جدلية الأسلمة والعسكرة في الثورة السورية


منير شحود

ارتبط مصطلحا الأسلمة والعسكرة في الثورة السورية على نحو وثيق، فهل لأحدهما أسبقية على الآخر؟ في زيارة مسائية للتعزية بشهيد في بلدةٍ بريف دمشق أواسط شهر آب 2011، لاحظنا أن أحد الشبان كان يضع مسدسًا على خصره، ولأنّنا كنّا من المصرّين على ضرورة سلمية الثورة، حذّره صديقي من العاقبة، وقال له بالحرف الواحد: “هذا السلاح يقتل الآخرين، ولكنّه سيقتلك أيضًا في النهاية.” ابتسم الشاب، الذي يعمل بنّاءً، لكنّ شيئًا من عدم القناعة كان يلتمع في عينيه!

بعد عدة أشهر من التظاهر ذي الطابع السلمي العام، ونظرًا لاعتماد الحل الأمني في التصدي للمتظاهرين، وعدم الجدية في تحويل محاولات الإصلاح السياسي المتأخرة إلى وقائع سياسية ملموسة، والدور الذي لعبه “الإخوان المسلمين” والفعاليات الدينية الخليجية فيما يتعلق بالدعم المشروط، وغياب قيادات وطنية فاعلة على الأرض أو تغييبها، والجو الإقليمي المشحون طائفيًا على خلفية الصراع السني – الشيعي؛ لهذه الأسباب الرئيسة جميعها كان من الصعب استمرار سلمية الثورة، خاصة أنّ من بقى في الشارع كان من الفئات الشعبية التي يمكن التلاعب بعواطفها الدينية بسهولة.

الحدث الأبرز في الأشهر الأولى لاندلاع الانتفاضة، والذي ظهرت نتائجه على الأرض بصورة ساطعة، كان إطلاق سراح النظام لكثير من المتطرفين الذين “جاهدوا” في العراق، ومن ثم صار بعضهم قادة لأهم المجموعات الإسلامية (على سبيل المثال، زهران علوش قائد جيش الإسلام). بالطبع، لم يتوقع أحد أن يقوم هؤلاء بفتح محلات للبقالة بعد خروجهم من السجن في تلك الأوضاع!

ومع أنّ نوى المظاهرات تشكّلت غالبًا داخل الجوامع، فإنّ الوصول إلى الساحات العامة كان الهدف الأساس، كما دخل بعضهم إلى الجوامع ليخرج في المظاهرة فحسب، فيما انضمّ جزء آخر إلى المتظاهرين بعد خروجهم منها؛ لأنها، في الواقع، كانت الحيز الوحيد المتاح لتجمع الناس في بلدٍ محكومٍ بقانون الطوارئ منذ عدة عقود. لم يرق ذلك بالطبع لأولئك الذين غالوا في حذرهم من الطابع الإسلامي للثورة في البدايات، فشككوا في وطنية المتظاهرين، منطلقين من موقف نخبوي متعالٍ.

لكن، ومنذ خريف 2011، استُخدم المنشقون عن الجيش غطاءً لموجة تسلُّح عارمة، والتي لم يلبث أن تحول فيها هؤلاء إلى مجرد أفراد في عداد عشرات من المجموعات إسلامية الطابع والتمويل. وبالتدريج استولت هذه المجموعات على فكرة “الجيش الحر” قبل أن تستولي على ما تبقى من مجموعاته؛ بسبب تفوقها التمويلي، وبالتالي؛ العسكري. في هذه الأثناء، تراجعت الشعارات الوطنية التي رفعها المتظاهرون في الأشهر الأولى إلى المرتبة الثانية، ووقع الناشطون المدنيون وسلميَّتهم في تقاطع النيران.

مثَّل التسلُّح غير المنضبط وغير الخاضع لقيادة سياسية خطرًا محدقًا، وتزايد نفوذ المسلحين الذين يعملون تحت راية “الجيش الحر” أو خارجه. وما لبثت التنسيقيات أن خضعت أو أُخضعت لحملة السلاح بحجّة أولوية المعركة، ما يذكِّر بشعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” الذي رفعته الأحزاب القومية في الستينيات لتأجيل استحقاقات وطنية وديمقراطية كثيرة، ذلك أنّ القاسم المشترك في الحالتين -كلتيهما- هو استغلال عواطف الفئات الشعبية.

كما تعددت مرجعيات القوى الإسلامية المسلَّحة تبعًا لمصادر تمويلها، وحظيت بدعم إعلاميّ قلّ نظيره، والذي عمل على خلط الأوراق، وعدّ الجهاديين ثوّارًا، ومازال، مع أنّهم “لا يؤمنون” لا بالثورة ولا بسورية وطنًا. واستمر نشر ضباب الأوهام لاستيعاب شارعٍ محاصر فقد الأمل في أي مساعدة دولية، لطالما وعده بها معارضون مغمورون، كانوا قد حضَّروا أنفسهم للدخول إلى سورية كفاتحين.

