قصر نوفل في طرابلس … صفحات من تاريخ لبنان


صدر حديثاً عن المجلس الثقافي للبنان الشمالي كتاب بعنوان «قصر نوفل»، لصفوح منجد رئيس المجلس، يروي فيه حكاية هذا القصر وأهميته في طرابلس عاصمة شمال لبنان.

وفي القصة، أنه في أواخر القرن التاسع عشر شهدت ساحة التل أو تل الرمل خارج المدينة القديمة المملوكية بداية التماذج العمراني بين الحضارتين العثمانية والأوروبية، وتجلّى ذلك في سلسلة من المباني السكنية والمنشآت ذات الطابع «السلطوي» كسرايا طرابلس والساعة التي تتوسط الساحة و»الكراكون» الذي تحول إلى مخفر للدرك مع بداية الانتداب الفرنسي. وأزيلت كلّها مطلع ستينات القرن المنصرم بمعزل عن رأي أبناء المدينة، باستثناء برج الساعة الذي بني في الذكرى الـ 25 لجلوس السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

أما المباني السكنية فامتازت بطوابقها وارتفاعاتها في حين لم تكن المباني داخل المدينة القديمة تتجاوز الطبقتين أو الثلاث. واتسعت الشقق السكنية في التل وتحولت الطوابق الأرضية إلى متاجر ومؤسسات ونشأت المرافق ودور اللهو المختلفة من مطاعم ومقاه وفنادق وقاعات للسينما في وقت لاحق مع «وصول» الكهرباء إلى المدينة عام 1932 (…).

ومن المباني التي لا تزال قائمة ومشرفة على ساحة التل مباني محمد البابا وعز الدين وسلطان عند الزاوية الشمالية الشرقية للساحة، إضافة إلى ذلك «القصر» القابع بجلال ووقار عند الجهة الجنوبية الغربية كالحارس وحامل مفاتيح التل وساحته.
هذا المعلم أطلّ على المدينة مطلع القرن العشرين بعدما أنجزه مالكه قيصر نوفل الذي لم يُعرف الكثير من تفاصيل حياته الدقيقة، ولكن بالعودة إلى «سالنامه ولايت بيروت» بين العامين 1893 و1908 يتبيَّن أنَّ قيصر نوفل كان من أبرز رجالات طرابلس فقد شغل مناصب عدة دفعةً واحدة في النظام العثماني.

قرميد مرسيليا
ومنذ نشأته فرض «القصر» هيبته على ساحته وامتاز بقرميده الأحمر الشهير بقرميد مرسيليا القائم على سطح المبنى البالغة مساحته 864 متراً مربعاً. ويتدرّج القرميد صعوداً إلى الأعلى كالهرم، وهو كان الأكبر وليس الأوحد في التل أو في محيطه. ففي الأحياء الشعبية في المدينة استُخدم القرميد بكثافة عند بناء العمارات المميزة وكذلك في المنطقة الحديثة، كقصر آل كريمة عند ملتقى شارع المصارف بطريق الميناء والذي تشغله اليوم مدرسة. كما امتاز العديد من المباني في ساحة التل الحديثة التكوين آنذاك بأسطحها القرميدية، ومنها مسرح الإنجا وفندق رويال وقصر آخر إلى جوار مقهى التل العليا وبناية عمر باشا المحمد.

والناظر إلى صورة فوتوغرافية قديمة عائدة إلى حي الحدادين مثلاً، تطالعه كثافة في عدد أسطح القرميد التي تتوج المباني في تلك المنطقة الشعبية والرابضة عند سفح تلة أبي سمراء.

ولكن، تبقى لقرميد قصر نوفل جماليته، فهو الأعلى والأضخم تدرجاً والأكثر سطوعاً تحت أشعة الشمس ويكتسب لوناً جمالياً أخّاذاً مختلفاً عن أي سطح قرميدي آخر.

وجمالية القصر لا تقتصر على قرميده، بل تنسحب على مجمل تفاصيله، وهي تكمن من الخارج في تلك الزخارف والنقوش على الجدران والتي تزيّن الشرفات. واستقدم نوفل مهندسين إيطاليين للإشراف على التنفيذ وعلى هذه النقوش والزخارف، التي توزعت في كل مكان على الأعمدة والمداخل والشبابيك، وحمل هؤلاء المهندسون والعمال الإيطاليون معهم مواد البناء والرخام من إيطاليا، وقد وضع نوفل عند مدخل قصره لوحة رخامية تحمل الحرفين الأولين من اسمه باللغة اللاتينية وتاريخ البناء (CN 1898) إضافة إلى رمز نباتي.

