on
مأساة أميركية
أحمد عيشة
إن انتخاب دونالد ترامب للرئاسة ليس أقل من مأساةٍ للجمهورية الأميركية، ومأساة للدستور، وانتصار للقوى الاستبدادية والكارهة للنساء والعنصرية، في الداخل والخارج. نصر ترامب الصادم وصعوده إلى الرئاسة، هو حدثٌ مقزز في تاريخ الولايات المتحدة وفي تاريخ الديمقراطية الليبرالية. في 20 كانون الثاني/ يناير عام 2017، سنودع أول رئيسٍ من أصلٍ أفريقي – وهو رجل شهم ونزيه، وذو روح نبيلة- ونشهد افتتاحًا يخدع الذين لم يفعلوا سوى القليل لرفض تأييد قوى كراهية الأجانب والتفوق الأبيض. من المستحيل أن ترد على هذه اللحظة بأي شيءٍ أقل من النفور والقلق العميقين.
هناك، لا محالة، مآسٍ مقبلة: المحكمة العليا تزايدت رجعيتها، والكونغرس يتوحد مع الجناح اليميني، الرئيس هو من يزدري النساء والأقليات والحريات المدنية وحتى الحقيقة العلمية، فضلًا عن أنه لا يقول شيئًا عن اللياقة البسيطة، وهو ما برهنه مرارًا وتكرارًا. ترامب هو الابتذال غير المحدود، وهو زعيمٌ وطني بلا معرفة الذي لن يجعل فحسب الأسواق تتراجع، ولكنه سيزرع الخوف في قلوب المستضعفين والضعفاء، وفوق كل شيء، عديد من فئات أخرى التي كان قد أهانها بعمق وشدة. الأميركيون الأفارقة والإسبان النساء، واليهود والمسلمون الآخرون. الطريقة الأكثر تفاؤلًا للنظر في هذا الحدث الخطر -وهي امتداد- هي أن هذه الانتخابات والسنوات التي ستليها ستكون اختبارًا لقوة، أو هشاشة، المؤسسات الأميركية، ستكون اختبارًا لمدى جديتنا وعزيمتنا.
في وقتٍ مبكرٍ من يوم الانتخابات، كانت الاستطلاعات مدعاةً للقلق، ولكنهم قدموا أخبارًا واعدة بما يكفي بالنسبة إلى الديمقراطيين في ولايات مثل ولاية بنسلفانيا وميتشيغان وكارولينا الشمالية، وحتى فلوريدا التي كان هناك كل ما يدعو إلى التفكير في الاحتفال بإنجاز سينيكا فولز (مدينة في وسط أميركا)، وانتخاب أول امرأةٍ إلى البيت الأبيض. اختفت الانتصارات المحتملة في ولايات مثل جورجيا قبل أكثر من أسبوع بقليل، مع رسالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية (ف. بي. اي)، كانت الرسالة المضرة والمغفلة الإخراج إلى الكونغرس حول إعادة فتح تحقيقاته وظهور تعبيراتٍ طنانةٍ ضارة مثل “البريد الإلكتروني” و”أنتوني وينر” و”فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا”. ولكن الخلاف كان مع هيلاري كلينتون.
بدا ترامب مثل صورةٍ كاريكاتوريةٍ ملتويةٍ من كل انعكاس فاسد لليمين المتطرف. ها قد انتصر، لقد فاز في هذه الانتخابات، هو ضربةٌ قويةٌ للروح. إنه حدثٌ من المرجح أن يلقي البلاد في فترة من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي لا يمكننا أن نتصوره حتى الآن. وكون الناخبون، بالأكثرية –قد قرروا العيش في عالم ترامب، عالم الغرور والكراهية والغطرسة والكذب والتهور وازدراء المعايير الديمقراطية، هو حقيقة ستؤدي، لا محالةً، إلى كل أنواع الانحدار والمعاناة الوطنية.
