سوري وصيني في مونتريال
10 نوفمبر، 2016
ميخائيل سعد
يسكن أحد أصدقائي في حي يقطنه بعض الصينيين الذين استطاعوا، بعد سنوات، من الخروج من “الغيتو” الصيني في مونتريال. وبالمناسبة، “الغيتو” ليس مقتصرًا على الصينيين، فهناك أحياء يغلب عليها الطابع العربي، أو الإيطالي، أو اليوناني، أو الإفريقي أو اليهودي، أو الإسلامي، تمامًا كبعض الأحياء التي تتميز بالثراء وأخرى بالفقر. كذلك يوجد في مونتريال أحياء كل سكانها من أصول فرنسية، أي يتكلمون الفرنسية وحسب، وأحياء أخرى يتكلم سكانها الإنكليزية، كما توجد أحياء مختلطة اللغات والألوان، عندما يصل المهاجر الجديد، أو اللاجئ الجديد، فالشيء الطبيعي أن يبحث عن بشر يشبهونه، سواء في اللون أو اللغة أو الدين أو نمط المعيشة، ليستقر بقربهم، وتمر السنوات قبل أن تبدأ قشرة “الغيتو” بالتشقق بعد أن يضيق بسكانه، ويقرر هذا الوافد “الانشقاق” -بدوره- عن “جماعته”، والانتقال إلى مكان جديد يلبي طموحاته، من هؤلاء كان صديقي السوري وجاره الصيني، الذي هو موضوع حديثنا.
بيتا الرجلين متلاصقان، وهناك غير الجدار المشترك، مجموعة من الأمور، غير النفسية والثقافة الموروثة، مشتركة أيضًا بين الجارين، فرضتها الحياة الجديدة. فعليهما كل خريف إجراء صيانة مشتركة للسطح، إذا فعلها كل لوحده ستكلفه ثروة، لذلك؛ فإن مصالحهما المشتركة تدفعهما للتنسيق والعمل معًا. يُضاف إلى ذلك، تنظيف مخارج المياه (المزاريب)، وتنظيف ورق الأشجار المتساقط من محيط المنزلين، وجمعها في أكياس ورقية، تفرضها البلدية، ووضعها قرب الرصيف، في اليوم المحدد لمرور شاحنات البلدية التي تجمع أوراق الشجر.
كان صديقي على السطح، وكان جاره الصيني على الأرض، يحضر له الوعاء البلاستكي (الدلو) كي يرفع فيه الآجرّ الذي سينشره، فوق الزفت الذي يغطي السقف. احتاج الرجل إلى سكين كي يقطع بها الورق، فأحضرها من بيته. مساء، أنجز الرجلان عملهما كما يجب. في صباح اليوم التالي، وبعد أن كان صديقي قد غادر إلى عمله، شُوهد الصيني يبحث عن شيء في الأمكنة التي كان فيها البارحة، ثم قرع جرس بيت الجار، فخرجت زوجة صديقي لترى من القارع، وإذا بها أمام جارهم الصيني، الذي سألها عن السكين الضائعة، ولما نفت علمها بمكانها، طلب منها الاتصال بزوجها، لأن الموضوع خطر ولا يحتمل الانتظار إلى المساء، موعد عودة الزوج من عمله. لم تكذب الخبر زوجة صديقي، فاتصلت بزوجها طالبة منه البحث عن السكين في سيارته، فربما وضعها عن طريق الخطأ. غاب الرجل الوقت اللازم للبحث داخل سيارته، ولما لم يجد شيئًا أعاد الاتصال بزوجته كي تخبر الجار بأن لا أثر للسكين في السيارة، ثم طلب من زوجته، من باب الفضول، لماذا لم ينتظر الجار عودته من العمل كي يسأله، فقالت له زوجته: هناك شيء لا يصدق ولكنه حقيقي، وقد سمعته بأذني، لقد منعت الصينية زوجها من دخول البيت دون أن يعود مع السكين، والرجل المسكين، من الصباح وهو في حديقة الحي.
عندما عاد صديقي من عمله الساعة الخامسة بعد الظهر، كان جاره الصيني ما يزال في الحديقة، لم تسمح له زوجته بالدخول إلى البيت، على الرغم من أنه عرض عليها عشرين دولارًا مقابل السكين، التي لا يتجاوز ثمنها، في أحسن الأحوال، دولارًا واحدًا، لكنها رفضت العرض، وأصرّت على وجوب عودة السكين، فهي جواز سفره الوحيد للدخول إلى البيت.
في أثناء البحث الجديد عن السكين، لم ينطق الصيني بكلمة سيئة واحدة بحق زوجته، ولكنه في مناسبات سابقة، كان قد قصّ لصديقي كيف وصل قبل أربعين عامًا إلى مونتريال معدمًا، لا يملك ما يُقيت به جوعه. عمل بجدّ، كما هي عادة الصينيين، دون أن ينفق قرشًا واحدًا، فهو يعمل في مطعم صيني، وليس بحاجة للطعام، ويتقاسم السكن في غرفة واحدة مع مجموعة من الصينيين، إلى أن جمع من المال ما يكفي لشراء منزل، بعدها تعرف إلى فتاة صينية، ولكنها تتكلم لهجة صينية غير لهجته، أو لنقل لغة صينية أخرى، فكان قاسمهما المشترك للتفاهم وللأوامر والنواهي هي اللغة الإنكليزية، فتزوجا على الرغم من ذلك، وجلست بعدها في البيت، لا تخرج منه إلا للضرورة، ولا تفعل شيئًا إلا ما يتوجب فعله في البيت، وأحيانا ليست قليلة، كانت تنتظر عودة زوجها من العمل؛ كي تكلفه ببعض الأعمال المنزلية.
