النقد الأدبي الغائب!


بدر الدين عرودكي

ما الذي يجعل النقد الأدبي اليوم أكثر غيابًا عن الساحة الثقافية العربية العامة، مما كان عليه في أي وقت مضى؟ وما الذي يجعل الطابع العام لما ينشر من “تعليقات” على أو “متابعات” لما يصدر من أعمال أدبية، ولاسيما في مجال الرواية والقصة، مفتقرًا إلى أدنى المعايير المنهجية أو الجمالية التي تتطلبها قراءة جادة في الأعمال الأدبية؟

لا شيء في ظاهر حياتنا الثقافية خلال العقديْن الأخيريْن، من حيث المبدأ، يمكن أن يفسر هذا الغياب للنقد أو لمعاييره العامة. فالإنتاج الأدبي، الروائي منه خصوصًا والقصصي عمومًا، فضلًا عن المجموعات الشعرية، لم يكن، من حيث الكمِّ، أكثر عددًا وتنوعًا مما هو عليه اليوم؛ فها هي دور النشر تتكاثر هنا وهناك في أرجاء العالم العربي كلها كما لو أنها تستجيب لحاجات أو لضرورات أخرى لم تعد دور النشر “العريقة” في مصر وفي لبنان خصوصًا، قادرة على الاستجابة لها وحدها؛ والجوائز، ولاسيما في مجال الرواية، هي الأخرى، تتكاثر في مشرق العالم العربي ومغربه وتجد على الدوام عددًا كبيرًا من الأعمال الأدبية المرشحة لنيلها.

هناك دون أدنى شك أبحاث جامعية لا حصر لها تُقدَّمُ كل عام في كليات الآداب في الجامعات العربية أو في تلك المختصة بالأدب العربي في الجامعات الأجنبية، حول هذا الكاتب أو ذاك أو حول هذه الرواية أو تلك. ومن المفترض أن من سمات هذه الأبحاث جميعًا جديتها ومنهجيتها ودقتها التحليلية وغياب كل غاية سوى الغاية العلمية المحضة التي دفعت للقيام بها. لكنها -للأسف الشديد- بقيت وتبقى حبيسة أرشيف الكليات المعنية، لا يعلم بها أحد سوى مؤلفها والمشرف عليها وأعضاء لجنة التحكيم التي قررت قبولها ومنح الدرجة العلمية المطلوبة عليها؛ هذا ما لم يعمل مؤلفوها -وقلما يفعلون عادة- على إعادة صياغتها وإعدادها للنشر.

كانت المجلات الثقافية التي ازدهرت -كمًّا وكيفًا- في ستينيات القرن الماضي، ومثلها الملاحق الثقافية التي كانت الصحف اليومية تصدرها -ولاسيما في مصر وسورية ولبنان- قد أسهمت على نحو واسع لا في استمرار حركة نقدية نشيطة وفعالة من قبل فحسب، بل وفي ظهور جيل جديد من النقاد كان يرافق جيلًا آخر من الروائيين والقصاصين والشعراء، ويتابع إنتاجه تحليلًا وتعريفًا وتقويمًا. لكن هذه المجلات والملاحق أخذت في التلاشي بالتدريج من المشهد الثقافي العام. وأخذت تغيب معها ما كانت الحياة الثقافية العربية قد عرفته من ضروب النقد التي كانت تحتل مكانة مهمة على صفحاتها.

معظم هذه المجلات غاب اليوم. وعلى الرغم من محاولات استعادتها في هذا البلد العربي أو ذاك، إحياء أو تجديدًا، فإنها لم تؤد مع الأسف -حتى الآن على الأقل- إلى إحياء حركة نقدية بدت وكأنها قد تلاشت مع من لعب الدور الأهم في وجودها واستمرارها. ذلك أن غياب كبرى المجلات أدّى –أيضًا- إلى غياب النقاد الكبار الذين حفلت طوال ظهورها بهم مثلما احتفلت بكتاباتهم. ولا يبدو أن من جاءوا على إثرهم، في محاولات الاستعادة هذه، قد أدركوا حتى الآن الأهمية الشديدة للنقد -نظريةً ومناهجَ وتطبيقاتٍ- في الميدان الثقافي عامة والأدبي خاصة، ولاسيما في أيامنا هذه التي تفرض بكل ما تطرحه من مشكلات وإشكالات ضرورة ممارسة النقد في كل مجال، وبطبيعة الحال في مجال الأعمال الأدبية على اختلاف أجناسها. ولا أدلّ على ذلك ما نلاحظه من المساحات الخجولة المخصصة للنقد أو للمتابعات النقدية أو من مضمون هذه الكتابات.

