انفصاليون أم لا؟

10 نوفمبر، 2016

غياث كنعو

تواتر الأخبار من محافظة الحسكة (الجزيرة السورية)، بات مصدر قلق وحيرة، وينذر بعواقب وخيمة لا تحمد عقباها على المدى البعيد، على خلفية الإجراءات التي انفردت بها ما يسمى “الإدارة الذاتية” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وميليشياته العسكرية (وحدات حماية الشعب الكردي)، والأمنية (الأسايش)، برعاية روسية – إيرانية، ورضا من النظام السوري، ومن أبرز تلك الإجراءات إصدار “قانون” إدارة أملاك الغائبين أو المهاجِرين، وقيامها بإجراء إحصاء في منطقة سيطرتها، وأخيرًا قيامها بفرض منهاج دراسي على جميع المدارس في المنطقة المذكورة، مع إلغاء العمل بالمناهج المعمول بها في المدارس السورية، الأمر الذي أثار امتعاض الأكراد قبل العرب.

في التفاصيل، أصدرت الإدارة الذاتية منذ أكثر من ستة أشهر قانونًا أسمته قانون إدارة أملاك الغائبين أو المهاجرين، بهدف وضع اليد على جميع العقارات من أراضي زراعية وعقارات سكنية وتجارية، تلك التي تعود ملكيتها لأبناء المحافظة، الذين اضطرتهم الأوضاع إلى النزوح الداخلي أو الهجرة إلى خارج سورية، واستثمارها لحين عودة أصحابها، وهو النهج ذاته الذي يسير عليه تنظيم (داعش) في مناطق سيطرته في محافظة الرقة، إضافة إلى منع حتى المقيمين هناك من بيع عقاراتهم إلا بموجب موافقة من الجهات المعنية في الإدارة، مع منع مُطلق لبيع أي عقار يمتلكه كردي إلى عربي، وهذا ما يذكرنا بقرارات النظام سابقًا، التي منع بموجبها بيع الأراضي أو العقارات إلا بموافقة أمنية.

في الحقيقة لم نتمكن من الوقوف على حيثيات هذا القانون، الذي لم تصلنا نسخة منه، بسبب الخوف الذي ينتاب الجميع من جراء القمع الذي يُمارس، جعل سكان المحافظة يترحمون على ممارسات أجهزة النظام الأمنية، على الرغم من قساوة وبشاعة وقذارة أساليبها.

إضافة إلى ما سبق أن قامت به الإدارة المذكورة من إجراء إحصاء في المدن والبلدات والقرى المهيمنة عليها، وما رافق ذلك من حظر للتجوال خلال أيام الإحصاء -في سابقة لم تقدم عليها حتى الدول التي تقيم إحصاءها السكاني- الذي لم تعرف دوافعه حتى اللحظة، وإن كان بعضهم يميل إلى تحليل واستقصاء أن الهدف من ورائه هو حصر عدد الشبان؛ للالتحاق بالتجنيد الإجباري الذي فرضه الحزب الكردي وقواته العسكرية، على جميع الشبان، ومن مختلف المكونات وبالقوة، تحت طائلة الملاحقة والاعتقال والتعرض للأهالي، إلى جانب التحضير للفيدرالية التي أُعلن عنها في آذار/ مارس الماضي، والمزمع قيامها في القريب العاجل -بحسب بعض المصادر التي أشارت إلى أن كل ذلك يتم بالاتفاق والتنسيق مع النظام- والتي قوبلت بالرفض من مختلف المكونات، بوصفها إجراءً إفراديًا يهدف إلى محاولة تحديد شكل سورية المستقبلي، عبر فرض أمر واقع في أجزاء من الأرض السورية، ويتفق بعضهم مع هذا التحليل، مع توقعات بتزوير نتائج الإحصاء بزيادة نسبة عدد الأكراد في المناطق المهيمن عليها؛ لتصل إلى 50 بالمئة، خلافًا لما هي عليه على أرض الواقع، وتأكيدًا لهذا الرأي، فقد رُحّل جميع النازحين من أبناء دير الزور، وبموافقة النظام، بالطائرات إلى دمشق، إذ رحلت الدفعة الأولى في 24 الشهر الماضي، بحسب صفحات التواصل الاجتماعي بالقامشلي.

