انزلاق سورية تحت سيطرة إيران
15 نوفمبر، 2016
سعيد إبراهيم
الأسد الأب
خلال حكم حافظ أسد لسورية سعى للاستفادة من سلطة إيران الجديدة، بعد ثورة إيران “الإسلامية” في ربيع 1979، والتي أطاحت بالشاه، فوقف إلى جانبها في حربها ضد العراق؛ مدفوعًا بالعداء الشخصي القاتل بينه وبين صدام حسين، من جهة، وبحاجة إيران إلى من يقف معها بأي ثمن، من جهة أخرى، وقد لعب الجانب المذهبي دوره، ولكنه بقي دورًا ثانويًا لدى الأسد الأب، بينما كان رئيسًا لدى إيران.
وفق حسابات الأسد الأب، لو وقف في الصف العربي ضد إيران في حربها مع العراق “الشقيق”؛ لأصبح واحدًا ضمن مجموعة، ولكانت مصر والسعودية أكثر أهمية، ولكان صدام حسين بطلَ مشهد مواجهة إيران الطامعة بمد نفوذها، وحينها سيكون لسورية وللأسد مجرد دور ثانوي. بينما منحه وقوفه -وحيدًا- مع إيران ضد العراق الشقيق دورًا متميزًا، يضعه بين العرب وإيران؛ بحيث يستطيع أن يلعب دور الوسيط، لذلك؛ حرص الأسد على استمرار علاقة حسنة مع السعودية، وبقية دول مجلس التعاون، خاصة كونها مصدرًا للمساعدات المالية. ولكن يبدو أن بعض حساباته لم تكن دقيقة، فقد توقفت مساعدات السعودية والخليج، بينما استمرت مساعدات القذافي، ولم تستطع إيران أن تُعوّضه بما يكفي؛ نتيجة وضعها الاقتصادي المتدهور دائمًا. وقد أسس هذا للأزمة الاقتصادية الخانقة التي مرت بها سورية خلال ثمانينيات القرن العشرين، وخاصة بين عامي: 1985 و1990، قبل أن يزداد إنتاج النفط عندها، وترجع دول الخليج تقدم له مساعداتها؛ مكافأة على دخوله تحت مظلة التحالف الدولي بقيادة “الإمبريالية”؛ لطرد العراق الشقيق من الكويت، فيما عُرف بحرب الخليج الثانية.
ببساطة، هي لعبة سلطة ومنافع، كان حافظ أسد يتقنهًا. وموقفه هذا يشبه موقفه الرافض للصلح مع إسرائيل في سبعينيات القرن العشرين، ووقوفه الحازم ضد مصر، وسلامها “المذل” مع إسرائيل. ولكن لم يكن “ذل” ذاك السلام هو ما حدد موقفه، بل هي اللعبة ذاتها: أن يرفض؛ ليصبح دولة المواجهة مع إسرائيل، بعد عزل مصر، بما يعطيه أهميةً ودورًا أكبر بكثير، وهذا ما حصل، بينما كان ذهابه مع السادات؛ سيجعله لاعبًا ثانويًا، كما كانت سورية قبل 1973.
بقي حافظ الأسد طوال فترة حكمه يحافظ على نفوذ محدود لإيران في سورية، فهو يعلم حساسية المجتمع السوري تجاه الطابع المذهبي الفاقع لإيران وولاية الفقيه، ثم بطبعه لا يقبل أن يكون لإيران أو غيرها أي نفوذ فعلي في الداخل السوري، إلا بالقدر الذي يقرره هو، وكان لا بد له أمام ضغط إيران من منحها بعض المزايا، وإن كانت فاقعة، مثل ترميم ضريح السيدة زينب قرب دمشق، والإشراف عليه، وتحويله إلى مزار يؤمه الآلاف يوميًا، بينما كان قبلها مجرد بناء قديم يكاد يخلو من الناس، كما سمح بتوسيع ضريح السيدة رقية في قلب دمشق توسعة كبيرة جدًا، بعد أن كان عبارة عن غرفة واحدة صغيرة لا تزيد مساحتها عن بضعة أمتار، فأصبح مسجدًا كبيرًا مترفًا ومزارًا يزدحم بآلاف المصلين والزائرين يوميًا، وهو على مقربة بضع عشرات الأمتار من المسجد الأموي، بما يشكل مشهدًا للمنافسة. كما أصبحت سورية قبلة للحج الشيعي بين 1980 و2003. ولكن الأسد الأب لم يفسح المجال أمام إيران؛ لتمارس نشاط تشيع وتأسيس حسينيات، على الرغم من أن هذا قد جرى على نطاق محدود وضيق، كما حلّ جمعية الإمام المرتضى المذهبية التي أنشأها شقيقه، جميل الأسد، في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين، وقد قبض من إيران مساعدات مالية وعينية (نفط خام) كبيرة على مدى سنوات حكمه.
