أكرم قطريب :دروب العودة إلى سورية


بحركةٍ فجائية يعيدنا أكرم قطريب في ديوانه الصادر مؤخّراً لدى دار مخطوطات-هولندا تحت عنوان :”كتاب الغريق”، إلى ما سبقَ الحرب السوريَّة، هذ واضح عندما يستغرق المرء في التأمل بما تحوي الكلمة من دلائل لغويَّة، ومن ثمّ بالحركة الفجائية ذاتها يعيدنا إلى الرّاهن في بلده سورية، حكايات الجدران والشقق المغلقة، حكاياتُ الأشجار العتيقة، والمكان كملاذٍ سريّ للشاعر حتّى وإن كانَ الأخير غارقاً وتائهاً في الغياب:

“تركتُ كلّ دمشق أمام بيتكِ
لن يطلع القمر على السطوح، لأن أبناء الحي يفرشون العنب
تحت شمس آب”

بالعودة إلى المكان شعريَّاً تثبُ المعاني، فليس بوسع السوري الذي يكتب في/عن الرّاهن سوى أن يتّكأ على الموروث الكتابي والحنانِ المستشفّ من الكلمات، ما من دربٍ للعودة سوى شعريَّاً، هذا إن دلّ فلن يدلّ سوى على براعة الشعر في التنقّل بين ما هو موجود الآن وما كان موجوداً فيما مضى بكلّ سلاسة، هذا التأرجح الذي يخيف ويُعطي قدرةً ما على إتقان التوازن في الوقت عينه، وعليه فإنّ المدوّن يبقى العلامة الأكثر خلوداً وبقاءً عبر الأزمان.

الندم القديم 

يفتتح أكرم قطريب ديوانه بإهداءٍ إلى الصحافي ناجي الجرف، ولِمَ لا؟، فالشهادةُ في سورية باتت أكثر من أيّ شيء على سطح تلك الرقعة الجغرافية من العالم، خبز وماء الإنسان بشكلٍ يوميّ، ومن ثم يبدأ بقصيدة ذات عنوان ملفت: “كل كتابٍ هو ندم قديم” ليحيل القارئ إلى مفردات التصوّف ولغتهم القديمة، ومن ثم العودة إلى اليوميات الدمشقيَّة العتيقة والحديث عن كلّ شيء بندمٍ شعريٍّ واضح:

“عليّ أن أنتظر عشرين سنة أخرى كي أعلّمهم دروس الندم”.

فما يهبه الانتظار من وقتٍ طويل للشعور بالندم يجبرُ القارئ على تخيّل عظمة الندم وهيبته خَلَل الوقت الطويل، وفي نصّه المعنوَن بـ “تاريخ العاطفة” تشعر وكأنّك أمام رقيمٍ أثري يحوي تاريخاً قديماً أعيد إحياؤه عبر الكلمة، بأناقةٍ وخجل يتذكّر أكرم دونما توقّف في نصوصه القصيرة طولاً والطويلةِ معنىً إذا جاز التعبير.

المكانُ شعراً

يحوي “كتاب الغريق” للشاعر أكرم قطريب دلالات عدّة على المكان، ربمّا سورية هو المكانُ الأوحد ذا الدلالة العظمى شعريَّاً، فكلّ ما كُتِب عن الخراب في العالم له دلالة سوريَّة، ثمّة ذكرٌ تدويني للأماكن السورية الشهيرة: “باب مصلّى، البرامكة”، تلك الأماكن التي غدت الآن مجرّد ذكرى للشاعر، يحيي عظامها عبر الكلام والتدوين:
“كنت أشير إلى منزلها من نافذة الميكرو، وكنّا بشراً شبيهين بموتى المقابر البحرية
محشورين داخلها كتماثيل بقمصان منزوعة الأزرار”.

الميكرو الأبيض، ذاكرة السوريين ودلالةُ المكان المعذَّب الأوحد خلال التنقّل بين أرجاء دمشق المترامية الأطراف، حياةُ السائقين الرتيبة والأغاني الهابطة والحواجز الأمنيَّة فيما بعد، كل هذا ما لم تُبُح به النصوص، إنّما القارئ السوريّ سوف يدرك المعنى، كلّ ذا يتحوّل بلمسة الساحر إلى كلامٍ يوميّ ذا صبغةٍ شعريَّة كاملة، فالمكان كان منذ القدم الصيغة الشعريَّة الأنسب لإتقان الغوص في التفاصيل الحجريَّة مهما كانت صعبة المنَال:

“كان كافياً أن أجد مفتاح البيت فوق ساعة الكهرباء
في الوقت الذي يعمّ الظلام المدينة”.

كما أنّ اسم المكان وهو يدوّن صراحةً ودونما أية تورية يضفي على النصّ الصبغة الحقَّة لنصٍ شعريّ حقيقي ينبض بحقيقيَّة المكان، كما في نصّ (سلمية)، المكان الذي يعيد القارئ السوريّ إلى أيّام سحيقة تمتدّ في الذاكرة طويلاً دون تعرّضٍ للنسيان مهما طال الزمن إنّما بغصَّةٍ واضحة من خلال الكتابة.