أما الإجراء الثالث ضمن سلسلة إجراءاتها، فهو فرض مناهج الإدارة الذاتية وبـ “لغة” كردية صرفة -وبرأي أحدهم مناهج متواضعة وفقيرة في محتواها ومستواها- على المدارس، ضمن نطاق سيطرة الحزب وميليشياته، علاوة على الممارسات السيئة بحق الجهاز التدريسي من شتم ومنع وإبعاد وطرد من السلك التعليمي، ما أضرّ بالعملية التربوية، وأدى إلى إغلاق 1300 مدرسة بسبب رفض الأهالي إرسال أبنائهم إليها، ورفضهم لهذا المنهاج الذي يُهدد مستقبلهم، وقد وصل بهذه الإدارة الأمر لدرجة الإيعاز للمدارس الخاصة، وتحديدًا تلك التابعة للطوائف المسيحية، بعدم استقبال أي طالب من المدارس الرسمية، ومن المكونات المختلفة، فضلًا عن قيام (الأسايش) في الآونة الأخيرة باقتحام مدرسة (دجلة) الخاصة في مدينة المالكية، وإخراج جميع التلاميذ الأكراد منها، بحيث وصل الأمر إلى اعتقال خمسة أشخاص لبضع ساعات ممن اعترضوا على هذا التصرف الأرعن وغير المسؤول، يضاف إلى ذلك، وبحسب بعض المصادر المتابعة في المحافظة، أنه اتُفق بين مديرية تربية النظام والإدارة الذاتية للسماح لأبناء المنطقة الجنوبية (الشدادي وغيرها من المناطق التي يسكنها العرب حصرًا) التعلم وفق المنهاج السابق، بفرض شرط تدريس “اللغة الكردية”؛ لكن الذي لا نعرفه بأي “لغة كردية” سيتم التعليم؟ بما أن هناك أربع أو خمس لغات كردية تختلف فيما بينها حتى كتابة وليس لفظًا فحسب.

سبق لمنظمة مراسلون بلا حدود أن أصدرت تقريرًا مفصلًا بعنوان “وسائل الإعلام في مناطق سيطرة الأكراد في سورية، بين مطرقة الاتحاد الديمقراطي وسندان “الأسايش”، أدانت فيه تصرفات حزب الاتحاد الديمقراطي، واصفة إياها بأنها انتهاك لحقوق الإنسان، واتهمتها بتنفيذها اعتقالات واسعة بحق الناشطين الأكراد والعرب المعارضين للنظام في سورية أو لممارساتها.

لقد أفرزت تلك الإجراءات المذكورة أعلاه وغيرها من الإجراءات، واقعًا مؤلمًا يُنذر بمستقبل قاتم، بدأت ترتسم ملامح لوحته التشكيلية، بتواطؤ من النظام، منذ سماحه لحزب الاتحاد الديمقراطي – الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، بافتتاح مقر له في مدينة المالكية في أقصى الشمال الشرقي من محافظة الحسكة مطلع عام 2012، وكانت تلك خطوة الألف ميل، ليتم بعدها الاستلام والتسليم بين النظام والحزب لمدن وبلدات المنطقة مثل المالكية والجوادية والقحطانية (قبور البيض، من التسمية السريانية – قبري حوري) وهي ترجمة حرفية للتسمية العربية، وذلك نسبة لقبور المسيحيين الأوائل الذين كانوا يطلون قبور موتاهم بالكلس الأبيض)، لتترجم لاحقًا إلى الكردية (تربي سبيي)، لتتدحرج كرة الثلج، عبر تسليم عامودا والدرباسية، ومن ثم إقامة حواجز للحزب في مدينة القامشلي صيف عام 2012.

تنبه بعض الغيورين من أبناء المناطق الشمالية الشرقية لهذه الخطوة التآمرية، وعرضوا حينها على قيادة الحزب في المالكية تشكيل جسم عسكري، قوامه المكونات الرئيسة في المحافظة (عرب مسلمين ومسيحيين وأكراد)، لحماية المنطقة، تحسبًا لسقوط النظام في غفلة، ينبغي أن يكون فيها الجميع جاهزًا لملء الفراغ الناجم عن هذا السقوط، وطبعًا قوبل هذا الطرح بالرفض، لتتوضح النيات المبيتة لاحقًا، على ما هي عليه اليوم.

