تذكرنا للفظائع لا ينقذنا من الأخطار الحالية

10 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016

9 minutes

أحمد عيشة

القومية الحديثة لها طبيعتها المتميزة. المقارنات مع فظائع الماضي سهلة، ولكنها تهدد بأن تعمينا عن التهديدات التي نواجهها اليوم

مارين لوبان تعيد تكوين القومية المتطرفة لدرء انحدار الديمقراطية الفرنسية، الذي سببه تسلل المهاجرين المسلمين تصوير: جان بول بيليسييه/ رويترز

كنت أعتقد أني أعرف كل شيءٍ عن المخيمات، ولكن لم أكن عرف عن حقل الأسنان. عرفت الرايخ الثالث من الكتب والأفلام. أن تنشأ في أسرة يهودية من دون معرفة بالمحرقة أمر غير ممكن. التقينا مع نظرات أجدادنا العاتبة، المسجلة بشحوب، كانت مطبوعات زيتية من زمنٍ عندما كان الجلوس لالتقاط صورة هو مسألةٌ رسمية. الأطراف المفقودة من أشجار عائلتنا تغوص عبر العقود.

ولذلك عرفت أوشفيتز-بيركيناو قبل زيارة الموقع في الأسبوع الماضي، وعرفت عن 1.1 مليون شخص لقوا حتفهم هناك. عرفت كيف يتم اختيار أولئك الذين يُعدّون قادرين على العمل من بين البقية، والذين يتم إرسالهم للإبادة. عرفت عن أكوام متشابكة من نظارات ولفّات من القماش المنسوج من شعر الإنسان. لم تتجاهل إدارة المخيم شيئا مصادفةً، بصرف النظر عن الإنسانية. بينما كانت الشمس تغيب، والرياح المتجمدة تصل، أرشدنا دليلنا إلى ما تبقى من واحدةٍ من غرف الغاز. كان هنا المكان الذي توقفت فيه الشهادة لأنه لم ينجُ أيٌّ من الذين دخلوا، هنا لا توجد معرفة من دون قفزة من الخيال، والخيال ينتفض.

بعدها علمتني مشاهدتي الأسنان أشياء كثيرة؛ فقد حاولت “الوحدات الخاصة” لنزلاء المخيم الذين كانوا مكلفين بالتخلص من الجثث أن تحفظ الأدلة على الجرائم من خلال كتابة اليوميات ودفنها. بذروهم في الاراضي البولندية، جنبًا إلى جنب مع الأسنان التي صمدت أثناء حرق الجثث، متوقعين ذات يوم في موسم الحصاد للذكرى. وهناك وقفنا: عدد قليل من الصحفيين، واثنين من النواب والمعلمين والطلاب، الذين تراوح أعمارهم بين 16-18: كلنا نحو مئتي شخص، وتعهدنا ألّا ننسى أبدًا.

كانت مؤسسة المحرقة التربوية هي من أحضرتنا إلى هذا المكان، وهي مؤسسةٌ خيرية ترعى المدارس وتقدم الموارد المادية، والدورات الدراسية وشهادات الناجين، وهي برنامج للتلاقح الفكري. أن تتعرض سلالة محايدة لبعض الفيروسات يحفز دفاعات الجسم، وتولد أجسامًا مضادّة في الدم تقف ضد العدوى في المستقبل.

لأجيال، كانت الذاكرة الجماعية لفظائع القرن العشرين تقوم بتلك الوظيفة. بريطانيا لديها ثقة فريدة من نوعها في مناعتها. ويتضح من خلال الاحتفال بمقاومتنا للفاشية عندما استسلمت كثير من أوروبا. السردية التشرشلية للصحوة الانفرادية بين سقوط باريس ووصول تعزيزات أمريكية –لحظتنا الأروع- قد طغت في السنوات السابقة، عندما كان الاسترضاء سياسة الحكومة. سابقًا، قبل أن يكون هتلر رمزًا للشر، كان حصنًا ضد السوفييت ومهندس النهضة الاقتصادية الألمانية، كان يتم التعامل معه بتساهل دبلوماسي.

سعيًا إلى التهدئة، نعدّ أن ذكريات الحرب العالمية الأولى تلك كانت طازجة. وكان من الصعب أن نتصور أن الحضارة الأوروبية كانت متجهةً نحو مذبحةٍ آلية وفق ميزان أكثر عظمة. كان من الصعوبة بما فيه الكفاية لكي تنظر الى وجه كوجهِ جورجون اليوم، عندما تبعثرت الأدلة في جميع أنحاء القارة. ذكرى فظائع الماضي هي أمرٌ ضروري للوقاية من الفظائع في المستقبل، ولكنها ليست دليلًا موثوقًا به لنمط تطورهم.

