رواية “عربة المجانين” لـ كارلوس ليسكانو .. قوة الحياة والحرية


يروي الكاتب “كارلوس ليسكانو” في روايته “عربة المجانين” قصة اعتقاله في مونتفيديو بالأورغواي، بعد تعريف بسيط بعائلته المكونة من أب وأم وأخت، ويربط بحكمة وبراعة بين عدة جدليات بأسلوب سهل وبسيط رغم وافر الألم في الرواية.

فإذا بدأنا بجدلية العلاقة مع الوقت ففي المقطع الثاني من الرواية يقول الكاتب:” أعرف بالضبط أين ولدت. في أي مستشفى وفي أي يوم وفي أي ساعة. وفي جزء آخر من المقطع يقول:” الشيء الوحيد المهم نوعاً ما هنا هو الساعة الجدارية ولا شيء غيرها يمكن أن ينفع في شيء”. ومن ثم يقول:” أدركت أني صرت قادراً على قراءة الساعة وذلك هو الشيء الهام الذي سأقوله لأبي وأمي عندما أراهما”. ثم وفي خضم حديثه عن المعتقل والسجناء يقول الروائي:” السجناء مولعون بالاستفادة من الزمن ويائسون من ذلك”.

 

 

 ينتقل الكاتب بأسلوبه البسيط للحديث عن جدليات العلاقة مع الأسرة كمجموعة أفراد لكل منهم تفاصيل وذكريات وصفات متفردة. لكنها مؤثرة وفاعلة، فبعد وفاة والدته وهو في السجن راودته ذكرى واحدة حدثته عنها والدته فيقول :” أمي طفلة تعيش في الريف. في أسرة مكونة من خمسة أفراد، وكانت تضطر للسير عدة كيلومترات لتصل إلى المدرسة. وفي ذلك الشتاء كان المطر يهطل واضطرت أمي للجري حافية القدمين عبر الحقول وكان الصندل ملفوفاً وموضوعاً بعناية في حقيبتها المدرسية. وصلت إلى المدرسة وانتظرت أن تجف قدماها لتنتعل الحذاء من جديد”.

بسلاسة يتنقل الكاتب ما بين سرد تفاصيل حياته قبل الاعتقال وبين تفاصيل السجن وجلسات التعذيب، وما بينهما يتحدث عن علاقتنا بالجسد ويسهب بشرح جدلية هذه العلاقة المليئة بالتناقضات؛ الثقة، التحمل، الصبر، ذاكرة الأعضاء. ففي المقطع 28 من الرواية يتحدث الكاتب عن ذاكرة الأذن المدهشة، فطوال شتاء عام 1972 مرّ بالثكنة مئات السجناء، وعُذب الجميع. اعتُقلت امرأة ولم تكن تعذب إلا عندما يبقى مع الضباط القليل من الوقت. يقول الكاتب:” في ليلة هادئة بدأت أسمع صرخاتها تدوي في قاعة التعذيب، ثم و بعد عدة أيام اختفى صراخ المرأة لكن ودون أن أدري بقيت رنة صوتها تتردد في رأسي إلى الأبد على ما أعتقد، وسميناها المجنونة أم الكلاب. وبعد عدة سنوات وبينما كنا نجلس أحدنا مقابل الآخر في حفل عشاء في استوكهولم عرفتها من صوتها فقط. نعم عرفتها من صوتها”.

 

 

هذا عن ذاكرة الأذن كجزء من الجسد، ثم يسهب الكاتب بشرح جدلية علاقتنا مع الجسد، فيقول في المقطع 21 من الرواية:” القذارة باب آخر لمعرفة النفس؛ الروائح الكريهة والبول على الثياب واللعاب وبقايا الأطعمة الملتصقة على اللحية والشعر القاسي بعد انقطاع عدة أسابيع عن غسله، والجلد الذي يبدأ بالتساقط بسبب غياب الشمس والنظافة كلها تثير الاشمئزاز. ولكن لا يمكن أن نطلب من جسمنا أن يقاوم الألم وفي الوقت نفسه نقول أنه يثير اشمئزازنا. إنه يثير الاشمئزاز ولكننا نريد أن نحبه لأنه كل ما لدينا، ولأن كرامتنا تكون بمقاومته. كرامتنا متناسبة طرداً مع ما يتحمله هذا الجسد من ألم وتعب.

