on
ترامب القادم من الغرب – نكون أو لا نكون
فؤاد عزام
يكرر الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، رؤيته إزاء القضية السورية، والتي يصفها بأنها مغايرة لسياسة الإدارة الأميركية الحالية، ويقول بوجوب تجنب الإطاحة بنظام الأسد، والأفضل استخدامه لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويقترح “الابتعاد عن سياسة الإدارة الأميركية الحالية، والتي ترتكز على إيجاد جماعات معارضة سورية معتدلة لدعم الحرب”.
رؤية الرئيس الأميركي المنتخب هذه والتي أوردتها صحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية، كان قد أعلنها في تموز/ يوليو الماضي لصحيفة (نيويورك تايمز)، حيث قال حينها: “أعتقد أن علينا التخلص من داعش قبل التخلص من الأسد”، وهاجم في الوقت نفسه دول الخليج، وقال: “على المملكة العربية السعودية أن تدفع ما أسماه بتكلفة حماية الولايات المتحدة لها”.
أوباما وترامب مواقف متطابقة
لا شك في أن سياسة الرئيس ترامب لن تكون كسياسة الرئيس أوباما من حيث الشكل، وما ينظر إليه على أنه تغيير في خطابه وتصريحاته، هو في الحقيقة ليس جديدًا بقدر ما هو استمرار لسياسة الولايات المتحدة، لكنه استمرار مختلف، فهو “معلن وأكثر وضوحًا وتحديدًا، وبالتالي؛ سيكون هناك اختصار للفعل الصريح، بدلًا من سياسة التلميح والمراوغة و”الوجهين” التي كانت تتبعها إدارة أوباما، فهذه الإدارة لم تضع في أجندتها -في يوم من الأيام- الإطاحة بالأسد، على الرغم من أنها تُكرر أن الأسد فقد شرعيته، ونذكر كيف جاءت الفرصة للتخلص من نظام “الأسد” بعد استخدامه الكيماوي قبل نحو ثلاث سنوات، وحشدت الولايات المتحدة حشدًا مسرحيًا قوات لضرب النظام الذي سلم على أثر ذلك المخزون الكيماوي، والحقيقة كانت كما قال المفكر الأميركي، ناعوم تشومسكي، بأنه لن تكون هناك ضربة أميركية؛ لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، ليس متحمسًا لها.
في بداية الشهر الماضي، وبعيد “تعليق” واشنطن العمل باتفاق “كيري – لافروف”، وفشل الهدنة في حلب، تصاعدت حدة التصريحات بين الجانبين تصاعدًا لافتًا، وسارعت الولايات المتحدة إلى تسريب أنباء عن أن الرئيس أوباما سيجتمع مع كبار مستشاريه للسياسة الخارجية وفريق الأمن القومي؛ لبحث خيارات عسكرية، وخيارات أخرى في سورية، مع مواصلة الطائرات السورية والروسية قصف حلب وأهداف أخرى، وعُقد الاجتماع -فعلًا- في الرابع عشر من الشهر الماضي، وصدر بيان عن البيت الأبيض لم يُشر إلى أي خيار عسكري، بل أكد أن البحث خلال الاجتماع تناول القتال ضد تنظيم “داعش”، والحرب في سورية.
أوباما مهّد لمواقف ترامب إزاء دول الخليج
سبق أوباما ترامب، بل ومهّد له في مهاجمة دول الخليج حين صادق الكونغرس بمجلسيه: النواب والشيوخ أخيرًا على قانون “جاستا” الذي يتيح لمواطنين أميركيين مقاضاة الحكومة السعودية؛ لما قيل عن دورها في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وكان قبلها قال لصحيفة (ذا أتلانتك) في تلميح إلى دول الخليج “إن زمن ركوب الظهر الأميركي قد انتهى”، في حين كان يمتدح الحضارة الإيرانية، وأنجز مع إيران الاتفاق النووي، فإنه لطالما انتقد الحكومات الخليجية، دون أن يذكرها بالاسم أيضًا، لكنه لم يوافق على دخول القوات السعودية البرية إلى سورية، ولم يسمح بتسليح الثوار بأسلحة نوعية للدفاع عن أنفسهم، وهو ما جعل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي لطالما كان يكرر أنه ستتم إزاحة الأسد بالقوة أو عبر المفاوضات، إلا أنه تراجع عن موقفه بعد أن حشدت بلاده طائرات في تركيا استعدادًا للدخول إلى سورية، وقال الجبير حينئذ: إن دخول القوات السعودية سيكون ضمن قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، فيما ازداد الضغط أيضًا على السعودية بعد انخراط تركيا -أيضًا- في التفاهم مع روسيا، وتغيير أولوياتها إزاء سورية، تلك الأولويات التي كانت تتفق عليها مع السعودية اتفاقًا كاملًا.
