شعراء عرب وأجانب يتحدثون عن “موت الشعر”: نكتب لظلِّنا


ما زال تناول الشعر عمومًا والقصيدة الحديثة أو النثرية خصوصًا، يدور حول المعنى والقيمة التي يقدمانها في هذا العصر مع تطور وسائل الاتصال الاجتماعي، ومع تزايد الاهتمام بالرواية على مستوى العالم على حساب الشعر، إلى درجة أن هناك من النقاد والشعراء أنفسهم من يتداول عبارة “موت الشعر”، لأسباب كثيرة منها انفضاض الجمهور عن تلقيه وعن شراء المجموعات الشعرية.
ها هنا ألقينا مجموعة من الأسئلة على عدد من الشعراء المصريين والأجانب حول هموم الشعر وأحواله. والشعراء هم بنجت أوْ بيوركلوند من السويد، وقد أصدر ست مجموعات شعرية كان آخرها بالانكليزية “أغني في أغلالي مثل البحر”، والشاعر الكوستاريكي كارلوس بيالوبوس وهو شاعر وباحث في النقد الأدبي أصدر سبع مجموعات شعرية آخرها “أنشودة الأعمال”.
والشاعر الفلسطيني نصر جميل شعث الذي يعيش بين النرويج ومراكش وصاحب “شهوة الإسفلت” و”لأن قبعة التراب دخان” و”وخلعوا الليل من الشجرة” و”خاطف الغزالة يتعثّر بأعشابها”. والشاعر المصري سامي سعد صاحب “اعترافات العابر” و”كملك يتأهب للفرار”. والشاعر اللبناني سمعان خوام الذي أصدر “مملكة الصراصير” و”دليل المهرج”. وشارك أيضًا الشاعران المصريان سامح محجوب ومؤمن سمير، ولكليهما عدد من المجموعات الشعرية والدراسات النقدية حول الشعر.

أما الأسئلة المطروحة : ما موقفك من الشعر من خلال تجربتك؟ هل تعرّف نفسك بكلمة “شاعر”؟ ماذا تعني لك كتابة الشعر في بداية الألفية الثانية؟ يقال إن الشعر يموت لتحلّ مكانه الفنون الكتابية الجديدة، كالرواية والقصة، والستاتوس. هل توافق؟.

سامي سعد: الشعر حياة بذاته

موقف الشاعر المصري سامي سعد من الشعر “كموقفي من الحياة. هو موقف الضرورة اللامجدية، أو اليأس الجميل. لا يمكنني الفهم ولا الرضا ولا يمكنني التوقف عن كتابته أيضًا”.

في تعريف نفسه كشاعر يقول:”لا أستطيع تعريف نفسي كشاعر. انا اقطن في المسافة الفاصلة بين شخصي الواقعي وشخصي الشاعر”. أما بخصوص معنى الكتابة “فهي نقطه التوازن الضائعة بيني وبين العالم. نقطة انفصالي عن الواقع ومحاولة اللحاق بالحلم. في الكتابة أتنفس هواءً مغايرًا، أصطنع عالمًا يروقني ولو قليلا، أمتلك وهم الحرية القصوى.

أما مقولة موت الشعر، فيقول فيها : “موافقتي أو عدمها على موت الشعر، لن تنهي هذا الجدل العقيم للتصنيفات. لكني أعرف بيقين أعمى أن الشعر هبط مع آدم ولن ينتهي الا بنهاية نسله الجاحد. وبما أن الوجود هو حبل من المعاناة والحلم بخلاص، سيظل هذا الشعر توق الكائن ليكون، ليصل، وليتحقق كائنًا وحلمًا في آن.

الموت هو بديل الشعر الوحيد

جمهور الشعر لا بد أنه قلة في عالم تغوّل المادة وطغيان المظاهر، وعبادة قانون الحيازة. لكن ذلك ليس دليلاً على خفوته واضمحلال الحاجة اليه، قدر ما هو دليل على تسطّح العالم، واقتراب تمام طفوه كلوح سفينة غارقة.

لمن أكتب؟ أكتب لظلي ولنفسي كي أعرفها. أكتب محاولاً أن أطير أو أن أغوص.

المهرجانات تبقى مجدية لو بقيت في نطاق الهدف المجرد للشعر. وهو تواصل الحس الجمالي المتنوع من كل الأقطار. المهرجان فرصه للصراخ في وجه الطوفان.

