المأساة السوريّة .. جرح مفتوح وتجاهل مريب


عبد الباسط سيدا

كان السوريون على دراية تامة منذ اليوم الأول للثورة، بصعوبة مهمتهم. وكانوا على يقين بأن النظام محمي عبر شبكة من العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، وله موقعه المهم في خارطة التوازنات والحسابات الإقليمية والدولية. لذلك كان الشعار المعبّر: «يا الله مالنا غيرك يا الله». فقد جسّد هذا الشعار معاناتهم وعذاباتهم على مدى عقود مظلمة من حكم استبدادي فاسد، سطّح العقول والضمائر، وعفّن الدواخل، وقطع الطريق أمام كل الطموحات والآمال. حتى غدت بلاد الأبجدية والجمال والحرفة والتجارة والقيم والسمو الروحي والانفتاح الإنساني خربة خالية من أية مؤشرات واعدة تعطي الأمل بإمكان تلافي الانهيار الشامل الوشيك، وذلك بفعل الجهود الشريرة لزمرة من المتحكمين بمفاصل الدولة والمجتمع ومصائر الأفراد. زمرة استمدت نسغها من الأسد الأب، وتوافقت على توريث الحكم للأسد الابن، لتستمر المأساة السورية على مختلف المستويات.

ومع انطلاقة الربيع العربي، تحرّك السوريون، الشباب منهم على وجه التخصيص، باحثين عن مستقبل أفضل ينقذهم من مآلات انسداد الآفاق، ويفتح الطرق والأبواب أمامهم، ليثبتوا للقريب والبعيد أنهم ليسوا أقل قدرة على العطاء والإبداع من الآخرين.

تحرّك الشباب، وكان القلق على مصيرهم في ذروته، لمعرفتنا العميقة بطبيعة النظام، واطلاعنا على تداخل المعادلات الإقليمية والدولية وتفاعلها لمصلحته. لكننا لم نلتزم الحياد، بل كنّا إلى جانب شبابنا ومن دون أي تردد على رغم كل الأخطار والتهديدات.

وشقت الثورة السورية السلمية طريقها بتفاؤل وثبات، واحتضنت الغالبية الغالبة من أبناء سورية ومن جميع المكونات المجتمعية من دون أي استثناء. لكن النظام وحلفاءه فرضوا العسكرة اعتقاداً منهم أنها ستلزم الناس بالعودة إلى بيت الطاعة. وما أن أخفقوا في ذلك، حتى فتحوا الأبواب أمام الإرهابيين ليعيثوا في الأرض فساداً، ويصبحوا في الوقت ذاته فزّاعتهم التي يواجهون بها العالم، ولسان حالهم يقول: إما نحن أو الخراب وتهديد المصالح.

وتلكأ العالم وتلعثم، لأن الزعيم الأميركي لا يريد التدخل في أي شكل من الأشكال. ومع استمرارية القتل والتدمير في سورية، اضطر الزعيم إلى إطلاق تصريحات خجولة تخديرية تطالب بضرورة رحيل بشار. لكنه سرعان ما كان يصادر تلك التصريحات عبر تصريحات مضادة، أو ممارسات تؤكد للنظام وحلفائه عدم وجود إرادة بالتدخل من أجل التغيير.

واستمرّ السوريون في ثورتهم، واستمر النظام وحلفاؤه في قتلهم، واستمر العالم في صمته المثير للجدل.

الأمم المتحدة أصبحت مؤسسة مشلولة لا حول لها ولا قوة أمام الفيتو الروسي المتكرر، ولم يصدر عنها سوى القلق والقرارات الرمادية التي تحمل بذور تعطيلها في ذاتها.

والولايات المتحدة بزعامة أوباما أصبحت حملاً وديعاً في مواجهة الاندفاع الروسي، وبات كل همها محاربة الإرهاب «السني» المنفلت. ولم تشعر بأي حرج إزاء تنسيقها المعلن وغيرالمعلن مع الإرهاب «الشيعي» المنظم، طالما أن مصالحها ومواطنيها في منأى عن أي خطر.