السياسة الأميركية الشرق أوسطية
ثمة ثابتان في السياسة الأميركية، الأول هو أمن إسرائيل، والثاني ما يُسمّى بـ “محاربة الإرهاب”، لكن ما يبدو متغيرًا بين إدارة أميركية وأخرى هو الشكل فقط ويتعلق بالتطورات على الأرض وهو لدواعي التكتيك ليس أكثر، فالرؤساء أميركيون قبل كل شيء، ويتبعون مؤسسات وشركات كبرى ليست متغيرة، وإذا كانت مادة الفعل في المنطقة العربية هي “العقائدية الراديكالية”، فإن الفعل هو إسرائيل التي تُعدّ القاسم المشترك بين القوى الفاعلة في الملف السوري الأقوى، فالولايات المتحدة ملتزمة استراتيجيًا بضمان أمنها، وهو ما تتفق عليه مع روسيا ودول الغرب، وبالتالي؛ فإن حركة المنطقة تسير على إيقاع خطوات إسرائيل المتماهية مع مشروع “الشرق الأوسط الجديد ” أحد الآليات التنفيذية لمحور “محاربة الإرهاب”، الذي يُراد به تفكيك المنطقة وإعادة تشكيلها على أسس عرقية ودينية ومذهبية حيث كانت البداية من العراق بعيد الغزو الأميركي له.
يلتقي الأسد، ومن ورائه إيران، مع هذه الرؤية، التي تستهدف خصوصًا العرب السنة، وبالتالي؛ فهو يُقدّم خدمات لا يمكن الاستغناء عنها أميركيًا في المدى المنظور، وهو مصلحة قومية لإسرائيل ورأس الحربة مع إيران في تفتيت المنطقة العربية التي تُحضّير ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد الزي تبلورت رؤيته بعيد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، ومنذ عهد الرئيس بوش الابن الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري كما ترامب، والذي أعلن صراحة أن العالم قبل تلك الأحداث لن يكون كما قبلها.
فالاستراتيجية الأميركية في محاربة العقائدية الراديكالية، مسار ثابت، والمحور الذي حكم السياسة الأميركية طوال الفترة الماضية، وحققت تلك الاستراتيجية من خلال التحولات التي أحدثتها الثورات العربية عامة، والثورة السورية خاصة، تقدمًا في هذا المجال، أبرز ما فيه هو الساحة السورية التي هيأها النظام لتكون جبهة لقتال “المتشددين” الذين تدفقوا إلى البلاد من دول العالم المختلفة، ولا سيما الغربية منها، وهو ما رغبت به الولايات المتحدة، واستجاب له النظام، الذي دأب على إثبات فك ارتباطه بشعبه، ذي “الغالبية السنية”، واتهامه بالإرهاب والعمل على إثبات ذلك بوسائل شتى.
المنطقة العربية: مستقبل عصيب
لم يكن من باب الصدفة أن يعود التعويم لإعادة صياغة اتفاقية سايكس بيكو أو تغييرها خلال عام الانتخابات الأميركية الحالي، وفي الذكرى المئوية لهذا الاتفاق، فاللاعبون الأقوى تغيّروا أيضًا، فأصبحت الولايات المتحدة وروسيا بدلًا من بريطانيا وفرنسا، وقد تكون السرّية التي طبعت اتفاق المفاوضين البريطاني والفرنسي لتقسيم المنطقة العربية، هي ذاتها التي أحاطت باتفاق وزيري خارجية الولايات المتحدة جون كيري وسيرغي لافروف، وعلى الرغم من الحديث عن تعليق العمل به، إلا أن بنوده تُنفّذ على الأرض، فحاملات الطائرات الروسية والطرادات والبوارج والغواصات تدفقت إلى المنطقة؛ بهدف “محاربة الإرهاب”، والتنسيق الروسي – الإسرائيلي في أوجه، بالتزامن مع الحرب على “داعش” في كل من الموصل والرقة، والسعي التركي لتأمين منطقة آمنة من خلال قوات درع الفرات، فيما حلب تخضع لحصار وتهديدات بشن حرب تدمير ضدها.
