الشعر والمنعطف الفرجوي: فاتحة عن الكتابة بحبر الكاتيوشا


حاتم محمودي

ماذا بوسع الألغام، وهي المعدّة سلفًا في أحشاء الأرض لغاية الفتك، أن تقول لشاعر يمرّ على جسدها كي تكتمل قصيدته: كأن تكتب بلهجة الدمّ وشظايا لحمه الممزّق، وكلمات تصّاعد مع الدخان إلى سماء ربّ تحتكره الأصوليات؟
ماذا بوسع البحر، وهو الذي ازدرد مئات اللاجئين هروبًا من يافطات عزرائيل، وهو يلاحقهم بطيور الآر-بي– جي، أن يقول لشاعر يترجّل فوقه مثل النبيّ موسى: كأن تكتب القصيدة، وهي في لحظة الغرق، مبحوحة الصّوت، كما لو أنّها صراخ (ارتوي) إزاء مسرح القسوة والشرّ؟
وماذا بوسع تلك الأبراج، والمتاحف والتماثيل، وهي المثقوبة -حاليًا- برصاص الحرب ورماد الحرائق، أن تقول لشاعر يرمّمها، بدل اللصّ تاجر الآثار، بلحمه وكلماته التي تتقافز مثل فهد برّي، مخيف ومرعب؟
وتلك السيّارات التي فجّرت، فلم يتبقّ منها غير الصّدأ وبعض غبار بشريّ يطوف بأرواح القتلى، بينما لم يعد الشاعر قادرًا أن يتنفسّ غير ثاني أكسيد الكربون وروائح الغاز، فقرّر القفز إلى الدمار، والإقامة في حقول الكارثة.
أيّ جماليّة نسندها الآن إلى كتابة بلهجة الكاتيوشا، وشعراء قرّروا من باب التسميّة اللغوية أن يكونوا “ميليشيا الثقافة”، بعد أن صار الوطن فوهة لبركان لا همّ له غير قذف الدمّ وحمم من لحوم بشريّة في وجه العالم، كي يلطخّه بما صنعت حروبه وهمجيّته وسياساته الاستعماريّة المكتوبة بحبر الجشع والتنكيل بالشعوب؟
أين نموقع هذا الشعر، وهو الذي يغادر صدر الصالونات، ويهجر دور النشر، ويسخر من الأغراض؟ إنّنا نعثر عليه -هنا- في شبكات التواصل الافتراضي، عبر فرجات وسائطيّة، بيد أنّ إقامته الفعليّة كانت في فضاءات مفتوحة، حيث مخلّفات الحرب، وآثار قنبلة في مكان ما، ما يعني أنّ كيانه الكتابيّ لا يستطيع أن يتنفّس غير الخراب، ولا يترجم إلا فرجة، حيث تختلط الكلمات بأمكنة مريعة وأزمان متداخلة في برهة فناء بشريّ، وكأنّ اللحظة ما هي إلا ضرب من القرم البدائيّ الوحشيّ، وليس ثمّة هناك غير جسد الشاعر الذي يلقي قصيدته محاورًا ذلك الزخم المتهاطل بأنواء الانقراض.
ما تحيله تسمية “الميليشيا” ليس لحظة مواجهة بين الحرب والشاعر، بقدر ما هي تناغم بين غريزتين عنوانهما (الأيروس والتناتوس)، بوصفهما عاشقين لا عدويّن، بما يحيل إلى أنّه ثمّة ضرب من تغميس الحبّ في الموت -كما نظر إلى ذلك الفيلسوف التونسيّ فتحي المسكيني- وإعادة طرح السؤال الملحّ عن ماهيّة كينونتنا الإنسانية، وما إذا كانت خاصيتها لا إنسانية فعلًا، كما حدّث الفيلسوف “ليوتار”، عن حالة ما بعد الحداثة.
ماذا يريد الشعر من هذا العالم؟ إدانته -وهو المدان سلفًا- بعد أن فشلت حداثته المزعومة، ولم تخلّف غير ما وصفه المفكّر أنطونيو نيغري، بالقحط الأنطولوجي، أم بغاية تنبيهنا إلى نهاية السرديات القديمة برمّتها، بعد الجراحات العلميّة والفلسفيّة للقيم المطلقة؛ حيث حلّت بدلًا منها أسواق الرّقيق الثقافيّ ووحشيّة العلم الذي يتحالف الآن مع الخرافة، وفق مشهد جنائزيّ، يحمل فيه أخطر وحش أصوليّ في العالم (الإرهابي)؛ أكثر الأسلحة تطورا وقدرة على الفتك وقطف الرؤوس ورقش الدماء؟
لا تكتمل القصيدة إلا باكتمال فرجويّتها، تقيم في مدار المفزع والمرعب والمخيف واللامتوقّع، وتلك هي خصوصيّة جماليّتها بما يجعلنا نصفها بالرّائع أو المريع، أمّا الفرجة من خلال فضاء اللعب؛ حيث الشاعر هناك يقذفها رصاصًا -في وجه الكاميرا- كي تصل إلى هذا العالم الموبوء، فهي تصل محفوفة بغير قليل من الفرجويّ كأحد مقوّمات صناعة الفرجة ذاتها، فهو -كما أشار إليه الناقد المغربي حسن اليوسفي في سجّلات بحوثه المسرحيّة- ذلك الذي يحقّق الدهشة والغرابة، كما لو أنّه غواية المتلقّي، فلم تعد لنا حاجة إلى تطهير أرسطيّ، أو هدم لجدار رابع بتعلّة ثوريّة برتولد بريخت، بقدر ما نحن الآن نلهو مثل أطفال في خراب العالم، ونحرس هشاشة الموت فيه، ونضحك سخريّة من فوضويته، كما لو أنّ الضحك ذاته انحياز الآلهة.
هل عدميّة هذه؟ أم هجرة أنطولوجيّة تستحضر -في موروثها النّفسيّ- سيرة جلجامش وأحواله؟ أم ردّة فعل (بافلوفيّة) على محافل الشّواء البشريّ في العراق وسوريا وليبيا ومدن الرّماد التي يذهب إليها الوحش الكولونيالي متحالفًا مع أنظمة هجينة بمعيّة أسراب من الغربان؟
أن نصرّ على إجابة لمثل هذه الأسئلة، فهذا عنوان الخراب نفسه؛ ذلك أنّها تدفعنا إلى الإقامة في فوهة معادلة الدمار والكارثة، بيد إنّنا نشير إلى أنّ ثمّة قلق -في تلك الفرجات- إزاء مستقبل هذا الحيوان الآدميّ، إزاء إمكانيّة وجوديّة لخصوصيته الإنسانية، وعليه، فإنّها –الفرجات الشعريّة- لحظة من شفرة الوجود المتلاطمة على وجهه أمواج الدمّ، ولكنّها تبدو -تأويليّا- حالة من الإقامة إزاء “الميميزيس” بوصفه ذلك المكبوت في جفنة الرّأسماليّة المتقدّمة؛ صانعة هذا الهول البشريّ بعبارة “جيميناز”، بما يعنيه انفلاته عن هيمنة العقل الأداتيّ وتحرّره من نتائج كوارثه، ما يجعل من فنّ كهذا -يبيح لنا مشاهدة المريع والمفزع واللاإنساني- عنوان إدانة للرّاهن الدمويّ ذاته.




المصدر