وطِوال العمل الشعريّ الموسوم بـ (كتاب الغريق)، لا ينفكّ الشاعر يذكّرنا بما كانَ ماضياً، هذا كلّه بلغةٍ خفيفة أقرب إلى اليومي منها إلى الشعري المعقّد، من خلال استخدام مفرداتٍ لها وقعها ودلالتها الخاصَّة لدى القارئ المتذوّق، والشاعر/القارئ سيعثر على المفردات الأنيقة التي تمتلك شحناتٍ من المعنى تضفي الرونق الأساسي على مفردة (شعر)، على الرغم من تسطيح الأخير عبر تسيّد الرديء مكاناً ومعنىً.

التأرجح ما بين النثر والشعر

لا شكّ في أنّ المزج بين الأنواع الشعريَّة يزيد من تعب الشاعر الداخليّ وهو يبحث عن النوع الملائم لشعوره أو ما يمكن أن يسمّى أو يُصطلَح عليه فيما يلي الانتهاء من التدوين، بحثٌ ما ورائيّ غير ملموس بالنسبة للشاعر ذاته أو بالنسبة للقارئ حتّى، تدفع روح الشاعر إلى عدم المعرفة والتمييز، فقط الكلامُ يدوّن وتغدو الطريقةَ الأمثل لتحديد الفوارق بين ما هو نثريّ وما هو شعريّ بمختلف الطاقات الموجودة في القصيدة الواحدة/ كما في نصّه (بيت في شارع لوبيا)، شيء ما خفيّ في النصوص يعرّي القارئ ويجعله أمام الحقيقة/حقيقته الواضحة للعيان، نثراً كانَ أم شعراً، المدينة الجامعية و”تنكات البيرة” والنوم في أسرّة الأصدقاء الطلبة، والحديث المستمرّ حول غرامشي ورولان بارت في حين أن الجيوب فارغة من أي مبلغ ماديّ/ مفارقات الحياة الحقّة في دمشق، كل شيء يبقى هنا ذا قيمة دلاليَّة بحتة عبر المفردات المشحوذة بسكاكين الغياب كما في نصّ (الإلياذة السوريَّة)، كلّ كتابةٍ هباءٌ أمام سؤال موظّف المطار عن الأدوات الكهربائية في حقيبة الكتف!

هذا التأرجح ما بين الشعر والنثر يودّ الإفصاح عن رغبة الشاعر المطلقة في التحرّر من وطأة الأنواع وتآويل النصّ المتعدّدة.

رائحة الكلمة والشذرة

من الإمتاع إلى طرح الوِحشَة قتيلةً، تدور نصوص (كتاب الغريق) حول الغريق الذي هو الشاعر نفسه، كلّ سوريٍ غريق في الرّاهن من الأيّام، شاعراً كان أم عاملَ تنظيفات! يُعبّر عن ذلك كله من خلال مكنونات النصوص التي كُتِبَت بُعداً واستغراقاً في الغياب الذي يؤسّس الكتابة الجديدة، كتابةُ الألم السوريّ بطريقةٍ غير مباشرة وأحياناً بتلمّس الكائن السوري وهو الغائبُ/الحاضر، وبشذراتٍ متفرّقة بين ثنايا الكتاب تتوضَّحُ المعاني الخفيَّة لسورية الرّاهن:
“أيتها الحريَّة،
كأنك طير من عصور ما قبل التاريخ”.

وتستمرّ الشذرات موزّعةً على صفحات الكتاب بأكمله كعباراتٍ متأنّية الصنع والنحت، يستدلُّ القارئ من خلالها على بشاعة ما يحصل في دمشقَ خلال خمس سنواتٍ خلَت ولا تزال، كما في نص “نبوءة بشأن دمشق”:

“كل هذا اللحم السوري المعلّق على الحيطان هو خبز طريّ متروك لجائعٍ في الليل،
عرياناً يخرج السوري من رحم أمّه، وعرياناً يفارق الدنيا كما جاء، بعد أن ختم قراءة المنطلقات النظرية لحزب البعث”.

حكايةُ الألم السوري

التفاصيل اليومية للحدث السوري أو ربمّا لَنقُل -الألم السوري- تَرِدُ بكثافةٍ شعريَّة ضمن نصوص الكتاب، غرقٌ في تفاصيل ما مضى وعرض تفاصيل ما سيأتي بلغة الذاكرة المُعتَّقة، وعلى الرغم من عدم معايشة الجرح اليوميّ بحكم ابتعاد الشاعر عن مكان الألم-سورية-، غير أنّ سورية كَجرح موجودة من خلال التعابير:

“سوريا التي كانت تبعد عنا كيلومترات قليلة
صارت تبعد آلاف الكيلومترات”.

إذن، البُعد، العلامةُ الشعريّة/السوريَّة الفارقة، غدَت الآنَ وبتقنياتٍ مختلفة كتابةً أخرى مغايرة تماماً لما هو سائد، فما عدا الخراب والقصف والتشرّد، ثمّة أفق متوّهج للكتابة الشعريَّة التي تعانق الألم السوريّ لترسم درب الإياب حتّى ولو كان الإياب ذاك شعريَّا وحسب، فالكلامُ صنوُ الألم وصقلهُ يحتاج إلى الشعور الحقيقي بِرفعة المفردات وسموّها.

الرّهان على المكان مكائدُ لنصوص أكرم قطريب مهما كانَ المكانُ بعيداً فهو محشوّ في الرأس ولا يفارق النظرَ:
“بينما بقيت روائحُ الأمكنة في رأسي



صدى الشام