التاريخ لا يعيد نفسه بدقة أكثر من أن نكون أنت وأنا تكرارًا دقيقًا عن والدينا. مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، ليست تكرارًا لـ جان ماري لوبان، الذي قاد الحزب نفسه، والذي دافع عن نظام المشير بيتان العميل، وقلل من شأن غرف الغاز على أنها “مجرد تفاصيل” في الحرب العالمية الثانية. لوبان الابنة أبعدت نفسها عن لوبان الأب. إنها تعيد تكوين التعصب القومي كما الترياق لمعالجة انحدار الديمقراطية الفرنسية، وتنسبه إلى تسلل المهاجرين المسلمين حيث ثقافتهم الدينية كما يقال لا بد وأن تمتزج مع القيم العلمانية للجمهورية.  مكافأتها هي مكانٌ متوقعٌ في الجولة النهائية للانتخابات الرئاسية في العام المقبل.

أيٌّ من الأحزاب اليمينية المتطرفة المزدهرة الآن في جميع أنحاء أوروبا، هي تكرارٌ صريح للحركات الفاشية التي استولت على السلطة عندما فشلت الديمقراطيات الهشة بين الحربين العالميتين في الترسخ، على الرغم من أن معظم أفكار التعبئة للاستثنائية الوطنية التي تم أسطرتها(إكسابها طابع الأسطورة) أولًا هي في ذروة تطرف تلك القارة.

روسيا الحديثة لا تكرر الاستبداد السوفياتي، على الرغم من أن فلاديمير بوتين قد أشرف على إعادة تأهيل ثقافي لستالين، ويطبق سياسة فقدان الذاكرة المؤسسية على جرائمه. يعرض دونالد ترامب الصفات الشخصية لطاغيةٍ وحش، ولكنه أبدًا لا يمكن أن يكون موسوليني أميركا، لأن الولايات المتحدة في عام 2016 ليست إيطاليا في عام 1922. وعندما تكتب صحيفة ديلي ميل عناوين تسمي القضاة بأنهم “أعداء الشعب”، فإنها لا تعيد تكرار حماسة الصحيفة القديمة نفسها لأصحاب القمصان السود (نسبة إلى منظمة المتطوعين للأمن الوطني في العشرينيات من القرن الماضي، في إيطاليا، وهي منظمة راعبة مهمتها تصفية الخصوم وزرع الرعب، م.). عندما شن نيجل فاراج حملته من أجل معاهدة بريخت مع ملصقات تصور اللاجئين كحشدٍ مهددٍ على الأبواب، لم يكن يعيد إصدار دعاية الثلاثينيات الألمانية، لأنه هذه هي بريطانيا في القرن الحادي والعشرين.

أن تستخدم تلك التعابير المألوفة المظلمة بطريقة بغيضة هو أمرٌ بغيض، لا يمكن تبريره. ولكن في أغلب الأحيان بلاغي أكثر منه حرفي. المسائل تختلف. ومن المغري أن تصل إلى التشابه الدقيق لأن ذلك هو المكان الذي نشعر أن الحصانة تكمن فيه. يريد الليبراليون الغاضبون أن يكونوا على يقينٍ من أن الأجسام المضادة التاريخية لا تزال في طبيعة الحال تسري في أوردة بلادنا، ولذا فإننا نشجب كل قطعٍ لنسيج الديمقراطية كما لو أنه كان مصنوعًا بسكين عتيقة، بل أن هناك نوعًا ضارًّا من الراحة في تلبس الأخطار الحالية في التحذيرات المتطرفة من الماضي. لنستحضر إلى الأذهان أسوأ ما حدث لنا ذات مرة، ضد الذين لديهم موارد الفهم، يمكن أن تعرقل تشخيص ما يحدث اليوم. ومن الأهمية بمكان أن نتذكر قاع الجحيم، ولكن من الصعب أن نتنقل إلى الحافة إذا صرخنا كما لو أنها تتهاوى بالفعل.

ليست هناك سابقة لدولةٍ ذات تقاليد ديمقراطية وحرية التعبير وسيادة القانون، على النحو المنصوص كما هي الحال في بريطانيا أو أمريكا التي تغرق في ظلامٍ شمولي. هناك مرونة كبيرة في مجتمعنا وثقافتنا. هل هناك سلالة قومية جديدة خطِرة في وسطنا؟ أعتقد ذلك. هل في إمكانها أن تتغلب على التلاقح التاريخي؟ لا أتمنى ذلك. هل تتكيف مع الظروف الحديثة، وتأخذ شكلًا الذي هو في حد ذاته حديثٌ أساسًا، ولم يسبق له مثيل؟ بكل تأكيد.

لم تكن الفاشية انحدارًا إلى حالة من الهمجية القديمة، فهي اختارت أن تشارك العلوم والتقنيات الصناعية الجديدة لمتابعة أكثر كفاءة لأهدافها، ولم تكن ترفض التقدم، بل ادعت أنها تمتلك التقدم. هذا هو الدرس الصعب من التاريخ: التهديد القادم هو التهديد الذي نناضل لمعرفته لأنه لا يزال بعيدا عن متناول الخيال.

اسم المقالة الأصلي Remembrance of atrocities won’t save us from present dangers الكاتب Rafael Behr، رافائيل بيهر مكان النشر وتاريخه الغارديان، The guardian، 8/11 رابط المقالة https://www.theguardian.com/commentisfree/2016/nov/08/holocaust-modern-nationalism-far-right المترجم أحمد عيشة

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]