كارلوس بيالوبولوس: الشعر للنخبة

الشاعر الكوستاريكي كارلوس بيالوبولوس يصف حاله كشاعر اليوم بالقول إنه بعد التجربة الطويلة يعتقد أنه وصل إلى مرحلة النضوج الشعري. “بالطبع أحب لقب شاعر، لأني أكتب الشعر ولأني نشرت مجموعة كبيرة من الدواوين الشعرية وحصلت على جوائز لقاء شعري الذي أكتبه، لذا بالتأكيد يروقني لقب شاعر. ولمَ لا؟”.

حول موت الشعر يقول الشاعر الكوستاريكي، “الشعر لا يموت، لأن الناس لن يتوقفوا عن الحاجة للتعبير عن الأفكار والمشاعر والأحلام، من خلال لغة مشفرة. والشعر هو أفضل وسيلة للتعبير. قد تكون هناك طرق جديدة للتعبير عن أفكار مختلفة، ولكن الشعر هو نوع خاص. لا أعتقد بوجود أي خطر يطال الشعر. إذ لم أعتقد يومًا أن الشعر كان فنًا جماهيريًا، ثم انفض عنه الجمهور. ما كنت أعتقده وما زلت، هو أن الشعر فن نخبوي يؤثر ويتأثر بنوع خاص ومحدد من المتذوقين والمتابعين.

أعتقد أن المهرجانات الشعرية في جميع أنحاء العالم، مناسبة جيدة لمعرفة المزيد عن واقع من الأدب العالمي. المهرجان هو الفضاء المثالي لإنشاء شبكات ثقافية، ومع تحول العالم إلى قرية كونية على ما يقال، تساهم المهرجانات في تقريب المسافات بين الشعراء، وتحوّل الشاعر من مؤدٍ محلي أو وطني إلى باحث عن جمهور جديد من مختلف الثقافات.

أعتقد أن الشعر وسيلة جيدة لتنمية الثقافة الشعبية، ودفع الإنسان العادي إلى التفكّر والتثقف. فأنت حين تقرأ قصيدة على مسمع أيّ كان، فإنك تدفعه إلى بناء متتالية من الصور والأفكار والتفاعل مع القصيدة القادمة من عالم كاتبها الخاص.

مؤمن سمير: الشعر ضرورة

الشاعر المصري مؤمن سمير الذي أصدر إحدى عشرة مجموعة شعرية رغم أنه من الشعراء المصريين الشباب، يقول حول تجربته الشعرية:”أصدرت ديواني الأول مبكرًا، نتيجة الوحدة والانطواء المرعبَيْن اللذَيْن عشت تحت ليلهما الدائم. أردت أن يكون ديواني الأول في قصيدة النثر، في واقع جغرافي وفني شديد المحافظة، بعد أن مزقت مئات القصائد العمودية والتفعيلية وأيقنت أن صوتي الخاص لن يظهر إلا مع الحرية والرحابة التي تمنحهما قصيدة النثر. الآن بعدما بتّ على مسافة كبيرة من فكرة اليقين، صرت أرى الشعر صديقًا مجرمًا يقبلني في الصباح ويمزق جسدي بسكينه المشحوذ كلما هلّت العتمة”.

حول لقب “شاعر” يقول سمير : “أحياناً أحتمي بكلمة شاعر عندما تحاصرني الخيبات المحيطة الثقيلة فعلاً وأفقد القدرة على التنفس. خاصة وأنني لا أجيد القيام بأي عمل غير الكتابة. عندما أقول أنا شاعر فأنا أعني أنني جبان وهارب وخائف دائمًا”.

بخصوص الكتابة في بداية الألفية الجديدة يقول إنه : “أمرٌ يتساوق مع تجاوزي عتبة الأربعين وهو ما يعني لي المزيد من الهتك لأسراري الشخصية. فقد أصبحتُ أكثر عنفاً في تمزيق الحبال التي تلتف حول رقبتي. أصبحَت الكتابة بمثابة مواجهتي الأخيرة مع العالم الذي فكرت كثيراً وبشكل رومانتيكي أن أنتصر عليه بأن أرحل عنه مختارًا، فأظل شوكةً في قلبه للأبد لكني الآن تحت حالة من اللهاث وكأنني أكتب وصيتي كل صباحٍ، وبعدها بساعات أستسلم لموجة من الضحك تصنعها حالة عبثية صادقة”.

ويقول عن موت الشعر وحلول فنون أدبية جديدة مكانه :”لا أظن أن هناك فناً يزيح آخر ليحل مكانه. الأمر هو أن هناك دورات تاريخية وفنية تقتضي وترتضي أن يتوهج فنٌ ما على حساب آخر يخفت. الشعر دائماً هو الثابت الذي نقيس عليه فيقال هذا زمن الرواية أو هي أيام اليوتيوب فقط لأنهما قد يزيحان الشعر عن موقعه وقد لا يفعلان. الشعر لا يموت لكنَّ أشكالاً وطرقاً داخل مملكته تتأرجح بينما تصعد ألعابٌ أخرى. هل كذب “جان كوكتو” عندما قال إن الشعر ضروري ولا يدري لماذا؟، لا لم يكذب”.