الأسد الابن
وضع موت الأسد الأب سورية -في العاشر من حزيران/ يونيو 2000- على مفرق طرق، فقد برزت مخاوف من احتمالات توجهات النخبة الحاكمة في دمشق، وقد غدا على رأسها شاب بخبرة سياسية ضعيفة، وبدون شخصية الأسد الأب وتاريخه وسلطته المعنوية، من جهة، بما يجعل رئاسته وسلطته أضعف من والده، وأقل قدرة على ضبط بلد صعب كسورية، ومن جهة أخرى، كونه شابًا لم يشبّع بأفكار القومية والاشتراكية واليسار وصراع الغرب والشرق، ولم يذق طعم الفقر والحرمان، ولم يعانِ من التمييز، وله احتكاك واسع بالعالم الغربي، بما يرجح ميوله الانفتاحية.
سارع الغرب لاستمالة الأسد الابن، وزيادة نفوذه في النخبة الحاكمة، فشاركت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية، في مراسم تشييع حافظ أسد، كما شارك الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، وعلى الرغم من أنه حضور غربي ضعيف، ولكنه إشارة إلى اهتمام ودعوة للرئيس الشاب؛ للاقتراب من الغرب والسياسة الغربية، وقد اعتقد الرئيس الفرنسي (شيراك) أن رعايته السابقة للأسد الابن ستعني امتلاك تأثير كبير على خياراته وسياساته.
إيران، من جهتها، سارعت لتوطيد نفوذها في سورية، وهي تعلم نقاط ضعف الأسد الابن. ولكنها حافظت على منهج التقية الذي تتقنه؛ فلم تظهر للعلن ماذا تفعل، ولكنها راهنت -بدورها- على اكتساب مزيد من النفوذ على الرئيس الشاب، وبالأخص على قيادات النخبة الحاكمة التي أصبح دورها ونفوذها أكبر مع الابن الشاب، بعد ذهاب “بعبع حافظ الأسد”؛ فسلطة الأسد الابن لم تكن سلطة الأسد الأب المهيمن، فالأسد الابن أضعف، وبدون “شرعية” والده في أوساط العائلة، وأوساط مجموعة من كبار الضباط، بما لهم من خبرة طويلة في عراك معقد داخل سورية، ومن حولها.
في السنة الأولى من حكمه، بدا أن الرئيس الشاب يتوجه نحو الانفتاح أكثر من والده، بعد سنوات من الحكم الشمولي في عهد الأسد الأب، فغض الطرف عن ارتفاع مطالب السوريين بالحريات العامة التي استيقظت، ومطالبتهم بالانفتاح، و”إحياء المجتمع المدني”، وانتشار المنتديات السياسية والثقافية في عموم سورية، وتواصل السوريون؛ لتشكيل أحزاب سياسية، وتشكّل -آنذاك- ما عرف بربيع دمشق، وانفتح حوار في الإعلام حول التغيير والإصلاح… إلخ. وقد عقد الغرب آمالًا على تلك النافذة، كما عقدت فئات سورية كثيرة آمالًا مماثلة.
ولكن لم يطل الوقت في اتخاذ القرار من النخبة الحاكمة، بإظهار توجهها المستقبلي، الذي بدا أنه لم يتغير قطّ عما كان في عهد الأسد الأب، مع بعض الرتوش؛ بمعنى أن بعض الانفتاح الذي جرى مع الأسد الابن خلال السنة الأولى كان بمنزلة جائزة ترضية “لتأليف قلوب” النخب السورية، في لحظة ضعف تهدد النظام، ولخلق آمال تمتص احتمالات التمرد، إلى حين تحقيق الاستقرار، والتأكد من ثبات السلطة في الأيدي الجديدة، ثم ما لبثت آمال الإصلاح والانفتاح -تلك- أن أصبحت أوهامًا؛ إذ ما لبثت النخبة الحاكمة أن توقفت عن “تأليف القلوب”، بعدما اجتاز النظام مرحلة الخطر، وتأكد استقرار السلطة، وكانت أولى المبادرات هي اعتقال عشرة من شخصيات المعارضة في أيلول/ سبتمبر 2001، ثم إغلاق المنتديات، ووأد ما سمي -حينئذ- بربيع دمشق الذي كان ربيعًا بلا زهور، على حد وصف محمد كامل الخطيب.
