حلب بوابة الغزوات


هوازن خداج

تعيش حلب معركة تختصر كل المعارك المختلفة في غاياتها وأهدافها، وحضور الأطراف المعنية كافة برسم ملامح سورية المقبلة، فمن الحضور الأميركي عبر دعمه “قوات سورية الديمقراطية”، إلى تركيا ودعمها للجيش الحر، ومن إيران وميليشياتها المقاتلة، إلى روسيا وطيرانها الذي يصادر السماء ويحرق الأرض، فحلب الآن، إضافة إلى الوضع العسكري المعقد، تشكل أكثر بؤر التوتر السياسية والتاريخية التي لن يكون حسمها سهلًا، لكنه شديد الأهمية بالنسبة لأي من أطراف النزاع.

تميزت حلب -كأقدم مدينة مسكونة- بدورها التاريخي المهم في العصور والممالك كافة، وأكسبها موقعها الجغرافي أهمية خاصة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية؛ إذ كانت تتحكم بطريق التجارة العالمي، اتخذها الأموريون عاصمة لمملكة يمحاض؛ لتصبح بعد ذلك عاصمة المملكة الآرامية، وشكّلت جزءًا مهمًا من الإمبراطورية الآشورية والمملكة البابلية، واستعادت سيطرتها على طريق التجارة العالمية في عهد الإمبراطورية الإخمينية الفارسية، وكانت من أهم مراكزهم العسكرية في حروبهم على الجزر اليونانية. تعرضت حلب للخراب الأول على يد كسرى في 540 م، إلا أن حلب عادت؛ لتصبح المدينة الثانية من حيث الأهمية بعد أنطاكية في القرن السادس الميلادي في سورية الرومانية، دخلتها جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد من باب انطاكية عام 637 م، وأواخر العهد العباسي تميزت حلب، عاصمة الحمدانيين، بنهضتها الفكرية والحضارية والثقافية، انزوت حلب قليلًا في التاريخ، وغاب مجدها لقرنين، حكمها الفاطميون والمرداسيون والسلاجقة، واجتاحتها الحملات الصليبية عام 1108، وعادت للنهوض في عهد نور الدين زنكي، ولعل دمارها الأكبر كان على يد المغول عام 1260م، وقائدهم هولاكو، وعلى يد تيمورلنك عام 1400 م، الذي استباح المدينة وأخذ صنّاعها إلى سمرقند، وبنى تلة من الجماجم لعشرين ألف ضحية.

التاريخ يعيد نفسه بأشكال دمار أخرى في حلب، الواقعة في قلب الصراع الجيوستراتيجي الدائر في سورية، فحلب التي اقتصرت مشاركتها -بداية- على بعض الحراك السلمي، تحولت بعدئذ إلى محور أساس وساحة لمعارك شرسة؛ فمنذ “معركة الفرقان” لتحرير حلب من قبضة النظام السوري في 20 تموز/ يوليو 2012، باتت حلب بجزئها الشرقي غارقة في متغيرات عديدة، كالصراعات بين الفصائل المعارضة، وذوبان فصائل، وظهور أخرى أكثر تطرفًا، مثل “جبهة النصرة – فتح الشام” و” داعش” و”أحرار الشام”، إضافة إلى الحصار والعزلة والقصف المتكرر من قوات النظام وروسيا. وتأتي أهمية حلب من الناحية المعنوية، بالنسبة للمتقاتلين كافة، كونها العاصمة الاقتصادية لسورية، وتضم ربع سكانها، أما من الناحية العسكرية والاستراتيجية، فما تعيشه حلب ناتج عن حسابات الربح والخسارة للأطراف كافة، فخسارة حلب بالنسبة للفصائل المسلحة، تشكل خسارة لأهم المعاقل، وبوابة الإمدادات والمساعدات الإنسانيّة التي تصلها من خلال المعابر الحدوديّة في الشمال السوري، وبالنسبة لتركيا التي باتت شريكًا لا يمكن تجاهله في أي صفقة أو مساومة مقبلة، بعد تقدمها في العمق السوري، فإن سقوط حلب، فضلًا عن أهميتها التاريخية، بالنسبة لأردوغان، وإحياء أحلام الإمبراطورية العثمانية، فإنه يشكل تطويقًا لحدودها؛ فريف حلب الشمالي موزع نسبيًا بين داعش ووحدات حماية الشعب التي ترغب تركيا في طردها إلى شرق الفرات، إضافة إلى احتمال لجوء أعداد كبيرة من المدنيين نحو أراضيها في ظل صعوبة إنشاء منطقة عازلة في الوقت الراهن. أما خسارتها بالنسبة للنظام المدرع بالدعم الإيراني والطيران الروسي يعني خلخلة لموازين القوى، والإبقاء على خطوط تماس مشتعلة على حدود ما يسمى “سورية المفيدة”، والتي تشكل جزءًا من أحلام التوسع الإيراني والهلال الشيعي، وستشكل نكسة استراتيجية للرئيس بوتين، ورغبته بفرض “حلول” للأزمة السورية، والقبض على ثاني المدن السورية أهمية بعد دمشق، كما أن الانتصار يمنح للنظام وداعميه نقاطًا إضافية في تكريس ثنائية الأسد أو داعش، التي يسعون لتعزيزها من خلال قصف سائر فصائل المعارضة الأخرى.

حلب الماضي بوابة الغزوات؛ للسيطرة على سورية، وموطئ القدم للوصول إلى قلب القارة الأوروبية، تعيش في الحاضر أكبر حملة للتغوّل في حرب التاريخ والجغرافيا، والمكونات والهواجس التوسعية لإمبراطوريات مازالت تقاتل على عودة الماضي التليد، فهي تختصر معارك العالم بين ركامها؛ لتكون مرج دابق العثمانية، وستالينغراد الحرب العالمية الثانية، ومعركة اليرموك مع بيزنطة، وحطين الصليبية مع صلاح الدين، ونصف سورية الحالية، وفي نهايتها سيكون لسورية شكل آخر في توازناته الإقليمية والدولية.




المصدر