عن الحسم الأميركي في الصراع السوري

9 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016

ماجد كيالي

منذ بداية الثورة السورية بدت بعض أوساط المعارضة تُعوّل على موقف تدخّلي للولايات المتحدة، مساند لمطلب إسقاط النظام، من خلال نزع شرعية نظام الأسد، وفرض العزلة عليه، وتوجيه الضغوط ضده، السياسية والاقتصادية والعسكرية. وليس خافيًا أن أوساطًا في المعارضة وصلت في مراهناتها حد التعويل حتى على إمكان التدخل عسكريًا، إن بتسليح “الجيش الحر”، أو بفرض مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، وحتى القيام بشن ضربات عسكرية ضد قواعده العسكرية.
لم تأت هذه المراهنات عبثًا، إذ سبق أن تدخلت الولايات المتحدة في مناطق أخرى من العالم، كما حدث في يوغوسلافيا السابقة، وفي العراق مرتين، وحدث ذلك في ليبيا، أيضًا، وإن عبر القصف الجوي والإدارة من الخلف. وعمومًا فقد تغذّت هذه المراهنات، في الحالة السورية، من تصريحات الرئيس الأميركي، ووزيرة خارجيته، وأركان إدارته، منذ بداية الثورة، والتي عبرت عن تأييدها ثورة السوريين، وعدّها أن “الأسد فقد شرعيته وأن عليه أن يرحل”، كما تغذت من نشاط السفير الأميركي في دمشق، الذي زار ساحة الاعتصام الشهير في حماه (2011)، كما زار البؤر الشعبية المشتعلة في دمشق، مثل دوما وداريا.
بيد أن هذه المراهنات ثبت ضررها فيما بعد، أولًا، لأن الإدارة الأميركية لم تقل ولا مرة بأنها ستتدخل عسكريًا، وإن كانت سمحت لبعض الدول بتسليح المعارضة بأسلحة فردية. ثانيًا، لأنها شجّعت بعض أوساط المعارضة على حصر الثورة السورية بالعمل المسلح، وبالتالي؛ إبعاد الشعب عن المشهد، بحيث بات يقتصر على المتقاتلين. ثالثًا، لأن هذه النقلة غير الطبيعية، او المتسرّعة، هي التي أدت إلى ارتهان الثورة للمساعدات الخارجية، المادية والعسكرية، وجعلتها -تاليًا- تخضع لإملاءات وأجندة هذه الدولة أو تلك.
المعنى هنا أنه يمكننا أن نلوم إدارة أوباما على أشياء كثيرة، وضمنها تراجعها عن مواقفها السياسية إلى حد تمييع مقررات بيان جنيف 1، وترك روسيا وإيران تتدخل عسكريًا في سورية، والنكوص إلى حد القبول بالأسد في المرحلة الانتقالية، والتلاعب بالثورة المسلحة، بحيث لا تُسلّح على النحو الملائم، ولا يُتخلى عن التسليح، وبحيث تبقى المعادلة لا غالب ولا مغلوب؛ ما يديم الصراع ويبقى معاناة السوريين. لكن مع لوم الإدارة الأميركية ينبغي لوم معظم المعارضة السورية على مراهناتها الخاطئة والمتسرعة والساذجة على الإدارة الأميركية، فالدول ليست جمعيات خيرية، والولايات المتحدة دولة كبيرة، وتشتغل وفق مصالحها وأولوياتها هي، وليس وفق أولويات ومصالح غيرها، وهي تستخدم القيم الأخلاقية استخدامًا انتقائيًا، وبما يتلاءم ومصالحها، وفي الزمان والمكان الملائمين.
