إيران تبحث عن دورها الإقليمي بتفتيت المنطقة

15 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016

6 minutes

مهند شحادة

اعتمدت إيران، ومنذ نهاية حكم الشاه أواخر سبعينيات القرن الماضي، على تصدير ما يسمى بـ “الثورة الإسلامية”، في عقب إسقاط الشاه ووصول الخميني إلى سدة الحكم؛ لتبدأ معها رحلة الولي الفقيه التي أعادت إنتاج المشروع الفارسي بقناعٍ ديني، حاولت من خلاله طهران التمدد داخل البلدان العربية من خلال الحواضن الشيعية؛ استنادًا إلى مزاعم المظلومية -تاريخيًا وحاضرًا- الناتجة -كما يُزعم- عن تهميش وسوء أوضاع تلك الحواضن، على الرغم من أن ذلك “التهميش” لم يكن مقتصرًا عليها، بل شمل جميع مكونات المجتمع في البلدان العربية، بعد تشكيل “الدولة الوطنية” إبان مراحل الاستقلال.

الصدام الأول لمشروع الولي الفقيه الفارسي، ذي النزعة الطائفية، كان مع نظام صدام حسين، واستمر لأكثر من عشر سنوات، دفع خلاله البلدان عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، فضلًا عن الدمار في البنى التحتية، واستطاع النظام العراقي -آنذاك- وضع حدٍ للطموحات الإيرانية في العراق على الأقل.

رغبة طهران في التمدد، والسيطرة على المشرق العربي؛ وحتى التوسع باتجاه القرن الإفريقي، تواصلت بعد انتهاء الحرب مع بغداد، ووجدت في أُتون الحرب الأهلية اللبنانية ضالتها؛ حيث سعت الأولى إلى تشكيل وكلاء لها داخل الطائفة الشيعية، وكانت أولى ملامحها حركة المحرومين، بقيادة الإمام موسى الصدر، قبل أن تتحول -بعدئذ- إلى حركة أمل، وأخيرًا الذراع الضاربة (حزب الله).

النفوذ الإيراني داخل لبنان ما كان ليستقر دون حافظ الأسد، أواخر الحرب اللبنانية، وترحيل منظمة التحرير إلى تونس، فكان الصدام بين جيش النظام السوري ومقاتلي حزب الله اللبناني، ثم المعارك الضارية بين حزب الله وحركة أمل المدخل إلى إعادة ترتيب المصالح، وتقاسم النفوذ في لبنان، برعاية أميركية، أشرفت على بناء تفاهمات استراتيجية؛ انطلاقًا من الدور المُعطى لكل منهما، والوظائف المطلوبة من كل طرف على صعيد المنطقة، وفق غالبية من عمل على توثيق تلك المرحلة.

بعيدًا عن السرد التاريخي، وما يحتمل من أوجه التفسير أو التأويل، إلا أن ما لا يقبل الشك أن إيران، وخلال العقدين الأخيرين، عبرّت تعبيرًا فاضحًا عن مشروعها الفارسي؛ إذ أمعنت الدولة الراغبة في إعادة سطوتها الإمبراطورية في إذكاء النزعات المذهبية بين الغالبية السنية داخل الأقطار العربية، وتلك الشيعية، اعتمادًا على غطرسة القوة، وربما أوضح معالمها ما حصل عام 2008، عندما اجتاح حزب الله بيروت، بكل ما تحمله من رمزية، ليس لسنة لبنان فحسب، وإنما للمنطقة بأكملها.

الآن تبدو مخالب المشروع الإيراني أكثر وضوحًا، وأكثر وقاحةً، حيث أصبح جليًا أن طهران تسعى سعيًا ممنهجًا لتفتيت النسيج الاجتماعي داخل الدول العربية، ولا سيما العراق وسورية واليمن، وطبعًا لبنان، وهي بذلك -بحسب كثير من المتابعين- تسعى إلى مد نفوذها في المشرق العربي، انطلاقًا من العراق؛ وصولًا إلى فلسطين ومصر، دون إغفال الخليج العربي عبر بوابتي اليمن والبحرين.

الوقائع الميدانية تؤكد تأكيدًا قاطعًا أن السياسة الإيرانية اعتمدت على ميليشيات من لون طائفي واحد؛ للهجوم على حواضن الغالبية السنية، سواء في العراق أو سورية أو اليمن، مرتكبةً بحقها أفظع الانتهاكات، وهو ما أرسى معالم صراع سني – شيعي في المنطقة، يُعدّ اليوم أحد أكبر الأخطار على بنيتها ووجودها، دون أن تستطيع الدول العربية تبني استراتيجية واضحة لوضع حدٍ لها.

تذهب بعض التحليلات إلى أن طهران لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم دون موافقة أميركية؛ لأن الأخيرة وجدت في النفوذ الإيراني أحد أبرز الأعمدة لمشروعاتها، ولا سيما مع انفراط عقد أنظمة المنطقة، بعد موجة الثورات الشعبية، وكان أعنفها في سورية، وهو ما يمكن جدولته ضمن مساعٍ دولية، تتوافق أحيانًا وتتصارع أحيانًا أخرى؛ للبحث عن نظام إقليمي جديد للمنطقة، بزعامة دولة أو أكثر، وتبدو إيران الأوفر حظًا إلى جانب إسرائيل، وتبقى تركيا تبحث عن موطئ قدم لها ضمن هذه المعادلات شديدة التعقيد.

لا يمكن لأحد أن يتجاهل الغليان داخل المجتمع السني تجاه طهران وأدواتها، الأمر الذي جعل بعضهم يذهب إلى أن الصراع المتواصل منذ سنوات في العراق، ثم في سورية، سيستعر أكثر ويتشظى إلى مساحات جغرافية أوسع، ويعيد -بشكلٍ او بآخر- ترسيم وإنتاج المنطقة، وفق ما ترتئيه القوى الكبرى حفاظًا على مصالحها.

مسألة تورط وإيغال طهران في تفتيت المنطقة إلى كانتونات طائفية متناحرة، كإحدى أدوات إنهاء مشروع أو حلم تأسيس دولة وطنية في العالم العربي، لم يعد مثار جدل أو بحثٍ أو نقاش، ولعل الأجدى ضمن معطيات الواقع الراهن، البحث عن إجاباتٍ لأسئلة كبرى، تتمحور حول كيفية انتاج مشروعٍ وطني، يسهم في رد الحسبان لدولة المواطنة والعدالة، سبيلًا وحيدًا للخلاص والعيش بسلام.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]