النخبة الحاكمة كانت تعلم أن أي انفتاح سياسي، وأي فسحة حقيقية تُمنح للسوريين؛ للتعبير عن آرائهم سيذهب بهم نحو التغيير السياسي، والانتقال إلى نظام ديمقراطي حر، لذلك؛ وقفت النخبة الحاكمة ضد مشروعات الاتحاد الأوروبي كافة، الخاصة بتنمية المجتمع المدني، على الرغم من تواضعها، ورفضت توقيع اتفاقية الشراكة السورية – الأوروبية التي تخلق ضغطًا خفيفًا حول قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان وتنمية العمل المؤسسي، فقد وجدت النخبة الحاكمة أن هذا لا يخدم مصالحها.
إيران التي تدعم تعزيز سلطة النخبة الحاكمة، استفادت من مخاوف هذه النخبة من أي انفتاح ديمقراطي او مجتمعي، كما استفادت من التهديدات الأميركية لسورية، بعد غزوها العراق في آذار/ مارس 2003، وقد أصبح الجيش الأميركي على الحدود السورية، واستفادت من توتر العلاقات السورية – الفرنسية، بعد نكوص الأسد الابن بوعده للرئيس الفرنسي، بمنح حقل غاز تدمر لشركة (توتال) الفرنسية، كل هذا دفع النخبة الحاكمة في دمشق -بقوة أكبر- نحو إيران التي وسعت علاقاتها، أكثر فأكثر، في أوساط مؤسسات السلطة ومفاصلها القوية في الجيش والأمن، ولم تكتف برأس النظام الجديد، مستفيدة من ذهاب الرأس القديم، إذ لم يكن الأسد الابن في موقع مماثل لوالده، ولم يكن له الموقف ذاته من نمو دور إيران في الداخل السوري، فعززت إيران علاقاتها على مستوى ضباط الأمن والجيش، وأصبح نفوذها غير الظاهر أقوى بكثير مما كان أيام الأسد الأب الذي لم يكن يسمح بذلك.
كان من مصلحة إيران أن تدفع النظام إلى مواقف مواجهة مع الغرب؛ ما سيرتد تعزيزًا في علاقاته بها. ويذهب بعض المحللين إلى أن استشارات إيران كانت وراء تشدد الأسد الابن في سياسته في لبنان، وعدم تخفيف السيطرة السورية على لبنان، بعد انسحاب إسرائيل منه صيف عام 2000، وقد كان هذا مطلب غالبية اللبنانيين، وقد تبنى رفيق الحريري هذا المطلب، ودعمته الدول الغربية، وكانت بعض مراكز السلطة السورية تؤيد هذا الطلب، مثل اللواء غازي كنعان الذي أُبعد عن لبنان سنة 2002، بعد أن كان الحاكم الفعلي للبنان، والذي قُتل في أوضاع غامضة في تشرين الأول سنة 2005، ثم التصميم على التمديد للجنرال لحود في رئاسة لبنان لثلاث سنوات إضافية، فتأجج الصراع مع الحريري، الذي عمل -بعدئذ- مع العماد ميشيل عون على إصدار مجلس الأمن لقرار “محاسبة سورية” رقم 1559، في أيلول/ سبتمبر 2004، برعاية فرنسية وأميركية. وقد نص القرار على دعم مجلس الأمن لسيادة لبنان، واستقلاله السياسي، ووحدة أراضيه تحت السلطة الوحيدة والحصرية لحكومة لبنان على كامل أراضيه. ودعا جميع القوات الأجنبية الباقية إلى الانسحاب من لبنان، في إشارة صريحة للوجود السوري، ونص على حل جميع الميليشيات اللبنانية، وغير اللبنانية، ونزع سلاحها، في إشارة واضحة إلى ميليشيا حزب الله، ونص على بسط سلطة حكومة لبنان فوق جميع الأراضي اللبنانية، كما أعلن دعمه مسارًا انتخابيًا حرًا وعادلًا في الانتخابات الرئاسية في لبنان، وأن تجرى وفقًا للقواعد الدستورية اللبنانية، دون تدخلات أو تأثيرات خارجية. وفي اليوم التالي لصدوره، مددت أكثرية النواب اللبنانيين لرئيس الجمهورية -آنذاك- إميل لحود لمدة ثلاث سنوات، في حين صوت 29 نائبًا ضد التمديد، على رأسهم وليد جنبلاط وكتلته النيابية؛ ليبدأ موسم الاغتيالات بعد نحو شهر، مع محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، ويصل إلى ذروته مع اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، ويبدو أن ردة الفعل الغربية على اغتيال الحريري لم تكن محسوبة بهذه القوة؛ إذ أدى هذا إلى خروج سورية من لبنان، فانسحبت فور صدور القرار. ولكن مسلسل الاغتيالات استمر؛ ليطال مجموعة من القيادات والشخصيات اللبنانية المعروفة بمعارضتها لهيمنة دمشق وحزب الله على لبنان.