مناسبة هذا الكلام، أيضًا، تأتي ونحن على عتبة دخول رئيس جديد إلى البيت الأبيض الأميركي، والقصد منه التوضيح، أولًا، أنه ينبغي الحرص على العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، فهي الدولة الأقوى والأقدر في العالم، وخيرها وشرها، يصيب العالم كله، لكن ينبغي -قبل ذلك- التخلص من الأوهام والأخطاء، وضمن ذلك احتمال التعويل على رئيس آخر بعد أوباما. ثانيًا، الحقيقة التي ينبغي إدراكها -هنا- هي أن الولايات المتحدة لا تشتغل وفقا لإرادة الرئيس، لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي، فهذه دولة، أعجبتنا أم لا، تشتغل وفقًا للفصل بين السلطات، التشريعية والقضائية والتنفيذية، أي كل سلطة لديها ما يقيدها. ثم أن الرئيس لا يمكنه -في أي حال- أن يخالف إرادة الكونغرس الأميركي، ولا سيما أن هذه دولة فدرالية، وديمقراطية. ثالثًا، أيضًا، يفترض أن نعرف أن الولايات المتحدة الأميركية هي دولة تديرها الشركات الكبرى، وهذه موازناتها تضاهي موازنات دول متوسطة الحال، وطبعًا فإننا لا نتحدث -هنا- عن شركات أهلية (أو عائلية)، إذ إن هذه بمنزلة مؤسسات بمعنى الكلمة، أي تشتغل وفق قواعد الإنتاج والربحية والأهلية والكفاءة وإتاحة الفرص في الوقت ذاته. رابعًا، الرأي العام الأميركي لا يتأثر كثيرًا بالشؤون الخارجية، واهتمامات أكثر من 90 بالمئة من الناخبين الأميركيين تتعلق بشؤونهم الداخلية (الصحة والتعليم والوظائف والضرائب)، وحدها النخب الأميركية هي التي تهتم بالشؤون الخارجية، والاهتمام ينصب على تعزيز مكانة الولايات المتحدة كقطب مسيطر، ومتفوق. خامسًا، لذلك كله؛ فإن الشركات والمؤسسات ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث هي التي تصوغ الرأي العام وتوجهات الناخبين، أي: إن اللعبة الديمقراطية -هنا أيضًا- تتحدد بناء على امتلاك وسائل القوة والهيمنة (المال والتحكم بالفضاء العام)، علما بأننا نتحدث عن دولة تقدس الحريات الفردية. سادسًا، ما تقدم لا يعني أن الرئيس ليس له بصمة، لكنه يعني أن الرئيس هو بمنزلة موظف، أو كبير الموظفين، بيد أن رأيه يبدو مقررًا أكثر في الشؤون والسياسيات الداخلية، لكن في قضايا السياسية الخارجية ودور الولايات المتحدة في الخارج فهنا دوره اقل، وهذا تحدده المؤسسة الحاكمة أو الدولة العميقة التي تتحكم بها الشركات ومراكز الأبحاث واللوبيات… إلخ.
الآن، وفيما يخص الصراع السوري، فإن الولايات المتحدة هي -على الأغلب- التي تتحمل مسؤولية الحسم أو عدم الحسم فيه، بهذا الشكل أو ذاك، فهي الدولة الأقوى والأقدر، وحتى أن روسيا وإيران وتركيا والسعودية، وكل الدول، لا يمكنها أن تتدخل في هذا الصراع، وعلى الجانبين، إلا بناء على الهامش الذي تتيحه الإدارة الأميركية. والمشكلة أن هذه الإدارة ظلت تشتغل لاستثمار الصراع السوري، وفقًا لمعادلة ديمومة الصراع، بغرض وضع الدول المذكورة في مواجهة بعضها، لاستنزافها وإضعافها؛ وحتى الآن، هذه هي المعادلة السائدة إلى حين حصول تغير في السياسة الأميركية، مع هذا الرئيس أو مع ذاك.
على ذلك، أي: إلى حين حصول لحظة الحسم الأميركية، يفترض بالمعارضة السورية أن تعيد تنظيم بيتها من كل النواحي، وأن تعيد ترشيد خطاباتها؛ لأنه -من دون ذلك- لا أحد يعرف كيف سيتم ترتيب الوضع السوري، أو أن هذا الوضع سيترتب بناء على تصورات الفاعلين الخارجيين، ولا سيما الولايات المتحدة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]