معركة “غضب الفرات” … معركة تحرير أم تقسيم؟
9 نوفمبر، 2016
مع إعلان ميليشيات سورية الديموقراطية رسمياً انطلاق معركة عزل “الرقة” تكون أولى فصول المعركة اللامنتهية قد بدأت، وفيها تؤكد “واشنطن” مرة أخرى أن سياستها ما تزال ماضية في عملية التسويف ودفع جبهات القتال في سورية إلى حالة من الاستنزاف الدائم، وإلى مزيد من خلط الأوراق الذي يهدف لإطالة أمد القتال، وإبعاد أي احتمال لحلٍ يمكن أن يوقف شلال الدماء المسكوبة في أرض سورية، نظراً لاستبعاد الأركان الأمريكية لفصائل الجيش الحر عن المعركة والاعتماد على ميليشيات كردية انفصالية مارست التطهير العرقي وارتكبت مجازر بحق كل المكونات السورية في مناطق سيطرتها (بتقارير موثقة من منظمة العفو الدولية)، والآن تدفع بها نحو مدينة جل سكانها من العرب الأقحاح.
من حيث المبدأ فالبيان الذي أعلنته ميليشيات “صالح مسلم” عن بدء معركة “عزل الرقة” من قبل قوات سورية الديموقراطية منفردة باستثناء دعم جوي من التحالف الدولي، هذا البيان لا يعتبر ملزماً للإدارة الأمريكية ولا معبراً عن خطتها العسكرية في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بقدر ما يعبر عن أحلام وتطلعات تلك الميليشيات، ومراقب الأحداث يعلم أن عدد المشاركين في المعركة لم يُحسم بعد، وحجم المشاركة للفرقاء لم يُحدد أيضاً، فآخر التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض تقول: إن هناك مستوىً عالٍ من التنسيق بين “واشنطن” و”أنقرة” حيال كل ملفات المنطقة، ورئيس الأركان الأمريكي “جوزيف دانفورد” يتواجد الآن في “أنقرة” أيضاً للقاء نظيره “خلوصي”، والتجربة علمتنا أنه في العلاقة بين الدول ومصالحها يموت الصغار، ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحاجتها لوجود تركيا في تلك المعركة والحرب على الإرهاب بشكل عام لا يمكن أن تُلغيها مصالح ضيقة مع ميليشيات “مسلم” التي ترفض أي دور لتركيا في المعركة، وواشنطن أيضاً لا تستطيع أن تتجاوز مدى أهمية قاعدة “أنجرلك” الجوية التي يمكن أن تغلقها “أنقرة” في وجه أية عملية عسكرية لا تتوافق مع أجنداتها السياسية أو تَضر بأمنها القومي. حتى المملكة العربية السعودية أعلنت مشاركتها عبر العميد “أحمد عسيري” الذي قال: يمكننا المشاركة بعملية “الرقة” عبر جهود طائراتنا من المملكة أو من تلك الطائرات المتواجدة في قاعدة “أنجرلك” التركية، ومن المؤكد أن “أنجرلك” لن تكون متاحة إن لم تشارك تركيا.
معركة “عزل الرقة” عن أريافها الشرقية والغربية والشمالية تعني بالمفهوم العسكري تقطيع أوصال تجمعات تنظيم “داعش” وحصاره داخل أسوار المدينة، وقطع كل خطوط إمداده وتحجيم تحركاته ومناوراته سواء كان بالقوى أو بالوسائط، ومعركة من هذا النوع تحتاج لجهود جوية كبيرة ولحشود عسكرية لا تقل إمكانياتها وقدراتها عما تم حشده لمعركة “الموصل” في العراق، التي شاركت بها جهود أكثر من 60 دولة بإمكانياتها المتطورة مع أكثر من 60 ألف مقاتل تمّ الزج بهم على جبهات القتال، ورئاسة الأركان الأمريكية وجهاز المخابرات (السي آي إي) هما أكثر من شكك بالأعداد التي قدمها تنظيم “قسد” والذي أعلن أنه قادر على تأمين 30 إلى 40 ألف مقاتل في معركة “الرقة”، بينما أعدادهم الحقيقية قد لا تتجاوز 14 ألفًا فقط، خصوصاً بعد انسحابات وإبعادات طالت الكثير من الفصائل العربية المنضوية تحت قيادة “قسد” وكان آخرها استبعادها للواء “ثوار الرقة” ومنعه من الاشتراك بالمعركة الحالية.