تأجيج العداء الغربي لنظام الأسد بعد اغتيال الحريري دفع النخبة الحاكمة في دمشق نحو مزيد من توطيد علاقتها بإيران، كما أطلق الانسحاب السوري يد حزب الله في لبنان؛ إذ لم يعد الحزب تحت الهيمنة السورية المباشرة، وأصبحت العلاقة بينهما ندية، بل أصبح الأسد بحاجة نصر الله، وليس العكس. وقد شكل عدوان إسرائيل على لبنان تموز/ يوليو 2006، والذي جاء ردًا على اختطاف حزب الله لجنديين إسرائيليين، شكل محطة جديدة لتعزيز علاقة النخبة الحاكمة في دمشق مع إيران – ولاية الفقيه، وأصبح نفوذها المخفي أقوى بكثير مما يظهر، إذ أبقت إيران نفوذها صامتًا بدون ضجيج يذكر، وقد شكلت هذه العلاقة الوطيدة استثمارًا للنظام حين واجه انتفاضة الربيع العربي، كما شكل استثمارًا لإيران وهي تصعّد من استراتيجيتها الهجومية في العراق والبحرين واليمن وسورية.
حصاد هذه العلاقة
مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، جاء موسم حصاد العلاقة السورية – الإيرانية، فقبل آذار/ مارس 2011، تشاور الأسد مع إيران حول سبل وأشكال مواجهة انتفاضة محتملة في سورية. ويعتقد محللون أنه قد كان لإيران، بحكم دورها الذي غدا متحكمًا، دور حاسم في اعتماد الحل الأمني والمواجهة المسلحة ضد الانتفاضة السورية، واستبعاد أي أفكار حول طرح برنامج إصلاح؛ لأن مستقبل أي إصلاح لن يصب كل المياه في طواحين إيران، على الرغم من أن الشعب السوري لم يطالب -بداية- بأكثر من برنامج إصلاح، ولم يرفع شعار إسقاط النظام إلا بعد نصف عام من تطبيق الحل الأمني، والإيغال في الدم السوري. وقد كانت قيادات سورية سابقة، عسكرية وسياسية موالية، قد دعت الأسد لوضع برنامج إصلاح، والابتعاد عن الحل الأمني؛ لتجنب صراع مميت بدت نذره واضحة، بعد أن امتدت ثورات الربيع العربي من تونس الى مصر وليبيا واليمن.
قدمت إيران للنظام دعمًا غير محدود، سياسيًا وإعلاميًا ودبلوماسيًا وماليًا وأسلحة ومقاتلين، ودفعت بميليشيا حزب الله وميليشيا عراقية، ثم أفغانية وباكستانية، إضافة إلى تقديم خبراء وضباط عسكريين إيرانيين يشاركون في قيادة العمليات؛ فخسارة دمشق -بالنسبة لطهران- يضع حزب الله في لبنان في وضع صعب؛ ما يسقط ورقتين مهمتين من يدها في المنطقة، ووجد الأسد في إيران الداعم القوي للحفاظ على السلطة بأي ثمن كان، وتشكل بهذا تحالف مصيري بين نظام الأسد ونظام ولاية الفقيه.
مع تراجع قوة النظام وجيشه خلال السنوات الست الماضية، كانت إيران توسع نفوذها ووجودها ووجود الميليشيات الشيعية الأجنبية في سورية، وقد أصبحت مناطق سيطرة النظام في سورية تحت سيطرة شبه كاملة لميليشيات تأتمر بأمر إيران، وقد بدأت إيران بسياسة تهجير وإحلال سكاني؛ في مسعى لتوسيع أعداد مؤيديها في دمشق ومحيطها خاصة، وأصبح قرار النظام مسيطَرًا عليه إلى حد بعيد من إيران، ينافسها في ذلك النفوذ الروسي؛ إذ وجدت روسيا في تمسّك الأسد بالحكم، ودعم إيران المطلق أساسًا قويًا لموقفها الذي استمر في التمسك بالأسد ونظامه.
تعريف: في أي حل سياسي محتمل في سورية، من الواضح انه لا بد وأن يكون لإيران دور، ولكن لا يمكن تحقيق أي حل سياسي بدون إرغام إيران على القبول بمثل هذا الحل عبر ضغط عسكري في الميدان، وضغط سياسي ودبلوماسي من روسيا وأميركا.
[sociallocker] [/sociallocker]