لم تُعلن بنود الاتفاق الذي توصل إليه المفاوضان، سايكس وبيكو، وبقيت سرية إلى حين، لكنه كان ينفذ على الأرض، كذلك؛ فإن المفاوضات بين كيري ولافروف استمرت نحو ثلاثة أشهر، وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنها جاءت نتيجة مشاورات جرت بينه وبين الرئيس الأميركي باراك أوباما، لم يطّلع على تفاصيلها؛ حتى أقرب حلفاء واشنطن وهم الأوروبيون، فيما نُسّق مع إسرائيل حولها، بحسب المسؤولين الروس.
ترافقت مفاوضات كيري – لافروف مع اجتماعات لـ “مجموعات عمل”، مؤلفة من خبراء عسكريين من الجانبين، خصوصًا تتابع العمل على الأرض من جنيف ومركز حميميم الروسي، كما أعلن بوغدانوف، المبعوث الرئاسي الروسي، الذي أضاف أن التنسيق بين البلدين لم ينقطع، على الرغم من إعلان واشنطن -بعدئذ- “تعليق” العمل بالاتفاق إثر الهدنة في حلب.
كذلك ترافقت مع مفاوضات كيري – لافروف مفاوضات إقليمية مكثّفة، بغية الترويج للاتفاق، قادها المبعوثان الرئاسيان: الأميركي مايكل راتني، والروسي بوغدانوف، في كل من تركيا والسعودية وقطر وإيران، لم يرشح كثير عن هذه المفاوضات، إلا أن لقاءات راتني مع المعارضة السورية كشفت عن تهديدات أميركية لها، جاءت على كنصائح، مفادها أن الروس لهم اليد الطولى في البلاد، وأنه لولا الولايات المتحدة لكان الروس سحقوا المعارضة المسلحة، خاصة في حلب، وأن على المعارضة إعلان النأي بنفسها عن الإرهابيين.
وقد أُعلن عن الاتفاق في مؤتمر صحافي عقده كيري ولافروف في التاسع من أيلول/ سبتمبر الماضي، والوثيقة الوحيدة التي سُرّبت عن الاتفاق كانت تتعلق بـ “محاربة الإرهاب، والفصل بين المعارضة المعتدلة والإرهابيين”، وهي -بحسب المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا- من بين “خمس وثائق”، وقد كشف عنها على إيقاع تدفق السلاح الروسي إلى سورية، وتحت غطاء تهويل إعلامي أميركي، وتصريحات نارية مُستنكرة، لم تكن إلا للاستهلاك، وهو ما كشف الرعاية الأميركية للحل الروسي الذي هو جزء من الاتفاق بين الجانبين، والذي تُترجم بنود وثائقه على الأرض بالتدرج، ويعطي، كما تدلل الوقائع، روسيا وصاية كاملة على سورية؛ بذريعة “محاربة الإرهاب والتشدد الإسلامي”.
وعلى هذا؛ فإن القوى الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والغرب) لم تتفق مع العرب، أنظمة وشعوبًا، بقدر ما أنجزت اتفاقات كبرى واستراتيجية مع إيران وتركيا، إضافة إلى اتفاقاتها التاريخية مع إسرائيل، وبالتالي؛ فإن هذه الاتفاقيات في المستقبل وفي ظل إدارة الرئيس ترامب، ستكون خطرًا، إذ أن ملامحها في تفتيت سايكس بيكو على أساس عرقي وديني وطائفي قد لاحت في الأفق.
المرحلة المقبلة وخيارات المواجهة
سورية لم تعد إلى ما كانت عليه، وكذلك لن تكون دولة وطنية بالمفهوم السابق لـ “سايكس بيكو”، فهي الآن وسط بحر من الدماء، وكراهية بين مكوناتها العرقية والدينية والطائفية خلقها النظام وعمّقها، فأصبحت معها هذه المكونات مُنهكة مُدمّرة، كما حال البلاد التي نضبت مواردها؛ فأصبحت قطعًا تئن تحت نفوذ قوى غير سورية، فهي مجزأة عمليًا، وذاهبة إلى تقسيم من نوع خطر، ليس على أساس “كيانات مستقلة” بل في إطار كيانات تخضع لنفوذ القوى الفاعلة والموجودة على الأرض.