لكن بالمقابل، فالموقف المتزمت لميليشيات “قسد” واستبعادها لأي جهد تركي (حسب البيان الصادر)، يقابله موقف حازم أكثر من تركيا بعد رفض “أنقرة” على لسان الرئيس “أردوغان” لأي وجود لـ”قسد” في معركة تحرير “الرقة”، وبالتالي تقف واشنطن في حيرة من أمرها حول كيفية التوفيق بين حلفائها الأكراد ومصالحها مع أنقرة.
ما تسرب عن لقاءات المسؤولين الأمريكيين في أنقرة وعن النقاشات التي جرت مؤخراً، يؤكد أن “واشنطن” أمسكت بالعصا من المنتصف وقسمت العملية إلى مراحل؛ مرحلة العزل التي تحتاج لجهود بسيطة على الأرض أسندت المهمة فيها لقوات سورية الديموقراطية باعتبار أن الطيران والجهد الجوي يقوم بجل عمليات الهجوم والملاحقة والتدمير، أما المرحلة الأساسية في تحرير عاصمة “البغدادي” فسيكون فيها لتركيا الدور الأبرز مع حليفها “الجيش الحر”، ولمنع قتال “قسد” مع الأتراك في جبهة واحدة قد تكون هناك قطاعات الهجوم منفصلة على محاور التقدم نحو الرقة بمرحلة لاحقة تُبقي على التعهد التركي بعدم القتال مع كرد “مسلم” بجبهة واحدة (لأنه يشكل اعترافاً بهم)، وتحفظ ماء وجه “قسد” وتحالفها مع “واشنطن”، أما المرحلة النهاية والمقصود فيها معركة دخول المدينة فتؤكد “واشنطن” أنها ستكون بفصائل عربية حتماً.
ومع الإعلان عن بدء معركة “عزل الرقة” تابع طيران التحالف بقيادة “واشنطن” جهوده الاستطلاعية التي لم تفارق سماء سورية والتي تهدف لتحديد مواقع وتحركات تنظيم “داعش” ومراكز سيطرته وقياداته، وقام أيضاً طيران التحالف بعدة هجمات على مواقع “داعش” التي بادرت بهجمات استباقية وتفجير “مفخخات” ضد مواقع “قسد” في قرية “لقطة” و”الهيشة” و”سلوك” قرب بلدة “عين عيسى”.
وبالعودة لإمكانيات تنظيم “قسد” في تلك المعركة ومآلاتها، فمن الواضح أن هذه المعركة تشكل ثوباً فضفاضاً قياساً على إمكانياتها عسكرياً وسياسياً واجتماعياً.
عسكرياً، ومهما قدمت واشنطن من دعم تسليحي لحليفها الكردي فإمكانياته لا تسمح، ولن تستطيع الاستجابة لمتطلبات معركة تعني لتنظيم “داعش” الإرهابي معركة وجود أو لا وجود، وخبرات المعارك السابقة لـ”قسد” لا تبشر بالخير، فمعركة الباب الصغيرة قياساً لمعركة الرقة احتاجت من “قسد” لأشهر ثلاثة ولم تستطع فيها ميليشيات “مسلم” التقدم خطوة واحدة دون غطاء جوي وقصف تمهيدي ومرافقة ودعم، وكانت تلك القوات تتقدم على أنقاض الدمار الذي تحدثه ضربات الطيران دون أي جهد قتالي لقوات المشاة الأرضية، أما معركة عين العرب “كوباني” والتي يتغنى بها رجال “صالح مسلم” فتبقى بالمنظور العسكري أحد الأمثلة الفاشلة بعد أن تم تدمير المدينة بالضربات الجوية وأصبحت معظم أحيائها غير صالحة للسكن، وبالتالي فمصير مدينة “الرقة” وفق هذا المثال يعني أن يتم محوها عن خارطة سورية، ولكن بالمقابل لو تم اتخاذ تجربة الجيش الحر في مدينة “جرابلس” والطرق التكتيكية التي تم اتباعها وأسلوب حماية أحياء المدينة وسلامة من فيها يعتبر مثالاً أوضح على قدرات وإمكانيات الجيش الحر، ومع ذلك تتجاوزه قرارات وتحالفات “واشنطن” في الداخل السوري.
