الخريف يكنس أرواح السوريين

15 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016

5 minutes

هو وقت المجزرة، هو الخريف الذي أسقط أكثر من مئة طفل سوري حتى الآن مع أوراقه وكنس البيوت والحارات مع رياحه التي لا تتعب من الهبوب باتجاه القلب.

هذا الوقت الثقيل القاتل؛ الشهر الثقيل أينما كانوا. هذا الخريف الذي يطلق عليهم رياح وجعه ولسعات القهر وغيوم الخوف، فهو بالنسبة للسوريين المهجرين عن بلادهم وحياتهم هو فصل إحياء الحنين بريحه التي تباغت الروح وتهاجمها وتذكرها بحقيقتها وبعمق غربتها، وهو الخريف الذي يعيد وجوه من رحلوا إلى المقابر، وجوه الذين رحلوا مثل أوراقه هكذا بدون أسماء.

لكنه وقبل أن نقوم بثورتنا وقبل أن يتفنن العالم بقتلنا كان الوقت الطيب الذي كنا ندخل فيه مرة ثانية الى أنفسنا بعد كل التشتت الذي يقيمه فينا الصيف الطويل، وكنا نحن السوريين في الخريف دائما نرشي الأقدار بأننا سنعيش حتما حين نقدد البامية والفليفلة ونقدد أحلامنا معها ونعلقها في زوايا بيوتنا وأرواحنا، وحين كنا نترك عصائر العنب المشمش والتفاح لتجف فأننا كنا دائماً نجفف معها خوفنا من عوز الشتاء ونغلي معها حبنا ذي الطعم الحلو اللذيذ مثلها، ثم نعبئ هذه العصائر مع هذا الحب في أوانٍ زجاجية شفافة ونضعها على رفوف مطابخنا، وكنا نحشي فيه المكدوس بالكثير من الألفة والحب المعجون مع حشوته المميزة لنضعه في قطرميزات تعدنا بالحياة وبالدفئ القادم من ضحكات الأولاد حول المدفأة. وهو الشهر الذي نعبئ فيه براميلنا بالمازوت، وننصب فيه مدافئنا لكي نغلي عليها شاينا ودعواتنا لعائلاتنا بالنجاح، ولكي نطهو عليها سليقة القمح اللذيذة وكستناء العاشقين وكي نقول بكل ثقة للبرد القادم نحن نحب شتاءك ولا نخافك.

اليوم هو الزمن الثقيل الجاثم على السوريين الذين رحلوا عن سوريتهم، والسوريين الذي نزحوا للمدن المجاورة، فهو الوقت  القاتل لسبعة ملايين نازح سوري مازالوا في سوريا لكن لم يعُد لديهم بيوت ولا مطابخ، لم يعد لديهم مؤونة ولا تدفئة ولا حارات وأقارب وأحباب؛ فقط لديهم الآن الكثير الكثير من الذكريات المقددة المُرّة التي يُعلونها في العيون، والكثير من الوجع والموت والدمار الذي  قتل ذاك الحب اللذيذ الذي كانوا يقدمونه مع طعام المؤونة مثلما قتل أية قدرة على الوقوف في وجه البرد القادم.

اليوم كل السوريون في الداخل لا يملكون ثمن أية مؤونة؛ هم لا يعرفون كيف يمضي يومهم بأقل طعام ممكن، فكيف سيكون دون أن يستطيعوا دفع مصارف المدرسة الهائلة مع تكاليف المؤونة من خضروات مقددة إلى مكدوس الى كشك وعصائر، وكيف سيؤمنون كل هذا مع المحاولة للحصول على القليل القليل من مادة المازوت علهم يتقون بعضاً من برد قادم لا محالة.

كل السورين اليوم ما زالوا يعيشون ما تبقى من الموت المؤجل. يقضي الغلاء القاتل على ما تبقى منهم، وما تبقى من أحلامهم، فأيلول وتشرين هما شهرا المدارس بكل ما تحتاجه من تكاليف أصبحت تشنق الأهل الذين لا يستطيعون الا أن يؤمنوها حتى ولو على حساب قوت يومهم الشحيح، فالمدرسة تحتاج إلى بدلات ومرايل وقرطاسية ومَحافظ جديدة، وتحتاج إلى كتب وإلى ملابس رياضة خاصة وهذا كله يحتاج الى ما يزيد عن دخل السوري لسنة كاملة والذي عليه أن يدفعه كاملاً لمصاريف طفل واحد فكيف وأن أصغر أسرة لديها طفلان أو ثلاثة في المدرسة ناهيك عن طلاب الجامعة الذين “يكسرون الظهر”.

بمطابخ بلا رفوف؛ برفوف بلا مؤونة؛ بمدارس بلا أطفال؛ وبأطفال بلا مدارس يمضي أيلول ويمضي تشرين على السوريين ويترك الغصة في ملايين القلوب، لا شيء سوى مؤونة كاملة من الموت الجاهز ومن الجوع المقدد والمطبوخ والمكدس في الزوايا والعيون.

 

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]