أما عن رأيه بالمهرجانات الشعرية فيرى أن “الأهلية منها، التابعة لمنظمات المجتمع المدني والبعيدة عن السيطرة الحكومية، ضرورية لأنها فرصة للتنفس خارج الصندوق. فرصة للتلاقح الحضاري والالتقاء وجها لوجه مع وعي آخر ومختلف”.

بنجت بيوركلوند: قصائد الأشياء الصغيرة

“كتابتي للشعر كانت مثل رحلة طويلة. وقد كتبت أول كتاب لي في السجن السويدي حيث سلمني الانتربول التركي الى الشرطة السويدية بعدما قضيت أكثر من أربع سنوات في السجن التركي لحيازتي ممنوعات. في إسطنبول كتبت أول قصيدة لي في العام 1970، متأثرًا بشعراء مثل ديلان توماس، ووليام بليك وطاغور. في السجن السويدي كتبت قصائد مختلفة متأثرا بشعراء سويديين مثل هاري مارتنسون. أعتمد كثيرًا على مراقبة الأشياء الصغيرة كالطبيعة والطقس والعنكبوت على الحائط. كل شيء أراه يهمني لكتابة قصيدة”.

سامح محجوب: للشعر جلال الدلالة

“الشعر فن يتطور ذاتيًا ولديه حساسيته النقدية الخاصة، ومن الصعوبة تحديد موقف ثابت تجاه نزوع مرتكزاته المستمر لمفارقة نفسها جماليًا، كما أنه من الصعوبة أن يتجاهل الشعر بكل رهافته وحيوية مادته ما يحدث حوله من عصف مستمر فى الوجدان الجمعي للجماعة الإنسانية، وأنا شخصيًا على استعداد دائم لتغيير قناعاتي تجاه كل شيء، وكل ما يشغلني عقب كل نص هو كيف أتجاوزه وأتجاوزني في النص المقبل.

لم يحدث أبدًا أن قدمت نفسي لأحد على أنني شاعر ولم يحدث أبدًا أن تصرفت بشكل معين لكوني أكتب الشعر، وأرى أننا كممارسين للكتابة الإبداعية في حالة بحث مستمرة للعثور على شيء ما قد يفصح عن بعض صفاته النوعية في قصيدة أو قصة أو معزوفة أو رواية أو مسرحية، وكلمة شاعر بصيغتها الإجرائية لا ترضيني. وهذا لا يمنع أنني أضبط نفسي كثيرًا في حالة خجل شديدة من كوني مقصرًا في ملاحقة لقب الشاعر معرفًا بكل جلاله الدلالي.

الزمن في الكتابة ابن حداثة الجماليات التي تستطيع طرح نفسها بقوّة في المقبل من الأيام والسنين والقرون، ولهذا أنا مشفق على كل من يتعامل مع الكتابة كموضوع وحدث، لأن ما كتبه لن يستطيع الصمود أمام الزمن بوصفه أيامًا وسنينًا، فلم يبق من أمل دنقل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس غير “أوراق الغرفة رقم 8″ رغم ذيوع أعماله الأخرى وجماهيريتها، كما أن أبا نواس ما يزال طازجّا وحيويّا أكثر من عشرات المحنطين الذين يملؤون حياتنا صخبّا.

يقول نيتشه: كل فن يحافظ على صفاته. ومن السخف أن يقال هذا عصر الرواية أو القصة، الفنون تتكامل وليس من طبيعتها أن تجب بعضها البعض، المشكلة الكبرى في سقوط المعيارية في الحكم على ما يطرح للنشر، مما يضطرني إلى اللجوء للتعريف كصيغة معيارية وحيدة للنجاة من الثعالب التي تعبث في الكروم.

الشعر ابن سياق كامل من الحياة، ابن التعليم الحقيقي المبني على الوعي والمعرفة، لا على التعلّم فقط، ابن الحرية غير المشروطة ابن الديمقراطية السلوكية. هو ابن الإنسان القلق الحائر الذي يدرك كنه وجوده، وحضوره في الزمن، ابن المجاز حينما يتحرر من رطانة الخطابة وديماغوجية الحكام وعهر البلاغة”.

