on
هل فعلًا “إن جن ربعك عقلك ما ينفعك”
حافظ قرقوط
إن التجربة التي تابعناها في أميركا، حول فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، ربما (بنظرة مُختلفة) نستطيع أن نقطف منها شيئًا يفيدنا كسوريين، على الأقل إن لم نستطع الاستفادة من دعم حقيقي، فمن الممكن أن نأخذ العبرة والدرس مما جرى في هذه التجربة، ولدينا مثل شعبي يقول: “إن جن ربعك عقلك ما ينفعك”.
قبل الدخول في فوز ترامب، فلنستعرض بداية من الشأن السوري، شكّلت انطلاقة الثورة السورية حالة استثنائية في كل شيء، وكانت خلاقة في ابتكار الأساليب التي حرّكت من خلالها المياه الآسنة في المجتمع، وخاصة ذلك الجمود في رتم الحياة، كنمطية الوزراء والبلديات والمدرسين والمديرين العامين، ونمطية مجلس الشعب الذي ما زال في ذاكرة السوريين أنه ملك لعبد القادر قدورة، ونمطية القيادة القطرية وقوالبها، وأيضًا رتم الأسد وخطاباته التاريخية التقليدية، فجاءت كلمات أطفال درعا غير التقليدية لتشعل العواطف قبل الشارع، وجاءت أهازيج القاشوش التلقائية وغيرها لتُلهب المشاعر قبل الساحات، حتى مكبرات الصوت التي كانت تُزرع في بعض الأماكن لتشاغب بهتاف “ارحل”، مثلها مثل الطابات الصغيرة التي رُميت في أحد أحياء العاصمة، وآلاف الأمثلة التي يمكن إيرادها عن إبداعات الشباب،التي كانت تقارب الجنون أحيانًا -لم لا- إذا كان الجنون هو كسر القوالب التي يستهدفها المبدعون والمبتكرون والموهوبون.
ترامب في حملاته المتعددة التي قادته بعد ترشيح الحزب الجمهوريله، إلى رئاسة أعظم الدول حاليًا، يمثّل حالة غير تقليدية، صحيح أنها حالة ليست ثورية، لكنها طريقة لم يعتدها المواطن الأميركي، ولا حتى المتابعين حول العالم، كذلك فشلت مراكز البحوث والمعاهد المعنية في استطلاعات الرأي، في توقع نتائجها، في المشهد السوري -أيضًا- فشلت كل التوقعات المبنية على المنطق، فهل نحتاج لأسلوب خارج المعقول.
هنالك مقولة عن تواتر خطوة الجنود بالاستعراض العسكري على جسر، التي تؤدي إلى تكسّر الجسر وانهياره، بسبب تناوب الضربة بشكل منتظم، ولا تتوزع عليه نقاط مرونة، فإذا اعتبرنا أن المجتمعات هي جسور السياسيين للسلطة، ومعاملتها برتم واحد سيؤدي لنقيض ما نتوقعه، وربما بعضه يقود إلى ثورة عارمة كما سورية، وبعضه من الممكن أن يؤدي إلى القفز فوق القواعد المتوقعة أو المرسومة -كما في أميركا- وكلاهما -بالنتيجة- تخطٍ للواقع أو احتجاج عليه وإن كان من زوايا مُختلفة.
لنلاحظ من جانب آخر، أنه عندما دخلت الثورة السورية في النمطية والرتم اليومي الاعتيادي ابتدأت تتآكل وتتحاصر داخليًا وخارجيًا، وأخذ كثيرون يبتعدون عن متابعة أحداثها اليومية، بعكس ما كان في بداياتها، ولننظر إلى بيانات وتصريحات الفصائل العسكرية، التي تبنّت خطابًا ثابتًا وجامدًا، ومليئًا بالحشو والشرح، ويختلف بعنوان أو اسم الفصيل فحسب، هذا أيضًا ينطبق على بيانات الهياكل السياسية التي تشكلت، مع تبديل في أسماء الموقعين وحسب.
لنبتعد أيضًا عن أميركا كدولة عظمى، ونأتي إلى بلد صغير كلبنان، فها هو ميشيل عون يصل بسلسلة مراحل غير طبيعية، مقارنة مع المواقف الرصينة لآخرين، فالتوقعات ربما تُبنى على قواعد عامة لها علاقة بالثقافة والأخلاق والاقتصاد، والتربية والتعليم والقيم، وردم الطائفية والانتصار لشهداء القضية التي آمن بها هو كشخص، قبل أن يذهب إلى منفاه بباريس، لتأتي النتيجة أن عون انتصر وهُزم الآخرون. في مصر التي هي نتاج ثورة، فاز عبد الفتاح السيسي بالانتخابات، وأصبح في مقدمة المشهد بخطاب فيه كثير من الاستخفاف بثقافة وتاريخ دولة كمصر، لكنه مهما كانت رؤيتنا هو الآن رئيس لأكبر بلد عربي.
