الصحافة في خدمة أعدائها… من دونالد ترامب إلى بشار الأسد


بدا الأمر غير قابل للتصديق. كان من المفترض أن النتيجة محسومة لمصلحة هيلاري كلينتون.
كل التوقعات -عدا تلك التي رفضنا قبولها- والمؤشرات، باستثناء تلك التي فضلنا تجاهلها، وحتى الإحصاءات، من ضمنها التي أثبتت سلفاً عدم فعاليتها، كانت تؤكد أن الولايات المتحدة تتجه إلى انتخاب أول امرأة لرئاسة الجمهورية، بعد ثماني سنوات على انتخابها أول رئيس أسود في تاريخها.
مرت الساعات والذهول يتزايد مع سيطرة اللون الأحمر على شاشة الـ»سي أن أن»، تحت أعين نجومها غير المصدقين هم الآخرين لما يجري. ذهول، زاد من حدته إعلان يمر كل نصف ساعة يتصل خلاله لبنان (نعم البلد) برجل أعمال لبناني مهاجر، يخبره أن وقت العودة إلى الوطن قد حان…
مباشرة على الهواء… لبنان، شركة عقارية تتصل بأبنائها في المهجر، وأميركا تنتخب دونالد ترامب…
أي عالم مجنون هذا؟
البليونير، نجم تلفزيون الواقع الذي حول الحياة السياسية إلى استعراض فني حافل بكل أنواع العنصرية والكره للنساء، والمهاجرين والمثليين وذوي الإعاقات، والمسلمين واليهود وكل من لا يؤمن بتفوق «الرجل الأبيض» إضافة إلى كل المجموعات التي عاداها واعتبرها نخباً منافقة من المثقفين والبيئيين والعلماء، وطبعاً الصحافيين، صار رئيس أقوى دولة في العالم.
في صباح التاسع من تشرين الثاني( نوفمبر)، بدت أميركا أقرب إلى بيروت. عملية انتخاب عبثية، أقله من حيث الشكل. شعب منقسم، كاره لنفسه وشرائح اجتماعية بكاملها تشعر بأنها مهددة بوجودها. كما حصل إثر انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، إذ وجد كثر من اللبنانيين في الفكاهة السوداء متنفساً ملأ صفحات «فايسبوك» بالتعليقات الساخرة واللاذعة.

عند هذا تنتهي أوجه الشبه
اللبنانيون، بعد أن انتهوا من التهكم على «مهزلة» ما جرى في مجلس النواب خلال عملية الانتخاب، سلموا بأمرهم، فهم على مروحة اختلافاتهم، من الذين اعتبروا وصول عون إلى قصر بعبدا استعادة لحقوق المسيحيين، وصولاً إلى الذين طعنوا بشرعية رئيس منتخب من قبل مجلس نيابي مشكك بشرعيته، يعلمون أن الصفقة تمت، وما جرى قد جرى، وأن لا جدوى من أي اتهامات، أو حتى مساءلات.
في المقابل، أميركا التي نامت على صدمة انتخاب ترامب، وحتى قبل أن تلتقط أنفاسها بعد أشهر من الحملات الانتخابية المرهقة، استيقظت على كم من الدعوات إلى مراجعات تعيد النظر بكثير من المسلّمات.
بدا الأميركيون، الخاسرون منهم قبل الرابحين، متمسكين بعقدهم الاجتماعي، إلى حد جعلهم قادرين على مواجهة أنفسهم، من أجل تحديد المسؤولية بوصول ترامب إلى السلطة.
خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، مئات المقالات نعتت الرئيس ترامب بكل النعوت.
«نيويورك تايمز» التي خصصت صفحتين كاملتين نشرت فيهما كل الإهانات التي وجهها ترامب إلى أشخاص، أو مجموعات أو حتى دول على مدى حملته الانتخابية، اعتبرت أن وسائل الإعلام السائدة تعاملت مع هيلاري كلينتون مرشحة جدية وحيدة لرئاسة الجمهورية، فيما اعتبرت ترامب مهرجاً يستقطب الجمهور.
«النيويوركر» اعتبرت وصول ترامب إلى السلطة «مأساة أميركية» وموقع «فوكس» نشر سلسة من ١٣ موضوعاً تفند القطاعات التي يشكل انتخاب ترامب «مأساة» بالنسبة إليها وعلى رأسها القطاع البيئي وقضية الاحتباس الحراري التي تعتبر من أهم إنجازات باراك أوباما والتي اعتبرها ترامب وفي أكثر من مناسبة، مجرد «كذبة» روجت لها الصين.
«سلايت» هي الأخرى حملت الأعلام مسؤولية الفشل بتجنب صعود ترامب، واعتبرت أن التعاطي معه بصفته «نكتة تزيد نسب المشاهدين» وليس «كخطر يزيد من نسب المشاهدين»، أمراً لم يعد مسموحاً، وطرحت نقاشاً حول جدوى الصحافة وقيمة التغطية المتوازنة عندما يكون أحد المرشحين مجسداً «لشبه فاشية قومية بيضاء». دانيال أوكرنت، رئيس تحرير سابق في «النيويورك تايمز» طرح تساؤلاً عن معنى القيم الصحافية، بما فيها مثالية الموضوعية إن لم تكن الغاية من ذلك خدمة القارئ والمجتمع وجعل القضية أكثر دقة ووضوحاً. ويعطي مثالاً على ذلك بالقول إنه في حال كانت هناك شخصية عامة تقول إن الأرض مسطحة، ففي الأمر مادة خبرية. المهنية لا تكون بمجرد نقل الخبر، ولكن بالتأكيد أيضاً أن الشخصية صاحبة هذا الرأي مخطئة، وهذا ما لم يحصل مع ترامب.
عشرات المقالات ذهبت أبعد من ذلك، لتحمل الإعلام المسؤولية المباشرة لصعود ترامب، بخاصة في المرحلة الأولى من الانتخابات، أي قبل أن يصبح مرشح الحزب الجمهوري. في حديث مع طلاب جامعة هارفرد، أقر جف زوكر رئيس محطة CNN، بأن الأمر الوحيد الذي يندم عليه والذي يرى أن المحطة قد تكون أخطأت به، هو قرار نقل حملات ترامب كاملة، واعترف بأن القرار كان اقتصادياً ومرتبطاً بنسب المشاهدة العالية التي كان ينالها. أما عن المساحة التي أعطيت لترامب، فسببها كان برأيه «بسيطا جداً» وهي أنه كان يقبل إجراء مقابلات في كل مرة، فيما رفض كل من منافسيه مارك روبيو وجب بوش إجراء أي مقابلات على مدى أكثر من شهرين.
عشرات المقالات قرأتها أشعرتني كم هي بعيدة بيروت عن أميركا. كم هي بعيدة دمشق، وبغداد والقاهرة. هذا النقاش الضروري حول التحديات التي تواجهها المهنة في زمن صحافة البيانات وأولية النقرات، لماذا غائبون نحن عنها إلى هذا الحد؟
يعتريني شعور بالغيرة لدى قراءة مقالة يتحدث كاتبها عن «الكابوس» الذي يتوقع أن يعيشه الصحافيون في عهد ترامب الذي سيسعى إلى «تركيع» الصحافة عبر مقاضاة من ينتقده، ليرد هو بنفسه أن الأمر سيكون محدوداً، لأن القضاء لن يسمح بذلك.
في عهد ترامب «الكابوسي»، ليس هناك من يشعر بأن هناك خطراً على الصحافيين بأن يسجنوا، كما يبشرنا أصحاب النوايا الحسنة في بيروت، أو أن يُقتلوا في سجون بشار الأسد، كما هو حاصل منذ عقود…