نصر جميل شعث: أتهرّب من وصمي شاعرا

الموقف من الشعر عند كل شاعر منوط بتجربة الوعي بهذا الفن عندما يكون محل تبجيل ومأثرة. وسؤالي عن موقفي من الشعر يثير موضوع تلقي القارىء سواء كان شاعراً أم متذوقاً لشعره أو لشعر غيره. من الطبيعي أن تتغير طرقنا في سبيل الشعر، لئلا أقول مواقفنا، حيث ارتفاع إيقاع تجربة الحياة كمادة للشعر، وبالتالي ارتقاء الذائقة المطلة على تحولات فنّ الشعر وخصوصياته الجمالية. كل بداية يكتنفها قصور ما سوف يشفع له، أو يجعله محل تفهّم، الإندفاع المبكر إلى كتابة الشعر. أتحدث هنا عن بدايتي سواء أيام مرحلة الثانوية أو في سنوات الجامعة.

قد أمتلك شجاعة يكون الوعي الذاتي بالموهبة والشقاء من أجلها هو وراء التصريح بذلك، لكن في حضرة شعراء أو أمام أعمال شعراء أتتبع تجاربهم وأغبط منجزاتهم. على مستوى شعبي، أنا أتهرب من وصفي بكلمة شاعر، حتى لو جاء هذا التعريف بي من لسان أمي. هذا لا يعني أنني أثير هنا رأياً حول جدلية نخبوية الشعر أو جماهيريته. لدي حساسية هنا، فلأصفها، إذا جاز لي القول، بالاقتصادية. صداها أن الشعر لا يطعم الخبز. هناك في العالم العربي الكثير من المتكسبين باسم الشعر.

دعني أرتد إلى الوراء، كوني من جيل انتفاضة الحجارة الأولى، وأربط الكتابة بذلك الحدث الفلسطيني الشريف. لكن بعيدا عن الفجاجة وعن التسجيلية. أتحدث هنا عن الطاقة، عن طاقة الجري والمطاردة والشغف بإيقاع الطفولة والتعثر والتلفت وحياة المقاومة إبان تلك المرحلة الفلسطينية النبيلة. كيف راحت تلمع في صميم كتابتي هذه الطاقة كطريقة دفاع عن جماليات الشعر. أحمل ذاكرة ميدانية جعلتُ أفيد من طاقتها حين وعيت لذاتي المحبة للشعر والأماني المتعلقة به كأمنية أن أعود كل صباح إلى نقطة الصفر وتعتريني دهشة يومية، دهشة الفرح بلقاء الكلمات ككلمات. مثلاً كلمة الأرض، مثلا كلمة الحجر، مثلاً كلمة السماء، مثلاً كلمة الليل، مثلاً كلمة الناس، مثلاً كلمة الحصان.. إلخ.

لكن رغم ذلك الفقدان لبراءة أو بطولة الكلمات كإيقاع وجودي، تدور فكرة في رأسي أحاول صياغتها كرد على مقالات كثيرة تتحدث عن شعراء الخسارة أو عن جيل الخسارات.

الشعر أولاً، مع إقبالي على قراءة الرواية وغبطة من يكتبها. ولا يمكن تجاهل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي كطرائق توصيل وتواصل وتفاعل. شخصياً رغم ما يقدمه التطور التقني من هدايا لنا، لا أستسيغ مثلاً استخدام كلمة “فيسبوك” في قصيدة. ولست مع طريقة تندر أو تهكم البعض في الصحف الورقية بإطلاق تسمية “شعراء الفيسبوك”، مثلاً، على تجارب عرفنا إليها هذا الفضاء المهم.

سمعان خوّام: لا بديل للشعر مطلقًا

لا موقف لي مع الشعر أو من الشعر، غير أنه حاجة شخصية لربما مرضية، سواء كتابة أو قراءة.

لم أعتبر نفسي شاعرًا يومًا، ولا أعرف ماهية الشروط التي تجعل من المرء شاعرًا. أعلم أني غير راض عما نشرت او ما كتبت حتى اليوم، لذا أعتقد أنه ربما يومًا ما سأتصالح مع الفكرة او ربما في زمن آخر سأصبح شاعرًا في عين تقرأ بشكل مختلف. ربما تكون الكتابة لمن يكتب فعل ضرورة ودليل وجود وصراع يومي مع اللغة لخلق جملة جديدة نخاطب بها عالم سريع متجدد يلتهم نفسه بجديده وقديمه، ليعود ويخلق نفسه بنفسه بينما نحن مشغولون نبحث عن مكان لنا داخل لغة مختلة لا ترد على أسئلتنا حتى بسؤال في بداية الألفية الثانية.

أما بخصوص موت الشعر فلا أظن أن الشعر يموت او سيموت، وهذا ما يدفعني الى طرح سؤال: “من نحن لنقتله؟”. لا بديل للشعر مطلقًا.



صدى الشام