استطاع الرجل، بعد عمل عشرين عامًا، من شراء المطعم الذي كان يعمل فيه، ثم باع بيته القديم الصغير واشترى هذا البيت، كي تستطيع ابنته الوحيدة الاستمتاع بالمكان الواسع، واللعب مع أمها والدراسة، إلى أن تزوجت، قبل عامين.
أخيرًا عثر صديقي على السكين تحت غطاء بلاستيكي يحمي أرضية سيارته وأعطاها للرجل. قال لي: لا تستطيع أن تتخيل حجم الفرح الذي غطى ملامحه، فحمل السكين وأسرع إلى باب بيته، وقرع الجرس، فخرجت الزوجة ووقفت في الباب إلى أن ناولها السكين المفقودة، عندها دخلت إلى البيت تاركة الباب مفتوحًا كي يدخل زوجها.
قال صديقي: لم أروِ لك ما حدث، بهدف النيل من الصينيين أو الصينيات، ففيهم، كما في كل الشعوب، الضعيف والقوي، ولكن ما شغل بالي فعلًا، ولا يزال، هي حالة العبودية التي يعيشها الرجل مع زوجته، علمًا أن كل شيء في هذا البيت له وملكه، ومن عمله، فلماذا هذا الخنوع، هذا ما لم أصل إلى تفسيره حتى الآن.؟ لماذا لا يثور؟ لماذا لا يحتج؟ لماذا يقبل أن تتحكم به هذه الزوجة؟ ما هي نقاط ضعفه؟ بل ما هي نقاط قوة هذه المرأة كي تجعلها امرأة متسلطة، قادرة على جعل زوجها يمضي نهارًا كاملًا في الحديقة العامة، من أجل سكين رخيص الثمن، وهو أصلًا من دفع ثمنه واشتراه؟
قلت لصديقي: لا أملك تفسيرًا للحالة، ولكن هذه الواقعة جعلتني أتذكر كم هي زوجتي ديمقراطية ومتسامحة معي، على الرغم من “نمائمي” التي لم تتوقف بحقها، وآخرها هذه:
زوجتي تشبه الكثير من الناس في سلوكهم اليومي، الفرق أن حظها السيئ جعلها تتزوج شخصًا ثرثارًا مثلي، لا يتورع عن نقد ذاته والتشهير بعيوبه، فكيف بعيوب الآخرين. زوجتي تغير ثيابها في أيام العطل، يعني السبت والأحد، عدة مرات في اليوم الواحد، وهي حرة في ذلك، وشخصيًا أحترم سلوكها ما دام لا يلحق ضررًا بالآخرين، ولكنها لا تكتفي بذلك، فهي بعد كل عملية تبديل للثياب تقف أمام المرآة متأملة شكلها، وهذا أيضًا حقها، ولكن حقوقها تتجاوز أحيانًا دائرتها الشخصية حتى يصل التعدي على حقوقي، فمكتبي موجود في غرفة النوم، وغالبًا أكون في حالة استغراق في قراءة بعض البوستات “الثورية” التي لا يكف كاتبها عن استخدام السكاكين، كما يفعل أغلب الكتاب الثوريين، لتهديد من يخالفهم الرأي، فأحاول التركيز على كتابة نقد ساخر غير مباشر، فيأتي صوتها قاطعًا “عنق” تركيزي، وسائلة: انظر، ألا أبدو أجمل، انظر ألا أبدو أصغر، انظر ألا أبدو أنحف؟ وكأنها تكتب “بوستًا” ثوريًا، وكنت، كي أكف بلاها عني، أرد: نعم، نعم، نعم عزيزتي. ولكن اليوم زاد “النق” بعد أن سمعت قصة المرأة الصينية مع زوجها، فسألتني بلهجة اتهامية: “واحد ختيار متلك عندو مرة جميلة، سورية وليست صينية، وصغيرة متلي، ليش بدو يسافر على تركيا كل سنة، فيك تقول لي؟”.
قلت لها: نعم يا سيدتي؛ لأن كل هذا الجمال والميزات عندك، فأنا أهرب منها، لأنها فوق قدرة عجوز مثلي على التحمل، على الرغم من سوريتي، التي اعتادت تحمل آل الأسد!
أحد السوريين الخبثاء، الذي سمع القصة، قال: لو كنت مكان الرجل لانتحرت، فهي الطريقة الوحيدة، برأيي، لمعاقبة هذه المرأة، وذلك بحرمانها من متعة استعباد الآخرين، كما يفعل الشعب السوري، الذي ينتحر كل يوم بفضل المنظرين، مع بشار الأسد.!
[sociallocker] [/sociallocker]