on
ريشار يتقمص أحلامنا
رغدة حسن
في مطبخ دافئ؛ دافئ جدًا، نتكئ على نافذة الصباح أنا وابني ريشار كل يوم، بينما رائحة القهوة تنشر عبقًا مثاليًا، نذهب معها إلى حيث تركنا الذاكرة… نقتات من مطارحها بعضًا من الحب، الدفء، والتوازن، لنرتحل بعد هذا الدفق من سيل الذاكرة إلى المقبل… نراقب الأفق الممتلئ بالمواعيد ويبدأ هو بالحديث عن أحلامه:
أحلم أن تتحول هذه الشجرة العظيمة التي لا تمل من الوقوف أمام منزلنا، إلى قيثارة عملاقة تملأ الفضاء صخبًا وموسيقا… تراقص قاع الأرض بكل كائناتها إلى أن تُنهك جذورها…
وأحلم أن أصحبك إلى ساحة من البلور في مدينة لا اسم لها؛ أعطيك يدي لتتكئي، تحسبًا من الوقوع دهشةً… لأن بلور المدينة سيعكس صورتك وأنت في العشرين من عمرك… أحلم… أن تنحل كل أشكال الحكومات وأشكال السلطة في هذا العالم…
سألته: لماذا لا يفارقك هذا الحلم!؟ غالبًا تتلون أحلامك ويبقى هذا الحلم موجودًا…
- لأني لا أمتلك القدرة على تحقيق أحلامي. بداية، يجب أن أكسر الجدار الذي يقف حائلًا بيني وبينها… كنّا في بلادنا نحلم بالحرية. أي هامش من الحرية يحقق لنا فرحًا غامرًا… كنا هناك قد اختبرنا جهة العدو وعرفنا كيف نتفادى ضرباته، قمنا ببناء عوالم لنا لا يعرف كيف يدخلها… جمعتنا تلك الأحلام المشفرة… وكنا نتناوب على حراستها سرًا ومن دون عقْد معلن بيننا…
هنا في بلاد غلّفت الخديعة فيها كل شيء… أبراجهم، سياساتهم، علاقاتهم الاجتماعية، وما صدّروه لنا من صور للحريات المزعومة… (مقصلة الكنيسة، إلى الآن لم تغادر ساحاتهم وبيوتهم). أما الأكثر قبحًا وخداعًا فهو المنظمات التي تدّعي الدفاع عن الإنسان ولا تقوم إلا بقتله، لكن بشريطة بيضاء…
وما يصيبني بالجنون أولئك الذين يمجدون عطايا هذه الحكومات! أي عطايا وهبات يمجدون.!؟
كنت أعتقد أننا نعاني من عوز في مسببات البقاء، وأحتاج من ينتشلني من قاع العدم… ليس المنفى ما كنت أطمح إليه… جلّ أحلامي كانت أن أتمكن من التنقل في بلادي دون أن أذوق طعم الخوف والتخفي… أتمدد تحت سماء تتسع لأغنياتي، أعانق فتاتي دون أن يكون عسس الليل متربصًا بقبلاتنا.
قرأت كثيرًا عن المنفى، ولا أصدق الآن أنني مضطر للتأقلم مع هذا الواقع القاسي… (المنفى) لقد أصاب قلب المعنى من أطلق عليه هذا الاسم.
سكان هذا الواقع، الآليين المبرمجين على طاعة السيد؛ والسيد يتغير اسمه حسب الرغبة، قد يطلقون عليه اسم (الضريبة، المال، القانون، الخوف، ومسميات أخرى كثيرة). استبداد متلون، متعدد الوجوه والظهور.
أفكاري المحتشدة تتجمع حد الانفجار، وتحتاج لمكان لا يشبه المنفى… مكان يشبه ذاكرتي.
كان الحد الزمني الفاصل بيني وبين سوريا هو لحظة الخضوع لمقابلة اللجوء.
اعترتني كل مشاعر الخيانة حين سلمتهم بطاقتي الشخصية، وقبلت بشروطهم…
لم أصدق نظرات تعاطف المحقق حين أخبرته عن اعتقالي في اعتصام دمشق، ولم أكترث لدموع المترجمة وهي تعبر عن استياء عظيم من بشاعة نظام يعتقل شابًا يافعًا ويقوم بتعذيبه.
سألني المحقق: هل تؤمن بالكفاح المسلح؟ قلت: أؤمن بالشهيد الذي ألقى بوروده وقصائده وأغنياته فانفجرت ثورة وحرية. هل أنت سوري؟ قلت: نعم نحن سوريون، حين تكون سوريا تهمة. لكن والدك فلسطيني. قلت: أجل، ووالدتي دمشق.
خانتني قواي، ولم أمتلك القدرة لأهدئ من نبض غضبه. كنت أريد أن أترك لابني فسحة مضيئة تغذي أحلامه بالأمل والتفاؤل، لكنه كان يسبقني بخطوات في إدراك مواطن البشاعة والاستغلال.
أدقق بملامح ريشار وهو يلقي بأحلامه أمامي، محاولًا إخفاء حزن عينيه، ملامحه التي اكتملت ونضحت على طريق النزوح. أخرجته الهجرة من دائرة بواكير الأسئلة، ووضعته أمام الإشكال العظيم، ليقض مضجع الرتابة بأسئلة تحمل في رحمها إجابات وحلول.
كيف أحرر حصتي من الفجر من غبار الحرب، كيف أقطع على الموت استرساله في حصاد البلاد، وأين أخبئ ما قطفته من سهول الريح وحقيبتي ظلت هناك. كيف أوقف سيل الأسئلة التي استدعتها أحلام ريشار؟؟ كيف سأتمكن من تجاوز أو تأجيل الإجابة عن هذا السؤال الخطير الذي يلاحقني أينما ذهبت: ماذا سيقرأ أولادنا في كتبهم المدرسية عن تاريخ البلاد؟؟؟؟
أنا اشعر بالعار من أحلام ريشار ورفاقه، وستكذب الجدات حين يسألهن الأحفاد: لماذا قتلتم أخوتكم؟؟ وسيبكين ذاكرة تسيل دمًا…
ولأن هذا البياض هنا هو آخر أصحابي، بعد أن فقدت لياقتي الاجتماعية في التعارف، وفتح الأحاديث المعتادة عن الطقس والموضة والصحة الجنسية، كان عليه أن يحتمل أفكاري.
أفكر أن من ماتوا قد ماتوا من القهر قبل سقوط القنابل…
وأن المنفى خزان مسموم لكل أنواع الميتات القبيحة…
يا ويحنا، لقد سرقت أهوال الحرب أطفالنا وأخذتهم إلى رجولة مبكرة…
قطع ريشار شرودي بسؤاله: أمي… ماهي أحلامك؟
قلت: أن تحقق أحلامك يا حبيبي.
المصدر