مساءلة عاجلة
لماذا هرعت الصحافة في أميركا إلى مساءلة نفسها حتى قبل صدور النتيجة، وتقاعسنا نحن العالقين بمأساتنا منذ عقود؟ هل لأن لا مواضيع نناقشها؟ أم لأننا لا نعرف أن نناقش؟ أم لأننا نعرف سلفاً أن لا جدوى من نقاشاتنا؟
حتى قضايانا نحن تولد نقاشات يبقى إعلامنا على هوامشها.
أقرب مثال زمني على ذلك تغطية كبريات وسائل الأعلام الغربية المؤتمر الذي عقد في دمشق الأسبوع الماضي. لم يتوان الصحافيون الموجودون عن اعتبار المؤتمر بروباغاندا، أو مواجهة الأسد وتحميله مســؤولية المقتلة الدائرة في سورية… إلا أن نقاشاً دار حــول أخلاقية إعطاء رئيس النظام السوري مساحة و فرصة إضافية للحديث عن حرب نظامه ضد الإرهاب.
لو لم يكن تحقيق «النيويورك تايمز» وزميلاتها، لما كان مقال تابليت ماغازين المنتقد الزيارة، ولا موقف «بوليتيكو» التي دافعت عن واجب الصحافة بنقل وجهة نظر كل الأطراف، لأن الحديث لا يجب أن يقتصر على اللطفاء فقط. في النقاش، صحة وضمانة أن الأشياء وان كانت سيئة فهي مدركة لحدودها وساعية لتخطيها.
ليس هذا لأن لدي موقفاً نهائياً من الموضوع، ولكن لأن ثمة حاجة حقيقية لنقاش ما جرى في دمشق عشية ذلك المؤتمر. أنا لا أملك من الحياد ما يمكّنني من الجلوس إلى مائدة بشار الأسد، وإن كان في ذلك مدخل لمواجهته بالأسئلة المحرجة.
قد يكون في الأمر تنازل عن مهنية وموضوعية، لكنه ثمن يجب أن نكون مستعدين لدفعه وإن لم نكن متأكدين من أنه ليست هناك خيارات أفضل من «قتل قصة» لمجرد أنها لا تتناسب ومبادئنا أو حتى التزاماتنا الأخلاقية.
هل نذهب؟ هل نكتب؟ هل نبقى على الحياد؟ هل الصمت أفضل من النقاش؟ هل نحن قادرون أصلاً على نــقاش؟ هل نذكر نحن أصلاً لماذا اخترنا أن نكون صحافيين؟ في زمن الناشطين الإعلاميين، هل نسعى إلى تقديم الأفضل أو ننافس على الضوء؟ هل نعيد النــقاش حول ضرورة فصل المادة التحقيقية عن مقالات الرأي؟ والمــادة الجدية عن تلك الساعية إلى تحقيق النقرات الضرورية للاستمرار؟ أين نحن من كل هذا؟ وما مساهمتنا باستثناء إعادة تدوير بعض المقالات ونشر بعض التعليقات القاسية والساخرة؟
أياً كان موقفنا، فإنه لن يغير من حقيقة أنه بعد تجاوز صفعة المفاجأة، يبدو انتخاب ترامب أكثر واقعية ومنطقية في عالم يعلم ويرفض أن يرى.



صدى الشام