هذا يختلف كليًا عن استخدام المشاعر الدينية وسيلة للصمود في المظاهرات، والمعبَّر عنها بشعار “يا الله.. ما إلنا غيرك يا الله.”، وهو ما يتناسب والطابع الإسلامي السوري البعيد نسبيًا عن الإسلام الجهادي، وإن كان بوسعه تشكيل حاضنة له في أحوال الانغلاق السياسي والحصار والقمع، ليتحول لاحقًا إلى إحدى ضحاياه.

الملفت في الأمر أنّ المعارضين الذين تنطّحوا “لقيادة الثورة” كانوا مطلعين على “تدنيس” الأسلمة لكل ما له بمصلحة السوريين، لكنهم سكتوا عنه في الإعلام؛ بحجج من مثل: “حتى لا نغضب الثوار على الأرض!” أو “حتى لا نسيء إلى سمعة ثورة حلمنا بها طويلًا!”.

وهكذا حصل النظام على ما يريده، فالشارع يُشحن طائفيًا، و”العصابات المسلحة” صارت موجودة وتدعى “الجيش الحر”، والنغمة الإسلامية هي السائدة، وبوسعه أن يقول للعالم: “انظروا.. هذه هي العصابات بشحمها ولحمها!”.

حينئذٍ، تحوّل النظام من حالة الاضطراب في الأشهر الأولى إلى اكتساب المزيد من الثقة بحساب أنّه يحارب متطرفين تغلغلوا في أماكن واسعة من سورية، وأقصوا كل من خالفهم الرأي، وصار بوسعه استجلاب آخرين للقتال إلى جانبه. هنا وجد الإيرانيون الفرصة سانحةً؛ للزجِّ بقواهم في المعركة وتحقيق مكاسب قومية جديدة في المنطقة. ثم بدأت فكرة الحرب على الإرهاب بالتبلور دوليًا في غفلةٍ من المعارضة الغافلة!

والحال أنّ الأسلمة أفقدت الثورة السورية مزيدًا من التضامن الدولي والعربي، واتّجه الوضع إلى مزيدٍ من التعفُّن والعنف العدمي المدمّر. كما نجم عن ذلك كلّه انقسام اجتماعي، ما انفكّ يتزايد، إذ لا يمكن لنصف السوريين، على الأقل، تأييد العسكرة أو الأسلمة، كلٍّ منهما على حده، فكيف إنْ اجتمعتا معًا؟

عمل الإسلاميون جميعهم على فرض المحاكم الشرعية، عوضًا عن المجالس المحلية التي عمل كثيرون بجهدٍ لافتٍ لتكون بديلًا من مؤسسات الدولة في حال فشلها. شكّل ذلك تقهقرًا كبيرًا في آليات الحكم، وأظهر عداء الإسلاميين المتأصل للدولة الحديثة ومؤسساتها، والتي يُفترض رفع يد الاستبداد عنها لا إلغاؤها.

ومنذ أواسط 2012، مضت الأيام متشابهة دون أن تتقدم الثورة عمليًا على طريق تحقُّق أهدافها في الحرية والكرامة، بمعنى تجاوز حالة الاستبداد إلى الديمقراطية. كما استمر التلاعب الإقليمي بالوضع السوري من خلال دعم طرفي الحرب، فيما عملت الأطراف الدولية على إدارة الصراع، لا البحث عن حلول، بانتظار توافقها على المصالح، فدخلنا في متاهةٍ سنسلك دروبها المسدودة واحدًا بعد الآخر، وحتى نهتدي إلى تلك النهاية النافذة.

مع وجود العلاقة العضوية بين الأسلمة والعسكرة، أميل إلى أنّ العسكرة هي التي اجتذبت الأسلمة كأداة شحن وتبرير لممارسات اعتقدنا أن العصر قد تجاوزها إلى غير رجعة. ومن خلال الأسلمة تم حشد الجهاديين من أنحاء العالم كافة؛ لخوض حربٍ مذهبية على الساحة السورية.

يعي طرفا الاستبداد، المدني والديني، ما يجمعهما؛ ذلك القاع الذي يختمر فيه الجهل والفقر واليأس، من حيث يحصلون سويةً على المَدَد، وبين تخوين هؤلاء وتكفير أولئك، يحلّ الخراب في البلاد!

لن يمرّ وقتٌ طويل قبل أن يدرك السوريون أنّ خلطة العسكرة والأسلمة، التي دخلت على خطّ مطالبهم المشروعة؛ للتخلّص من نير الاستبداد، كانت أشبه بوباء فتك بالثورة، وساهم بتدمير سورية وتهجير أهلها!




المصدر