واحتل القصر الطبقة الأولى من البناء فوق قناطر وعقود ضخمة تمثّل الطبقة الأرضية. وللوصول إلى الطبقة العليا يتوجب ارتقاء أحد درجين رخاميين عند واجهة المبنى أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار ينطلقان من باحة مكشوفة تتوسطها بركة ماء صغيرة، ويلتقيان عند باب ضخم هو المدخل الرئيسي إلى القصر، ويؤدي إلى رواق صغير وغرفتين، تقابلهما حمامات استحدثت في زمن لاحق، ومن ثم إلى رواق آخر ضخم يؤدي يميناً إلى المطابخ ويساراً إلى الشرفات الأمامية المطلة على شارع التل. ويمكن الصعود من تلك الفسحة إلى طبقة عليا قائمة تحت القرميد تم استخدامها في وقت لاحق لتكون مقراً لأعمال التوثيق الخاصة ببلدية طرابلس. وعلى امتداد هذا الرواق الكبير تقوم خمسة أبواب تؤدي إلى صالة كبرى ذات سقف بديع ونقوش ترمز إلى أزهار ونباتات ملونة تختلف عن مثيلاتها في سائر سقوف القصر، وتتدلّى من سقف الصالة ثريات كبيرة من الكريستال.

مكان النخبة
حُوّلت الطبقة الأولى من قصر نوفل إلى «كازينو طرابلس» وزبائنه من النخبة الأجنبية والمحلية، وضم حلبة رقص وأوركسترا أجنبية وله حديقة صيفية مشهورة، ثم توسع ليضم صالتي سينما وبلياردو خاصتين باعتبار أن رواد الكازينو اعتبروا أعضاء في ناد شبه خاص خصوصاً أن من بينهم كبار الضباط العسكريين الفرنسيين والمحليين. وفي وقت لاحق تحول الكازينو إلى ناد مغلق لأبرز موظفي شركة نفط العراق وعائلاتهم الذين كانوا بأكثريتهم من البريطانيين وأصبح الكازينو بذلك أكثر خصوصية وانغلاقاً.

ويذكر أنه عقب حفلة راقصة أقامتها إدارة «نزل بيت مري» ومُنحت في نهايتها لقب «آنسة لبنان» (ملكة جمال) إلى الآنسة إيفا ابنة قيصر نوفل، وعندما وصل هذا الخبر إلى كازينو طرابلس، باشرت مجموعة من السيدات والشبان انتخاب ملكة لتمثيل الجمال الطرابلسي من بين الموجودات ففازت بأكثرية الأصوات الآنسة أنجيل كريمة إبراهيم كويك، كما انتخبت في المرتبة الثانية ميدزا كريمة أنطوان عقدة وصونيا كريمة ميتوبويوف.

وتم تداول ملكية القصر في الخمسينات والستينات بين عدد من الملّاكين والتجار، ولكن الثابت أن أهم المشترين وآخرهم هو رجل الأعمال محمد مسقاوي الذي تولى رئاسة بلدية طرابلس أوائل السبعينات.

كان مسقاوي يرغب في الإقامة بالقصر، لكن زوجته نهى شوقي رفضت ذلك بسبب ما يتطلبه القصر من اهتمام ورعاية. ولاحقاً استملكته (1968) الدولة اللبنانية عبر وزارة المال وقدمت الطابق الأعلى هبة إلى بلدية طرابلس التي حوّلته إلى مركز ثقافي يضم مكتبة عامة، فيما حولت الطابق الأرضي إلى متاجر تعود عائداتها إلى وزارة المال.

بعد سنوات من استملاكه شاءت الظروف الأمنية والأحداث التي توالت على المدينة وما تخللها من اضطرابات إلى تأجيل افتتاح المركز الثقافي البلدي – قصر نوفل، إلى صيف العام 1978 حين استقرت الأوضاع عقب حرب السنتين (1975 – 1976). وفي الأول من حزيران (يونيو) 1987 اغتيل رئيس الوزراء رشيد كرامي بتفجير الطوافة العسكرية التي كانت تنقله من طرابلس إلى بيروت، وخلال اجتماع للمجلس البلدي اتخذ قرار بإطلاق اسمه على المركز الثقافي البلدي – قصر نوفل.



صدى الشام