في كندا مثل آخر، لكنه بعكس ذلك تمامًا، فقد فاجأ الشاب جاستنترودو المتابعين، بفوزه على منافسين مُخضرمين، كانوا يسخرون حتى من ترشّحه؛ كونه شابًا ولا يملك خبرتهم، وها هو يقود كندا بطريقة مختلفة وبشعبية جيدة وبلا تكلّف.
اختار ترامب في أميركا ألا يكون نمطيًا، بل فوضويًا، وهنا علينا الانتباه إلى أن الحالة السائدة لعقود، تنتمي إلى مدرسة نمطية؛ حتى لو اختلف أشخاصها بالانتماء لهذا الحزب أو ذاك، لكنها تُمثّل حالة الأبويّة السياسية والفكرية والثقافية والتربوية، التي تعتقد أن مجموعة القيم العامة كافية في الخطاب التعبوي للوصول إلى نتيجة، ترامب ليس شابًا ليتمرد على طُرق نمطية كهذه، ولكنه اعتمد خطابًا وحركات غير منضبطة أو نمطية، وكسر كل القوالب المُفترضة له كسياسي ليظهر بها، وهو أيضًا لم يُخاطب الشعب الأميركي ككتلة صلبة، بل كشرائح مختلفة، واعتمد على عنصر الصدمة التي تثير، ولم يخضع لمحاذير حتى في تعابير وجهه وحركة يديه.
لننظر أيضًا إلى شيء آخر، نحن أمام عالم أصبح فيه فيلم الكرتون مرافقًا لأجيال كبرت بمتابعته، فاقترب لأن يكون حقيقة، وليس رسمًا يتحرك، ونحن أمام مسرح لم يعد بحاجة لديكور بل إلى اللعب بعلم الإضاءة المُدهش، وكذلك ننتمي إلى زمن يستطيع فيه الشاب أن يُصمم فريقه لكرة القدم على الشاشة، ويتفاعل معه وكأنه حقيقي، ويناضل ليوصله إلى الكأس، وأننا أمام ابتكارات مذهلة في عالم الميديا، تعطينا أشياء مُدهشة على مستوى العالم، وهكذا نحن جميعًا في عالم دمج الافتراضي مع الحقائق.
في سياق آخر بعيد عن التكنولوجيا وواقعها الافتراضي، لننظر إلى الجمهور العربي، كيف يمكن أن نحشد منه الملايين لمتابعة مسلسل غير واقعي على بيئة افتراضية كـ “باب الحارة” لثمانية أجزاء متتالية، وحصد جماهيرية وإن لم ترق لبعضنا، بل انتشرت مطاعم ونواد وغيرها بالاسم نفسه للاستفادة منه تجاريًا، وفي المقابل، لا يمكن أن يجتمع واحد بالألف من هذا الجمهور، على عمل يُحاكي الواقع برصانة.
إن ما عاناه الفلسطينيون من جرائم إسرائيل خلال نصف قرن، قد يكون أنموذجًا آخر للجنون العالمي، الذي يستلهم من اللامعقول ليبني المعقول، أي أن تسخيف القيم قد يكون هو المدخل للفت الانتباه، ولنتابع وسائل التواصل الاجتماعي، كيف أن موضوعًا بحثيًا رصينًا لا يمكن أن يجذب أي عدد يُذكر، لكن بضعة كلمات فيها إثارة على الموضوع نفسه، ستلفت نظر الآلاف.
قد يقول قائل إن المجتمعات لا تُحكم بالغوغائية، لكن الجواب سيعود إلى هناك، إلى حيث أن إبادة للحجر والبشر تتم على مرأى العالم الذي اعتقدناه رصينًا، ويتم نكرانها بكل غوغائية، وأصبح المطلوب على مدار الساعة من الضحية أن تُثبت أنها ضحية، فلطالما توقعنا أن لون الدم الذي يُغطي وجه الطفولة، سيهز مشاعر العالم، واعتقدنا أن صورة جسم هزيل جائع تنبثق منه العظام ويغيب اللحم، مع عيون غائرة، سيدفع الناس لاحتلال شوارع العالم استنكارًا، أو بمجرد تصوير مئات الجثث لأطفال قضوا بالسلاح الكيماوي، سيُستنفر قادة العالم؛ فيتوافدون إلى الأمم المتحدة على عجل، لاتخاذ ما يلزم لأجل حماية الإنسانية، وعلى هذا سارت المعارضة السورية في خطابها البكائي والحالم والنمطي في حالات كهذه، ثم تابع الجميع استعمال الكلمات التي تُشبه شعارات القرن الماضي، بطريقة يسميها بعضهم خطابًا خشبيًا.
ترامب نجح في أعظم دولة مهما قالت الصحافة ومراكز الأبحاث عنه، لكنه أصبح واقعًا، اذهبوا في خطابكم السوري إلى موازاة ترامب، قبل أن يلتهم وليد المعلم بقية القارات، فيُصبح مع رئيسه حقيقةُ يُعاد تدويرها، ويُصبح بقية السوريين الأحياء في العالم الافتراضي، بصورة شهداء على الجدران.
المصدر