إذ أن ما نقرأه اليوم على أنه “نقد أدبي”، سواء في هذه المجلات أو في الملاحق الثقافية التي لا تزال تصدر حتى اليوم، لا يتجاوز في معظمه مجرد قراءات سريعة لهذا العمل الأدبي أو ذاك، أو تعليقات بسيطة عليه أقرب إلى الأخبار الأدبية منها إلى العمل النقدي الجاد. لا تفرق في قراءاتها هذه بين أجناس المُبدعات الأدبية وقوانينها الداخلية التي لا يمكن دون تفكيكها –تقنيًا- الوصول إلى دلالاتها، أيًا كانت طبيعة هذه الدلالات، اجتماعية أو تاريخية أو سياسية. بحيث يتم تناول الرواية أو القصيدة كما لو أنها منشور سياسي أو مقال اجتماعي.

ذلك أن الاختصارات في هذه المجالات تتكاثر كالفطر. فالقراءة السياسية أو بالأحرى السياسوية لرواية ما، لا تنطلق من تحليل دقيق لعناصر بنائها الأدبي والجمالي وصولًا بعد ذلك إلى استخلاص الدلالات الممكنة التي يمكن الوصول إليها في نهاية عملية تحليلية إضافية، بل من مجرد انطباعات سريعة توحي بها أو ربما تقولها هذه الشخصية أو تلك من الرواية أو، وغالبًا ما نلحظ ذلك، من بعض ما يدلي به المؤلف إلى صحفي يستبدل أقوالَ المؤلف خلال مقابلة سريعة يجريها معه بنقد جادٍّ للعمل الذي يعنون به مقابلته!

وليست القراءات السياسوية وحدها التي تحفل بها تلك المساحات، بل تحفل كذلك بالقراءات الاجتماعوية والنفسوية الساذجة التي تقوم على اعتماد بعض المصطلحات الملتقطة هنا أو هناك دون إدراك لمعانيها أو لمدلولاتها ومواضع استخدامها.

بذلك لا يغيب النقد فحسب بل يغيب معه –أيضًا- كل ما يفترض به أن يؤكد على وجوده ويحلل عناصر بنيته، أي ما يميز المُبدعات الأدبية في جمالياتها ومقوِّماتها وقوانينها التقنية المحضة الخاصة بجنسها عمومًا وبكل مبدع منها خصوصًا.

إذا كان غياب المجلات والملاحق الثقافية أو تهاون ما بقي منها في الاهتمام بهذا الميدان يمكن أن يجيب جزئيًا عن السؤال المطروح في البداية، فما هي العناصر الأخرى التي يمكن أن تستكمل الإجابة المنتظرة؟

لعلَّ أكثر هذه العناصر دلالة -ولربما أهمها- قصور التكوين الثقافي الحقيقي أو الخبرة العملية والمهنية أو كليهما معًا، لدى معظم من يتصدّون للعمل في الصحافة الثقافية أو الأدبية. ومن المؤسف أن كثرة ممن يملكون مثل هذه الخبرة أو هذه الثقافة الضرورية من الجيل الشاب -على وجه الخصوص- لا يجد طريقه إلى العمل في هذه الصحافة مسؤولًا أو محررًا أو مُستكتبًا. من السهولة بمكان مثلًا على صعيد تقسيم الأبواب في الصحافة الثقافية، أن نلحظ الإهمال شبه الكامل للأبواب النقدية والاحتفال المفرط بالأبواب التي تحمل عناوين شتى: نصوص، إبداع، شعر، إلخ. هناك أيضًا ما يمكن أن يؤلف عنصرًا تابعًا، أي أن إمكان وجوده يتوقف على وجود غيره، وهو عدم وجود علاقة شخصية، ثابتة ومستقرة، بين دور النشر وبين الصحفيين العاملين في الملاحق أو المجلات الثقافية. إذ تفترض مثل هذه العلاقة أن تقوم دور النشر بتزويد هؤلاء الصحافيين أو النقاد بكل جديد من منشوراتها بما يسمح -قدر الإمكان- من تقديم هذا الجديد نقدًا أو تعليقًا أو في أقل الاحتمالات تعريفًا.

ذلك بعض ما يمكنُ أن يفسر -في هذه العجالة- غياب حركة نقدية حية في مجال الأدب ومبدعاته. حركة ربما كانت من أكثر الحاجات الضرورية والملحة التي تتطلبها حياتنا الثقافية الراهنة.




المصدر