ثم ومع مرور السنوات تتغير علاقتنا بالجسد؛ بالضبط علاقة السجين بجسده. إذ يقول: بعد سنوات عدة رأيت جسدي وفكرت به كحيوان صديق. فكرت به كشيء أكرهه وأحبه”.

ورغم إسهاب الروائي بالحديث عن السجن وجلسات التعذيب إلا أنه صاغها لا كذكريات مؤلمة فقط، ولا رواية لخيبات وانكسارات متتالية بل كوصف للقدرة الغريبة على المقاومة لأجل الحياة والتعلم وخلق الآتي الأفضل، فلقد شرح بدقة ورؤية جدلية العلاقة ما بين السجين والسجّان فدخل إلى عمق النفس البشرية التي تكونت على هيئة جلاد أو مسؤول عن سجين. كما تطرق لخيباتهم أيضا وآلامهم المكبوتة تحت وقع سياطهم. إذ يقول:” لن يخاطر الجلاد بأن يحكي لأبنائه بفخر(كان هناك رجل وامرأة  لديهما معلومات ولم يكونا يريدان أن يعطياني إياها، وكانا مقيدين من خلف ظهريهما، وكانا يقاومان لكني أوصلتهما إلى الحد الأقصى وسحقتهما وأهلكتهما، وأريتهما أنهما ليسا إلا قمامة. جعلتهما يعرفان الموت تحت الماء؛ مرة غالباً، وجعلتهما يعطياني المعلومات)”.

 

فالجلاد إذاً يعيش أزمة مكانة فهو يحسد السجين على التزامه السياسي وعلاقاته، ثم وبعد كل هذه المقاومة وبعد كل هذه الرغبة العارمة بالحياة الأفضل يبحث الكاتب في قلق السجين حيناً من حريته؛ من كل ما ينتظره بعد تجربة الاعتقال وتفاصيلها المخيفة ليركض بكامل حريته في سهل أبيض شاسع ويقول:” الحرية طوال سنوات وإلى أبد الآبدين هي الجري في سهل أبيض شاسع في الأصيل”.

تقع رواية “عربة المجانين” في 174 صفحة وهي من إصدار دار الحوار للطباعة والنشر وترجمة الأستاذ عدنان محمد، وتأليف كارلوس ليسكانو وليس لسكانو ولا لاسكانو و لا لزكانو بل ليسكانو وهنا جدلية أخرى وهي علاقتنا بأسمائنا, أسماؤنا أيضاً لها ذاكرة وتاريخ!

رواية تعد مثلاً رائعاً للكتابة المحرِرة أتقنها وبروعة الروائي كارلوس ليسكانو لتنتصر قوة الحياة والحب والحرية. في نهاية الرواية وبعد مرور سبعة وعشرين عاماً على اعتقال الروائي كتب في إحدى ليالي عام1999:

قبل ثلاثين سنة؛ سواء في السلطة أو أمواتاً

كنا شباباً وكنا كثيرين

ولم نأت إلى الحياة إلا

لنغير العالم

مضت الحياة

ولم يكن شيء كما كنا نقول

كان السجن، وكان التعذيب، وكان آلاف الأموات

وحتى هكذا عندما نلتقي

ماتزال ذكرى وهم الشباب

تملأ قلبنا الذي تجرأ يوماً

على الإيمان بأشياء كثيرة

سأقول لنفسي حتى لو كان هناك طريقة أخرى

ممكنة بالنسبة إلي لما اخترتها

لأني- وسامحوني على هذا الإيمان-

مدين لهذا الوهم بفرح معرفة

بعض أفضل الناس.

رواية تستحق القراءة فهي ببساطة تفوقٌ الحياة والتعلم والحرية على كل أعدائها؛ تفوق لحب الحياة على مغتصبيها. قد تخرج من الرواية بقلب جديد رغم وافر الظلم فيها، وقد تخرج بقلب يقاتل ليعيش الحب والحرية ويجري في سهل أبيض شاسع .. حراً وحراً.

 



صدى الشام