لا يمكن للعدالة أن تطفئ الكراهية


ديمة ونوس

دخلت خولة ذلك الصباح إلى كلية الطب البشري في جامعة دمشق. مازالت مُصرّة على متابعة تعليمها، على الرغم من كل ما يحيط بها من خراب، وهي تعرف ضمنًا أن الطبيب في سورية لم يعد طبيبًا لكل السوريين، وأن ثمة معتقلين ومفقودين؛ لم تكن التهمة الموجّهة إليهم سوى العمل في الإغاثة! لا بدّ أنها سمعت أيضًا عن العفو الذي يشمل من حمل سلاحًا، وربما ارتكب فعل القتل، إلا أنه لا يشمل من ساعد في تهريب رغيف خبز واحد إلى الأطفال المحاصرين في المناطق الثائرة. لكنها مصرّة على تكميل تعليمها في بلد يعيش العبث، كما لم يعشه بلد آخر على الأرجح. ألا يمكن للعلم أن يكون الحقيقة الوحيدة وسط كل هذا العبث؟

لا نعرف إن كان ذلك هو الدرس العملي الأول الذي تحضره خولة في كلية الطب، ولا نعرف إن كانت قد اختبرت -قبل الآن- تجربة الاقتراب من جثة هامدة، لتشريحها والعبث بأعضائها ودراسة تضاريسها. هناك في جامعات الطب، يتحوّل الإنسان إلى جثة مفرّغة من الروح، جلد وعظام وأعضاء ميّتة وعينان منطفئتان، إلا أن لذلك شروط، منها أن تكون الجثة كاملة، بلا تشوّهات، أي أن صاحبها مات ميتة طبيعية، قد يكون عانى لسنوات، وربما أهلكه احتشاء أو جلطة أو سرطان، وقد يكون مات منتحرًا، لا شأن للأساتذة وللطلاب بسبب موته، ما يهمّ أن تكون جثته كاملة، جاهزة لدرس عملي.

قصة خولة لم نقرأها في رواية، ولم نشاهدها في فيلم. إنها قصّة واقعية حدثت قبل أيام في جامعة دمشق، إلا أنها تفتح أمامنا الخيال على قصص أخرى مشابهة تحصل كل يوم، وربما كل دقيقة. خولة قرّرت ألا تبوح لأمّها بما شاهدت، إلا أن قصّتها انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر وكالات الأنباء. ربما لن تصل إلى والدتها، لكنها وصلت حتمًا إلى مئات الأمّهات اللواتي فقدن أحبّاء منذ سنوات، ولم يسمعن أي خبر يُنقذ مخاوفهن. قصة خولة، فتحت اليوم ذلك الاحتمال الفظيع بوحشيته أمام مئات العائلات التي فقدت وافتقدت، وما تزال تنتظر وتتمسّك بخيط أمل. كلّ مختف هو احتمال جثة! كل معتقل لم يسمع عنه أهله شيئًا منذ اعتقاله، هو “مشروع تخرّج” لطلاب كلية الطب في جامعة دمشق.

الفروع الأمنية لا تسلّم جثث ضحايا التعذيب إلى ذويهم، يسلّمونهم الهويات الشخصية فقط! تصبح “الهوية السورية”، هوية عار، الدليل الوحيد على وجود شخص ما أو موته أو اختفائه أو تهشّم أعضائه، يحرمونهم من الجثة، في محاولة لإهانتهم وإهانة الضحية. الأهل يحرمون من قبر يزورونه، والضحية تحرم من أرض تغطّيها في رحلتها الأخيرة. وكنّا نتخيّلهم يرمون الجثث في الشوارع، أو في الآبار، أو يدفنوها على عجل في أماكن مجهولة! ألم تصبح سورية قبرًا كبيرًا بعد؟

كيف ستنجو خولة بعد أن لمحت أخاها المختفي منذ سنتين ممدّدًا على سرير في جامعة؟ كيف ستغفو وصورته لن تفارقها هي التي لم تتجرّأ لحظتها على الصراخ! ادّعت فقدان الوعي لتهرب من المكان. لا نعرف إن كانت ادّعت أم بالفعل أضاعت وعيها في جثة أخيها، كامل الملامح، مع أنه فقد نصف وزنه تحت التعذيب. هل يتعافى الجسد المعذّب بعد موته؟ هل تختفي الكدمات، ويتغير لونها؟ هل يستعيد الجسد صفاءه بعد الموت؟ هل يرتاح الجلد وتتمدّد الأعضاء المقبوضة؟

الحرب الأهلية والطائفية التي ادّعى النظام اندلاعها بداية الثورة، ستندلع لا بدّ. إنّهم يستخدمون جثث السوريين المعذّبين، لتدريس سوريين آخرين! يعلّمون طلاب الجامعات كيف يُكملوا الفتك الذي بدأه النظام! كيف يغرزوا سكاكينهم ومقصّاتهم في أجساد بعضهم بعضً. إن نجت خولة ووالدتها، لن ينجو آخرون من الكراهية التي لا يمكن لأي عدالة في الدنيا أن تطفئها أو تنصف أصحابها.




المصدر