تزامن تسليم تلك المناطق مع بدء سيطرة الجيش الحر على عديد من مناطق المحافظة، ولا سيما الريف الجنوبي، مركدة والشدادي، وصولًا إلى الهول وتل حميس واليعربية شرقًا، إضافة إلى مدينة رأس العين حتى الريف الشمالي الغربي ما بين الحسكة وتل تمر، التسليم الذي كان قد سبقه -سرّيًا- تشكيل ميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردي عام 2011، وصل عدد المقاتلين فيها خلال سنتين، وفقًا لبعض المصادر، إلى 45 ألف مقاتل في مجمل المناطق المسيطر عليها من الحزب (عفرين، عين عرب، والجزيرة)، استجلب عدد لا بأس به منهم من جبال قنديل في تركيا، إلى جانب فرض التجنيد الإجباري على الشباب الأكراد، الذين فر كثير منهم إلى خارج المحافظة، أو حتى خارج سورية، إلى شمالي العراق وتركيا وأوروبا؛ هربًا من هذا التجنيد، ليصل العدد الإجمالي في سورية إلى 60 ألف مقاتل، قبل أن ينسحب هذا التجنيد على الشباب العرب، خاصة بعد الإعلان عن تشكيل ما يُعرف باسم “قوات سورية الديموقراطية” التي ضمّت ما يُعرف بـ “الصناديد” التابعة لحميدي دهام الجربا، وكذلك الـ “سوتورو” السريانية، إلى جانب “الأسايش” الكردية، حاملة التسمية ذاتها لـ “أسايش” شمالي العراق، والتي التحق بها -بدورها- عدد من الشبان العرب أيضًا.

لقد تلقت تلك الميليشيا (وحدات حماية الشعب) و(الأسايش) مختلف أشكال الدعم المالي والعسكري من النظام السوري، باعتراف رئيس النظام، ومندوبه في الأمم المتحدة بشار الجعفري، الذي تفاخر بهذا الدعم، وخاصة ما يتعلق بتزويدها بالسلاح، ولم ينقطع توريد السلاح لهم من النظام حتى خلال المواجهة المصطنعة المزعومة بينهما أخيرًا في مدينة الحسكة، ومع بدء ظهور (داعش) في المحافظة، ودخولها إلى بعض المناطق مثل الشدادي وتل حميس ومركدة، فرض هذا الوضع على الجيش الحر واقعًا جديدًا، وصار في مواجهة النظام وميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية و(داعش)، التنظيم الذي قدّم خدمة جليلة للنظام والأكراد على حد سواء، فكل منطقة دخلها سلّمها لاحقًا إلى أحدهما، في مسرحيات لم تمر على السوريين.

جرى ويجري كل ذلك، في ظل تشظي كردي – كردي ركيزته البرزانية – الآبوجية، المختلفة تكتيكيًا والمتفقة استراتيجيًا، ولا سيما لناحية تسمية تلك البقعة الجغرافية من المحافظة بـ (روج آفا)، ونظام إدارة الحكم الذي ينبغي أن يسودها الآن أو مستقبلًا، وهو التشظي الذي دفع ثمنه حتى الأكراد أنفسهم؛ وغياب وتّغِييب بوصلة القوى الوطنية المحلية، بما في ذلك النخب العربية، وليدة التشرذم العربي الضائع في متاهات دهاليز التابع لهذه الجهة أو تلك، والرمادي والصامت، إضافة إلى غيبوبة مطلقة يصعب صحوتها في المدى المنظور، وشلل كامل عانى ويعاني منه المكون العربي المسيحي (السريان – الآشوريين – الكلدان)، المهاجر، أو المهجّر نصفه تقريبًا، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك الأرمن، الواهمين أن هذا الحامي وذاك الملجأ، ليضيع بذلك مئة عام من تاريخ هذه المحافظة التي بُنيت ونهضت بسواعد أبنائها الشرفاء، ليأتي حامل البندقية فارضًا -بالقوة- تاريخًا جديدًا مختلفًا كليًا، ويتعامل الجميع مع هذا الحامل كونه سلطة الأمر الواقع، وما النظام ومؤسساته إلا مجرد شاهد زور، إذا لم نقل أنه منغمس في جريمة ما يحدث.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]