مجال السّياسة- هي مجرد أدوات لطبقات ثرية توظّفها الأخيرةُ، لتأبيد حكمها وثرواتها ونهبها؟!
عنوان الرّواية يقول: إنّ تاريخنا دمويٌّ وحصيلته دمار كامل، ويصوّر الحياة على عتبارها دورة عنف و”رقصة” قبور. ربّما الكاتب مُحقٌ في أنّ تاريخنا لا يتقدم (لا بشكل مستقيم ولا بشكل حلزونيّ)، ويكرّر ذاته دائريًّا. شخصيّات مصطفى خليفة، ممسوكة منذ بداية الرّواية، وهي تقول بفشل ساحق للحركة السّياسيّة السّوريّة. وهذا لو ربطناه بالواقع سيكون صحيحًا، فكافّة تشكيلات المعارضة السّوريّة الّتي واجهت النّظام فشلت، وهناك من يقول إنّ الثّورة العارمة الّتي اندلعت 2011 فشلت هي أيضًا. الرّواية لا تقارب ما بعد هذا التّاريخ ولا تدّعي ذلك بكلّ الأحوال، ولكنّ القبور فُتحت إلى أقصاها وفتحت مقابر جديدة في كلّ المدن السّورية، منذ ذلك التّاريخ. إذن الفشلُ مستمرٌّ ماضيًّا وحاضرًا.
يطرح مصطفى خليفة في مقدّمة روايته سؤالًا: “ماذا لو؟” ويريد بذلك إعادة كتابة التاريخ بعد حذف الشّخصيّات الأساسيّة الّتي لعبت دورًا رئيسيًا فيه، كأن يتوفّى حافظ أسد حين ولادته -مثلًا-. طبعًا هذا لعب أدبيّ بالتّاريخ، والرّواية ذاتها رفضته، وبالتالي لا معنى للسؤال ذاته، وربما لو أن الرواية سارت بغير هذا الاتجاه، أي موت عبد السّلام وحزبه وعائلته، لربّما قلنا أنّ هذه الـ “لو” كانت صحيحة. بكلّ الأحوال الكاتب له بحث تحليليّ عما بعد 2011 ويضع احتمالًا لم يفكّر فيه الكثير من الباحثين وهو: ماذا لو انتصر النّظام؟ أقصد من كلّ ذلك أن النّظام لو انتصر لن يتمكن من إعادة سوريا إلى 2011 وكذلك لا يمكن اعتبار الطّائفيّة مجال السّياسة في سوريا قبل 2011.
الرّاوية، وبعيدًا عن تحليل فكرتها النّظريّة الأساسيّة، مُدهشة في نوعيّة شخصيّاتها، وفي رُقيِّ حواراتها عن السّياسة والتّاريخ والعلاقات الصّراعية بين الأديان بالمعنى الأدبيِّ، وكذلك هناك تصوير ممتع للعلاقة الجنسيّة سواء بين الرّاوي ولميس، أو بين عبد السّلام ومريم، والعلاقة الأخيرة تشكّل درسًا في الايروتيكيّة حيث لم تترك تفصيلًا للعلاقة ولم تلاحظه.
الواقع السّوري المعقّد ربّما يتطلّب إحاطةً أوسع، ورؤيةً تتجاوز الرّكون لثنائيّات المعارضة والسّلطة، أو أن الماضي يتكرّر في الحاضر. فكلّ نصّ محكومٌ بالسّيمياء الفكريّة الأساسيّة لشخصيّاته، ومن هنا تظلّ الشّخصيّات “ملجومةً” لرؤية الكاتب والرّسالة الّتي يريد إيصالها.
[sociallocker] [/sociallocker]