وفي أجواء غياب القيادات التاريخية التي كانت تلتزم المبادئ الثابتة في تحوّلات سياساتها، قيادات كانت تتحمّل المسؤولية، ولا تعيش هاجس الحسابات الانتخابية، وتتخذ المواقف الجريئة وقت اللزوم، في غياب تلك القيادات ظلت أوروبا حائرة عاجزة عن اتخاذ أي موقف حاسم في معزل عن القرار الأميركي.

والأمر اللافت أكثر من غيره، أن المجتمع المدني الأوروبي لم يتجاوز هو الآخر الموقف الرسمي كثيراً، فلم تكن هناك حملات تضامن قوية مع الشعب السوري، ولم تكن هناك جهود كبيرة في ميدان التنديد بجرائم النظام وحلفائه. بل كنا في أكثر من مناسبة أمام حالات تعاطف مع النظام، وتشكيك في هوية المعارضة، وذلك بعد أن تمكّن النظام بدعم من حلفائه من تمرير خديعة محاربة الإرهاب، ومزاعم حماية الأقليات، والأخطار الوهمية التي تهدّد النظام «العلماني» التابع لنظام ولي الفقيه.

ولا بد من الاعتراف بإخفاق المعارضة السورية في مخاطبة الرأي العام الغربي، وتقصيرها الكبير في هذا المجال. فغيابها شبه التام عن فاعليات المجتمع المدني الغربية عموماً، قد أفسح المجال للقوى المتعاطفة مع النظام لترويج أضاليله وفبركاته. ولعل هذا ما يقدّم قسطاً من التفسير لواقع عدم خروج التظاهرات الكبرى، وعدم تنظيم الحملات الشعبية المؤثرة في مختلف أنحاء أوروبا، تنديداً بما يتعرض له الشعب السوري من قتل وتدمير. أما الحملة الاستثنائية تضامناً مع اللاجئين السوريين بعد حادثة الطفل آلان كردي، فقد كانت عاطفية آنية، سرعان ما تلاشت نتيجة غياب الجهود التي كان من شأنها البناء عليها، وتطويرها.

ولم تقتصر السلبية الشعبية – إذا صح التعبير – على أوروبا وحدها، بل شملت غالبية الدول العربية والإسلامية، إذ لم تتحوّل مواقف التعاطف الفردية إلى حالة عامة منظّمة، كان من شأنها أن تشكّل أرقاً للأنظمة التي التزمت الصمت، أو ظلّت على تعاونها غير المعلن مع النظام السوري عبر الأجهزة الأمنية والمنافع المتبادلة.

وذلك كله دفع بالسوريين نحو الإحباط، والشعور بأنهم قد تُركوا لوحدهم. هذا مع إدراكهم أن بلادهم قد باتت ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، وأن الحرب الطاحنة التي فرضت عليهم لم تكن العوامل السورية وحدها كافية لتفجيرها لولا التدخلات الخارجية، لا سيما من الجانب الإيراني الذي كان من الواضح أنه يريد نقل معاركه إلى أراضي الآخرين، واستنزاف السعودية تحديداً ومعها الدول الخليجية، باعتبارها المجموعة العربية الوحيدة التي ما زالت محتفظة بتوازنها وصلابتها.

محنة السوريين كبيرة. والتحديات المستقبلية التي تنتظرهم تفوق كل وصف، منها: تحديات بناء الإنسان والمجتمع والوطن. تحديات مواجهة مشكلات جيل من الأميين والمعاقين نفسياً وجسدياً. تحديات حملات التجييش المذهبية والقومية. تحديات توفير فرص التعليم والعمل للشباب واسترجاع الطاقات الشاردة.

ويبقى السؤال عن ماهية سورية المنتظرة. هل ستكون تلك التي تحمّل السوريون من أجلها آلاماً تتجاوز طاقة التخيّل؟ أم ستكون سورية أو «سوريات» تنسجم مع حسابات الآخرين ومصالحهم؟

“الحياة”