uFEFFإسطنبول ومدن على حافة الذكرى

12 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016

6 minutes

تأخذني المدن إلى شرايينها وزواريبها فأحب واحدة وأجفل من أخرى، واحدة تفتح قلبها وبيوتها وأخرى تنغلق بوجهي فلا أرى فيها سوى الأبواب.
لم تكن زيارتي الأخيرة إلى إسطنبول سوى تمرين آخر على فشلي في صنع ذلك الجدار بيني وبين المدن، فأنا أخاف أن أقع بحب المدن، كما وقعت بحب الكثير منها بشوارعها وحواريها ورائحتها، وكان الحب من طرفي جرحا في القلب ينادي الشوق ويشقيني.

اسطنبول جغرافيا ترسم هويتها بين الشرق والغرب، تاريخ يتسلل من بين أحجار القلاع ليخبرك عن الفاتح والقسطنطينية، عن خدعة الحرب ووضوح السلام، كلمات تحرك فيك الحنين إلى لغتك، تغويك حواريها لتدخلها وترقص وتدور هياماً بها كالدراويش بفعل كأس خمر لم تشربه. اسطنبول ذلك التناغم بين إيقاع القانون والكيمانسة ونغمة الجاز، هي نغمة موسيقية تحاور الغرب وأقدامها موغلة في الشرق.. الجوامع قلب اسطنبول وعالمها الروحي الذي يضيء المكان بنوره، فصوت الأذان يناديك تارة بنغمة الحجاز ويرق قلبك لتوسلات مقام الصبا فيزيد الشجن في حب الله.

في كل مكان جامع وقبة ومريدون ومصلون، يتوضأون عند حنفية ماء وكأنهم يتابعون ما كانوا يفعلونه منذ ألف عام والسلطان مازال في عرشه هو السلطان. اسطنبول تقف على خيط مشدود بين حروب لم يسعفها السلم كي تنام، اسطنبول مقياس حمى التوترات في العالم شرقاً وغرباً، الحذر والترقب من الآتي يعم المكان، اسطنبول الشرطة المركونة في كل زاوية وشارع. اسطنبول أكثر من مدينة وأوسع من بلاد، هي عقدة تربط قارتين بخيط شفيف من الروح تنادي «فلتسقطوا عني جواز السفر».

إسطنبول هي محطة اللاجئين السوريين على أطراف الحلم الأوروبي، هي توسلات طفلة سورية تخيم على ساحة تقسيم لتفتح ثقباً في الذاكرة وتحيلني إلى باحة الجامع الأموي وسوق الحميدية، صغيرة تتأبطني وتلتصق بي فأحس رائحة سوريا تعلق في ثيابي، لا أستطيع أن أزجرها لتبتعد، وتنشلّ يدي قبل أن أمدها إلى محفظتي وأعطيها بضع ليرات تركية، يركض دمعي إلى خدي وأخجل من خيبتنا، وأخجل من غربتي ولجوئي ولجوئها وتسولنا، أنا لحب المدن، وهي لبعض ليرات في ساحة تقسيم.

تقسيم هي نقطة لقاء اللاجئين باللاجئين على ناصية أتاتورك، هي نقطة لقاء الحلم بالعودة والحلم بالخيبة والانكسار. ساحة تقسيم هي العمر الذي يرقبه عجوز يحمل جريدة على كرسي قصي.. تقسيم هي الدمعة التي تتدحرج من شقوق القلب على وطن ارتمى على بعد حجر وابتعد على مرمى ما تبقى من العمر. شارع الاستقلال نغمة شرقية تغني شجنها، نثار كلمات عربية يرق السمع للحنها، صورة مكبرة لشقاوة العمر على أبواب الصالحية وانعكاس الأضواء في سوق الحميدية… شارع الاستقلال هو تظاهرة تمشي من الأزل وذاهبة إلى الأزل.

اسطنبول تأخذني إلى كل المدن التي أحببتها وباتت عريشة من الذكريات معمرة في قلبي، تأخذني إلى دمشق، أول المدن التي أحببتها وصغت طفولتي وشبابي في شوارعها وحاراتها وترسمني على حجر أدحرجه بين البيت والمدرسة على طول الطريق، وكحلمي يتوه مني بين المارة.

في دبي عرفت أن العالم أوسع من دمشق وإن كان ليس أجمل، رغم جمال الصحراء وسحرها ، تكنس الريح الرمال وتنثرها، فلا تصل البداية ولا تعرف النهاية، هي امتداد الشمس العنيدة وحلم يتجدد ولا ينتهي.
كيتشنر مدينة صغيرة في كندا ترسم بأبيضها أجمل الأثواب.. نقية كأهلها، قصية كحلمها، رتيبة كيومها، أكلت قلبي تلك المدينة حين تلونت أشجارها ذات خريف بكل ألوان الحزن ولم أكن أعرف أن للحزن والشجن كل هذا السحر من الألوان.

لندن امرأة مسنة رصينة تناديك ولا تضمك، تأخذك إلى حواريها وشوارعها فلا أنت ابنها ولا هي أمك، لندن في النهار سيدة الموضة والأناقة، وفي الليل مدينة المهاجرين والفقراء الملتحفين بأكياس تشردهم على أبواب المحلات. لندن مدينة محتفظة بإرثها الكولنيالي وتلهث ليلاً ونهاراً في أنفاق القطارات خلف شمس غابت عنها منذ دهر…

عمان جبال متكبرة على حبك وحذرة من أمسك، ترميك في شوارعها كأب يريد بالقسوة أن تتعلم الرجولة، وإن أردت البحث عن قلبها فما عليك إلا دخول بيوتها وحواريها. بيروت تحبها وتعشق التصاق بحرها بجبلها ولكنها وملئ فمها تقول لك: خذ حذرك، ففي كل زاوية شعار، وفي كل شارع طائفة وأتباع .

كل مدن فلسطين وقراها أحببتها وعشقتها دون أن أراها فهي مختبئة في صدري كصندوق من الذكريات التي لم تأت، أحن إلى يافا وأنا لم أرها، أسمع هدير البحر وصياح الصيادين مع نبض قلبي، قناطر البيوت تعمرها ذكريات أمي، مدينة أحببتها لأن فيها اختبأ وجه أمي حين غابت.

أثينا أحببتها ورأيت فيها عجوزاً علمت العالم جدوى الانتظار، زاهدة بالدنيا وما فيها، نزيهة، فقيرة تحمل بساطة المتوسط وانفتاح شبابيكه للشمس والهواء وبعيدة عن غيوم أوروبا وتعاليها…
ما ابشع هذا العالم الذي يكبلنا بجواز السفر، فأنا أحب المدن ولو لفظتني، وأتعبتني بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، بملامحها التي تشبه ابناءها، بأوجاعها، بفقرائها الذين يكنسون شوارعها، وأغنيائها المتعالين على شقائها…

اسطنبول أيقظــــــــت فيّ عشق المولــــــوية وكبــــرياء الأوبرا، حُمــت في شوارعها كالحمام فوق المآذن، درت كدرويش من دراويشها يلتقط الحب من السماء ويدور في هذا العالم ليوزعه شرقاً وغرباً.. اسطنبول لملمت روح كل المدائن التي أحب بانتظار أن أغفو على شرفة في دمشق، وأشرب قهوة بطعم بحر يافا، وأدور وأدورعلى إيقاع قدود حلب..

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]