المشكلة الأكبر والمعضلة التي لا يمكن قبولها من الشعب السوري هو وضع مدينة الرقة بيد غير أصحابها، فكل البلدات التي دخلتها ميليشيات “مسلم” مارست على سكانها العرب أو التركمان أو الآشوريين وحتى الأكراد الرافضين لأجندة “مسلم” مختلف أنواع الاضطهاد والإبعاد والتغيير الديموغرافي والسلب والسرقة والحرق والتعفيش، وتاريخ تلك الميليشيات لا يشكل حالة اطمئنان لمعظم مكونات الشعب السوري، فلماذا تصر واشنطن على اعتمادها كذراع عسكري في عملياتها ضد تنظيم “داعش” وتبعد العرب وفصائل الجيش الحر عن تحالفاتها؟
ميليشيات سورية الديموقراطية التي بنت تحالفاتها مع نظام “الأسد” في القامشلي والحسكة ما زالت تتقاسم معه النفوذ داخل تلك المدن، وكذلك تتواءم مع أجندة الاحتلال الروسي في الريف الشمالي لحلب (عفرين ومنغ وتل رفعت)، وتعمل مؤخراً على صنع حزام أمني في المنطقة الممتدة من جنوب بلدة “مارع” في شمال حلب وحتى مطار “كويرس” في الشرق. هذا الحزام الذي يبعد خطر “الجيش الحر” القادم مع عملية “درع الفرات” عن أي تماس مع ميليشيات “الأسد” ويمنع “الحر” من التقدم لمؤازرة المناطق المحاصرة داخل أحياء حلب “الشرقية”، عدا عن الجهد الذي قدمته وتقدمه “قسد” للنظام في قطع طريق “الكاستيللو” وتثبيت حصار “حلب” من مواقعها في حي “الشيخ مقصود” و”السكن الشبابي” ، وتتوافق تطلعات “قسد” أيضاً مع الأجندة الأمريكية في معظم المناطق شرقي الفرات والتي منحت فيها للأمريكان مطارين عسكريين أحدهما في جنوب شرق مدينة “الحسكة” في منطقة “الرميلان” والآخر “قيد البناء والتشييد” جنوب مدينة “القامشلي”.
الولايات المتحدة الأمريكية تدرك رفض الشعب السوري لميليشيات “مسلم” وتعلم أن لتلك الميليشيات نوايا انفصالية رغم تصريحاتها التسويفية والمخادعة، ومع ذلك تصر “واشنطن” على الاعتماد عليها وإبقائها في مركز الحدث.
قراءة الموقف تقول أننا ذاهبون إلى صدام “كردي، عربي” أو صدام “كردي، تركي” على أقل تقدير لأن البدايات الخاطئة تودي إلى خواتيم خاطئة.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل هي معركة تحرير وتخليص مدينة الرقة من سيطرة تنظيم “داعش”؟ أم معركة ترسيخ الوجود الكردي في المنطقة العربية وتهيئة الظروف لحروب جديدة متوقعة مع إعلان صالح مسلم الانفصال عن سورية كما هو متوقع؟
ختاماً نقول: الرقة عربية وستبقى عربية، وسورية لن تقسم، ومن شرب البحر لن يعجز عن شرب النهر، ومن حارب العالم الذي يحمي “بشار الأسد” لن يعجز عن مواجهة أية أجندات تقسيم في سورية.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]