الموت السوري مباشرة على الهواء: لماذا اختفى التعاطف؟


بعيداً عن ساحات القتل والاقتتال والتدمير، ثمة مأساة أخرى تخلفها الحالة السورية. مأساة تتولد من مفاعيل الصور السورية وتأثيراتها التي تحول كل متلق متعاطف مع القضية السورية، إلى ضحية من نوع آخر، ضحية يتملكها العجز والقهر.
فمنذ بداية الصراع الدموي، وتجاهل المجتمع الدولي المطالب السورية، اعتمدت القنوات الإخبارية العربية، على إظهار التفاصيل الأكثر دموية ووحشية في تلك الصور، رغبة في استنهاض الهمم السياسية، وإثارة الرأي العام، واستجداء تدخل الدول الكبرى، الأمر الذي أدى إلى استنزاف الكثير من المشاعر وحدود التحمل، ما دفع بمعظم متابعي الشأن السوري إلى تجنب تلك المشاهد المفزعة للوجدان والمخيلة البشرية، إذ بات من السهل التعرف على سمات الصور الخاصة بالمأساة السورية حيث الموت الحقيقي. واضح دون مواربة، أو مجازات أو كنايات أو مونتاج. موت يحصد الأرواح على الهواء مباشرة، ويتصدر المشهد على وقع الأنفاس الأخيرة للضحايا المدنيين الفقراء، وهم تحت الأنقاض أو تحت الخراب.
ومع تمدد الخراب والتدمير على النفوس والجغرافيا السورية الجريحة، ظهر تحول جديد في تفاعلات الصور السورية، تحول أكدت عليه في السابق معظم الدراسات العلمية، وهو انخفاض مستوى تعاطف المشاهدين مع ضحايا العنف في الصور التلفزيونية، في حال مشاهدة حوادث العنف بشكل متكرر ومستمر على الشاشة “السحرية”.
ومع تكرار الصور السورية الغارقة في دلالات العنف والتعنيف، واستصراخها الضمير الإنساني، قل تعاطف المشاهدين مع ضحايا جرائم النظام و”داعش”، مثلما قل تأثرهم بالعنف الواقعي، الحاصل بشكل حقيقي في تلك البقاع من الأرض، أضف إلى ذلك، أن التدفق الحر، لصور القتل والتدمير التي تتوارد بشكل يومي ضمن نشرات الأخبار، وفي عالم يتجه إلى الانغلاق والتقوقع، أدى إلى تحول الضحايا وقضيتهم إلى أرقام تضاف إلى أرقام.
بصيغة ما، أصبحت تلك الصور “مجانية”، في تكرارها واستمرارها، وفاقدة للمعنى أو القيمة، بالنسبة “للعالم المتحضر”، لأنها وفق الآلية الإعلامية “المعولمة”، لا تحمل ما هو جديد ومثير، ولا تنسجم مع ثقافة العنف والجسد، الرائجة في قوالب الصياغة والصناعة الإعلامية والثقافية المعاصرة.
كشفت تفاعلات الصور السورية عن حجم الانتهاكات التي مارستها “عين الكاميرا” لحياة الكثير من السوريين، دون مراعاة لمشاعرهم كضحايا أو كمتلقين، أو حتى من دون مراعاة للمعايير الإعلامية والصحافية، إذ لم تتوان تلك العين عن عرض مشاهد الجثث والأجساد الممزقة والمحترقة، وكأن الدم وحده هو المعيار والحكم، والطريق الوحيد والأوحد للإثارة والتصديق، والتحشييد.
ولعل مشكلة السوريين في صورهم وتفاعلاتها، هي حقيقتها وواقعيتها، فهي صور من لحم ودم، تخلق نوعا من “الفصام الوجداني” لمتابعيها، ففي الوقت الذي لا يكف فيه هذا العالم “المتحضر” عن ترديد خطابات منمقة حول حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وحق الإنسان في العيش بكرامة، تأتي الصور السورية كشهادات لدحض ذلك.
في مقابل، برز التفاعل الأخطر لتلك الصور، عبر تحولها إلى أداة تجنيد للمتطرفين، واصطياد العناصر الأصولية الجديدة في الفضاء الافتراضي، وجلبهم إلى الفضاء السوري، الواقعي والحقيقي، كي يمارسوا كل هوسهم الإجرامي، وينتهكوا حياة السوريين وحقوقهم وأرضهم.
لكن يبقى التأثير السلبي الأهم لتفاعلات تلك الصور، هو ارتباطها بميزان مراكمة العنف داخل وجدان وذهنية الجماعات الأهلية السورية، و”العنف المضاد” اتجاه الجماعات الأخرى “المناوئة لها وفق المفهوم الطائفي”، وبذلك تصبح تلك الصور الأكثر فتكا بالكيان والمخيلة السورية، عبر دعمها وبشكل مباشر “عقدة” المظلومية و”الضحية” ورعب الإبادة، وتكريس صورة ذهنية/مذهبية خطيرة، لكل طرف عن الآخر. القاتل “علوي” والمقتول “سني”، أو العكس. صور تتداخل في البنية النفسية والمستقبلية، لأبناء كل طائفة، دون إغفال سرديتها الخاصة لتاريخ، ما يزيد الشرخ بين السوريين.
الصور السورية هي صور الألم، والتأمل في إنسانية البشر، قبل الحديث عن الهشاشة “الوطنية” التي تجمع القاتل بالقتيل. هي وثيقة الأعزل وبرهانه الوحيد على موته، وتحوله إلى رقم بين الأرقام المنسية وغير المنتهية لهذه المأساة المستمرة منذ سنوات، هي صور لا تحمل أية إدانة للسوريين، لأنها حقيقية وواقعية، هي صور تدين عار العالم وتخاذله، فالقاتل معروف والمقتول أيضاً.



صدى الشام