تبدو البلاد الآن في بداية ترسيم “مناطق نفوذ”، الولايات المتحدة في الشمال الشرقي، أي في مناطق الأكراد، وروسيا من خلال قواعدها في الساحل السوري وتدمر، وإيران وميليشياتها في دمشق وبعض ضواحيها؛ وحتى الحدود اللبنانية، وتركيا في الشمال الغربي، فيما يجري العمل على طرد تنظيم الدولة داعش من الرقة؛ لتصفية عناصره، أو حصر وجودهم في الصحراء، في حين تقلّص الدور السعودي والقطري الداعم لبعض فصائل المعارضة في مناطق مختلفة من البلاد، بفعل الضغط الأميركي خصوصًا
الثورات العربية ذات الدوافع المشتركة شكلت نهوضًا شعبيًا، وحملت أهدافًا تمثلت في “الحرية والكرامة” والتخلص من الاستبداد، ونواة لتحرر وطني، يُنجز مشروعًا “عربيًا”، عجزت عن تحقيقه الأنظمة، ولا سيما تلك التي ادعت العلمانية، إنما كان لتدخل القوى الدولية (الغرب عامة، والولايات المتحدة خصوصًا، وروسيا وإيران، وإسرائيل في الخفاء” الدور الأكبر في حرفها عن أهدافها، وإطالة أمد خروجها من النفق، ولا يبتعد هذا الدور عن الدوافع والأهداف التي تسعى إليها تلك القوى، ومن هنا كان تخوفها واضحًا، من أن تتجاوز الثورات العربية، التي هي في الحقيقة “ثورة واحدة”، الحالات العرقية والدينية والمذهبية؛ حتى لو كان على المدى البعيد، لأن من شأن هذا التجاوز أن يكون كابحًا أو مثبطًا لمشروعاتها.
لا شك في أن دعم الثورة السورية خصوصًا، هو واجب قومي عربي لمواجهة المخططات المقبلة، وأن هناك فرصة الآن أعلنتها صراحة الولايات المتحدة بعدائها لدول الخليج العربي خصوصًا؛ كي تستثمر في الثورة السورية لمواجهة تلك الخطط، من خلال أيضًا الاستجابة لمتطلبات الشعوب التي وحدها من تحمي المنطقة العربية، وليس الاستجداء للولايات المتحدة، فلا بد من بلورة مشروع عربي تقوده دول واعية تلظّت بنيران السياسة الأميركية كما الشعوب، بحيث لم يسمح للمشروعات الدولية “الأميركية والروسية والإقليمية والإسرائيلية والإيرانية والتركية” بالتوجه والتمدد في منطقتنا، وعدّها مكونًا وهدفًا رئيسًا لاستراتيجياتها المبنية أساسًا على المصالح الاقتصادية، وإن تغلفت بأشكال عقائدية أو أيديولوجية، أو ردات فعل الغاية النهائية منها الانتقام.
مواجهة المرحلة المقبلة أيضا يتطلب -عربيًا- الانطلاق من “نسف” مرتكزات مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي ستعمل عليها إدارة ترامب عملًا أكثر سرعة ودينامية، وأول تلك المرتكزات هو فشل العرب في السيطرة على “العقائدية الراديكالية”، على الرغم من أنه الأقرب إلى الذريعة؛ فنمو “العقائدية الراديكالية” ساهم الغرب -بالأساس- في صناعتها لمواجهة المعسكر الاشتراكي، وتغذّت -بعدئذ- بفعل استبداد “الأنظمة وقمعها” التي رعتها الإدارة الأميركية خصوصًا، وبلغت ردود فعل تلك العقائدية ذروته في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.
أخيرا، إذا كانت إدارة الرئيس أوباما تُلمح ولا تُصرّح، وتفعل ولا توضح، فإن ما يمكن عدّه خطرًا في إدارة ترامب من خلال وضوحها، وتسمية الأشياء بمسمياتها، يجب أن يستثمر؛ ليكون حافزًا للعرب؛ كي يحددوا أيضًا سياساتهم تحديدًا علنيًا وواضحًا، فالخطر مقبل مع ترامب، والقضية هي “نكون أو لا نكون” كعرب، كما قال الراحل فرج فودة.
المصدر