في الأيام المقبلة، سيحاول المعلقون أن يطبِّعوا هذا الحدث، وسيحاولون تهدئة قرائهم ومشاهديهم بأفكار حول “الحكمة الفطرية” و”الاحتشام الأساسي” للشعب الأميركي، وسيقلِّلون من خبث الوطنية الظاهرة، والقرار القاسي لرفع رجل يركب في طائرة مطلية بالذهب، ولكن الذي استثمر مزاعمه بالخطاب الشعبوي عن الدم والتراب. كان جورج أورويل، الأكثر شجاعة من بين المعلقين، مصيبًا عندما أشار إلى أن الرأي العام لم يعد من الحكمة بالفطرة أكثر من أن البشر هم طيبون بالفطرة. يمكن للناس أن تتصرف بحماقة وتهور وتدمير الذات إجمالًا، كما يمكنهم ذلك بشكلٍ فردي أيضًا. أحيانًا كل ما يحتاجون إليه هو زعيمٌ ماكر، وغوغائي يقرأ موجات الاستياء ويركبهم للوصول إلى انتصار شعبي. وأضاف إنَّ “النقطة المهمة هي أن الحرية النسبية التي نتمتع بها تعتمد على الرأي العام،” وكتب أورويل في مقالته “حرية البارك/الحديقة.” “القانون لا يمثل أي حماية. تضع الحكومات القوانين، ولكن السؤال هو عما إذا كانت تنفذها، وكيف تتصرف الشرطة، فإن ذلك يعتمد على المزاج العام في البلاد. إن كانت هناك أعداد كبيرة من الناس مهتمة بحرية التعبير، ستكون هناك حرية تعبير، حتى لو كان القانون يمنع ذلك. إذا كان الرأي العام رخوًا، سيتم اضطهاد الأقليات غير المريحة، حتى في حالة وجود قوانين لحمايتهم.”
نفذ ترامب حملته مستشعرًا الإحساس بالحرمان والقلق بين الملايين من الناخبين -الناخبين البيض، بشكل رئيسي. وكثير من هؤلاء الناخبين، -وليس كلهم، ولكن الكثير- تبعوا ترامب لأنهم رأوا أن هذا الأداء الماكر – الذي كان صفرًا نسبيًا عندما أتى إلى السياسة، ومهرجًا هامشيًا، ومغرورًا في مشهد هزلي من ثمانينيات وتسعينيات نيويورك- لم يكن أكثر من الرغبة في أن يسلي العديد، وهو على أتم استعداد لتحمل مشاعر استيائهم وغضبهم، وإحساسهم بعالمٍ جديدٍ تآمرَ ضد مصالحهم. إنه ليس سوى الملياردير ذي السمعة المنخفضة لا يقنعهم أكثر مما كان الناخبون المؤيدون لمعاهدة بريخت في بريطانيا مقتنعين بكلبية بوريس جونسون وكثير غيره. لربما كان على الناخبين الديمقراطيين أن يأخذوا راحة لحقيقة أنَّ الأمة قد تعافت إلى حد كبير، ولو بشكل غير متساوٍ، من الكساد العظيم في العديد من الطرق، حيث انخفضت البطالة إلى 4.9 في المئة، -لكنها قادتهم، قادتنا، إلى عدم تقدير الواقع بشكل فاضح. اعتقد الناخبون الديمقراطيون أيضًا أنه مع انتخاب رئيسٍ أميركي من أصول أفريقية وصعود المساواة في الزواج وغيرها من العلامات، أنَّ ثقافة الحروب وصلت إلى نهايتها.
بدأ ترامب حملته معلنًا أنَّ المهاجرين المكسيكيين “مغتصبون”، وأنهاها بإعلانٍ معادٍ للسامية يجسد “بروتوكولات حكماء صهيون”، وسخر بممارساته ذاتها من كرامة المرأة والهيئات النسائية. وعندما انتقد لأي من ذلك، ضرب كل ذلك بعيدًا عن “الاستقامة السياسية”.
ومن المؤكد أنَّ هذه الشخصية القاسية والرجعية يمكن أن تنجح بين بعض الناخبين، ولكن كيف يمكنه أن يفوز؟ بالتأكيد، شبكة أخبار بريتبارت، Breitbart، وهي موقع المؤامرات الدنيئة، لم تتمكن من أن تصبح بالنسبة إلى الملايين مصدرًا للأخبار والرأي السائد. ومع ذلك، فإن ترامب، الذي انطلق في حملته الانتخابية بوصفها مجرد ممارسة تجارية، سيعترف عاجلًا أم آجلًا بأنه يمكن أن يجسد ويتعامل مع تلك القوى الظلامية. حقيقة إنَّ إعلان الجمهوريين “التقليديين”، من جورج دبليو بوش وصولًا إلى ميت رومني، كراهيتهم لـ ترامب يبدو فحسب من أجل تعميق دعمه العاطفي.
المعلقون، في محاولتهم لتطبيع هذه المأساة، سيجدون أيضًا طرقًا لخصم التلعثم والسلوك التدميري لمكتب التحقيقات الفدرالي، والتدخل الخبيث من المخابرات الروسية، والتمرير المجاني لساعة من دون انقطاع، والتغطية دون وساطة من المشجعين المقدمة إلى ترامب من التلفزيون الخاص (كابل)، ولا سيّما في الأشهر الأولى من حملته الانتخابية.
سيكون مطلوبًا منا الاعتماد على استقرار المؤسسات الأميركية، وميل حتى السياسيين الأكثر تطرفًا لكبح جماح أنفسهم عندما يسمح لهم بالدخول إلى المكتب. سيتم توبيخ الليبراليين كمتعجرفين، وبعيدين من المعاناة، وكأن هذا العدد الكبير من الناخبين الديمقراطيين غير ملمٍ مع الفقر، والنضال، والبؤس. ليس هناك سببٌ للاعتقاد بهذا التملق. ليس هناك سبب للاعتقاد بأن ترامب وفرقته من المقربين مثل كريس كريستي ورودولف جولياني ومايك بنس، وبول رايان أيضًا، هم في أي مزاج حتى يحكموا كجمهوريين داخل حدود اللياقة التقليدية. لم ينتخب ترامب على منبر اللياقة والإنصاف والاعتدال والتسوية، وسيادة القانون؛ انتخب، في معظم الأحوال، على حالةٍ من الاستياء. الفاشية ليست مستقبلنا-وهذه لا يمكنها أن تكون؛ لا يمكن أن نسمح لها أن تكون كذلك، ولكن هذا هو بالتأكيد الطريق الذي يمكن أن تبدأه الفاشية.
كانت هيلاري كلينتون مرشحةً معيبة، لكنها زعيمةٌ مرنة وذكية، والمختصة، التي لم تتحطم صورتها بين الملايين من الناخبين كغير جديرةٍ بالثقة والاستحقاق. وكان بعض من هذه النتيجة لغريزتها المتنامية بالشك، التي تطورت على مدى السنوات بعد أن تبعتها “فضيحتها” الوهمية/الزائفة واحدةً تلو الأخرى. وحتى الآن، بطريقةٍ أو بأخرى، مهما طال الزمن والتزمت بتقديم الخدمة العامة الجادة، كانت أقل ثقةً من ترامب، رجل الأكاذيب الذي خدع زبائنه، ومستثمريه، وتابعيه، رجلٌ أجوف تعكس تصريحاته الكثيرة وسلوكه أنه إنسان جشع شره، وكاذب ومتعصب. ونادرًا ما يعرض مستوى أنانيته خارج بيئة سريرية.
لمدة ثماني سنوات، عاشت البلاد مع باراك أوباما كرئيسٍ لها. في كثير من الأحيان، حاولنا أن نحد من العنصرية والكراهية التي توالت تحت سطح الفضاء الإلكتروني. ولكن حلقة المعلومات قد تحطمت. في الفيسبوك، مقالاتٌ في الصحافة التقليدية، القائمة على الواقع، تبدو المواد نفسها من وسائل الإعلام البديل اليمينية التآمرية. الناطقون بلسان غير القادرين على الكلام الآن يحصلون على جماهير ضخمة. كان هذا المرجل، مع الكثير من اللغة الكارهة للنساء، التي ساعدت على تحقير وتدمير كلينتون. كانت الصحافة-البديلة اليمينية منبعًا وخزانًا للأكاذيب المستمرة، والدعاية ونظريات المؤامرة التي استخدمها ترامب مثل الأكسجين في حملته الانتخابية. كان ستيف بانون، شخصية محورية في بريتبارت، مروجه الكاذب ومدير الحملة الانتخابية.
كل ذلك هو صورةٌ قاتمة. في وقت متأخر الليلة الماضية، حيث كانت النتائج تأتي من الولايات الأخيرة، اتصل أحد الأصدقاء وهو بكامل الحزن والقلق حول الصراع، حول الحرب. لماذا لا نترك البلاد؟ ولكن اليأس ليس هو الإجابة. لمكافحة الاستبداد، وفضح الأكاذيب، علينا أن نناضل بشرف وبشراسة باسم المثل العليا الأميركية- ذلك هو ما بقي لنا للقيام به. هذا كل ما هو مطلوب أن نفعله.
اسم المقالة الأصلي | An American tragedy |
الكاتب | ، دافيد ريمنيكDavid Remnick |
مكان وتاريخ النشر | نيويوركر، THE NEW YORKER، 9/11/2016 |
رابط المقالة | http://www.newyorker.com/news/news-desk/an-american-tragedy-donald-trump?intcid=mod-most-popular |
المترجم | أحمد عيشة |
المصدر