طرق التهريب الطويلة إلى تركيا


غريب ميرزا

“من خاض تجربة التهريب، يدرك أنّ ما يعنيه من الجغرافيا –ومن الحرّيّة كذلك– هو الشريط الضيّق جدًّا الذي يسمّى الطريق؛ حتّى إنّه قد ينسى إلى أين هو ذاهبٌ” – رحيم، اسم مستعار([1]).

ودّع (رحيم) صديقه في إحدى القطع العسكريّة التابعة للنظام السوريّ، التي ترابط في إحدى مناطق ريف دمشق، وقد استطاع أن يحصل على إذنٍ بالمغادرة لمدّة (48) ساعة. يفترض أن يقضيها في زيارة أهله الذين لم يرَهم منذ أشهر عدة، وهم يبعدون عنه نحو (200) كم، في إحدى قرى محافظة حماة. لكن (رحيم) كان ينوي سلوك طريقٍ يمتدُّ لأكثر من (500) كم، حتى يصل إلى الحدود التركيّة.

في صيف (2016)، اتّفقت عائلة (رحيم)، الذي قيّدته الخدمة الإلزاميّة مدّة ستِّ سنوات، مع وسيطٍ يقيم في بلدته على تهريبه إلى تركيا، مقابل مبلغ (1000) دولار أميركيّ (أي ما يساوي 600 ألف ليرة سوريّة آنذاك)، قبيل بدء مغامرته، لم يكن (رحيم) واثقًا من نجاحه -هذه المرّة- في الهرب، ولا سيّما أنّه فشل في ثلاث محاولاتٍ سابقة، حيث كان يعود -في كلِّ مرةٍ- إلى قطعته العسكريّة، متظاهرًا بقضائه إجازةً طبيعيّة، وغالبًا ما يكون سبب فشل المحاولة هو حدوث هجومٍ لقوّات النظام على الطريق الواصلة بين حماة وإدلب، أو بسبب “تعنّت” جماعةٍ معيّنةٍ تابعةٍ لجهاتٍ مسلّحة متشدّدة (مثل جند الأقصى أو جبهة النصرة)، وعدم تعاونها مع بعض المهرّبين، ما يؤدّي إلى تأجيل عمليّة الخروج.

قبل فرض (الفيزا) التركية على السوريّين، في (كانون الثاني/ ينار 2016)، كان الطريق الذي سيسلكه (رحيم) هو الطريق الأكثر استخدامًا من الجنود المنشقّين عن قوات النظام، والناشطين الإعلاميّين، والسياسيّين والعاملين في مجال الإغاثة، حين يشتدُّ عليهم الطوق الأمنيّ، ويصبحون مهدّدين بالاعتقال أو التصفية الجسديّة. أمّا الآن، فقد أصبح هذا الطريق هو الأكثر استخدمًا من الجميع، حتّى من هؤلاء الذين يستطيعون الخروج من معابرَ تابعةٍ للنظام (على الحدود اللبنانيّة)، من دون أيِّ تبعات؛ إذ إنّ تكلفة الفيزا التركيّة وصلت في السوق السوداء (وهي الطريقة شبه الوحيدة للحصول عليها) إلى (2500) دولار -تقريبًا- للشخص الواحد، حسبما أفاد أحد العاملين في هذا المجال. لذا بات الراغبون بالذهاب إلى تركيا، بغية المتابعة إلى أوروبا تهريبًا، أو إجراء مقابلاتٍ في سفاراتٍ أوروبيّةٍ؛ لإكمال معاملات لمِّ الشمل، لا يجدون إلّا طريق التهريب مفتوحًا أمامهم.

على “أطراف” هذا الطريق، الذي يصبُّ نهاية في إقليم “هاتاي” التركيّ، تتشكّل وتنكشف حالة من حالات اقتصاد الحرب، وحالات اجتماعيّة وسلطويّة مركّبة؛ حتى أنّه من الدقّة أن نتكلّم عن “طرقٍ” قد تكون متقاربةً جغرافيًّا جدًّا، لكنّها تختلف في شيءٍ جوهريٍّ وهو المهرّب وعلاقاته مع النظام، ومع فصائل المعارضة، وهو ما يستلزم “حربًا” بين هذه الطرق/ المهربين، وقد يكون ضحية هذا الصراع هم العابرون أنفسهم، كأن يتعمّد مهربٌ ما إلحاق الضرر (مثل الخطف وطلب الفدية) بـ”قافلة” تابعة لمهربٍ غريم؛ كي يسيء إلى سمعته.

في مركز مدينة حماة، التقى (رحيم) بأحد المهربين (سيكون هناك سلسة من المهربين على طول الطريق)، الذي أوصله إلى قرية تقع في ريفها، وتخضع لسيطرة النظام، وهناك جُمع مع عددٍ كبيرٍ من العائلات والجنود الهاربين، في منزلٍ كبير. وفي الليل جاءت عربات “البيك آب” التابعة لإحدى ميليشيات النظام، محمّلة بـ “رشاشات دوشكا”، ثم صعد الجميع إليها. بعدها شقّت طريقها عبر حواجز الجيش النظاميّ المنتشرة بكثافة، حتى وصلت إلى ريف إدلب الذي تسيطر عليه قوى المعارضة المسلّحة. خلال هذه الرحلة، يكون الخوف متملكًا قلوب هؤلاء الجنود؛ فعلى الرغم من أنّهم دفعوا مبالغ، تختلف من شخصٍ إلى آخر (أحد الجنود دفع فقط 200 دولار)، إلا أنّ احتمال وقوعهم في يد حاجز تابعٍ للنظام، كافٍ لإثارة الهلع في نفوسهم، ولاسيّما أنهم يعلمون، من خلال الحوادث التي جرت أمامهم، في أثناء خدمتهم في ثكناتهم العسكريّة، حجم الأذى الذي سيلحق بهم إذا ما وقع ذلك.

استقبل مهربٌ ثان (رحيم)، ورافقه إلى (سراقب)؛ حيث بقي هناك ثلاثة أيامٍ، ثم انتقل معه إلى منطقةٍ أخرى؛ بهدف التجهيز لعبور الحدود التركيّة – “الإدلبيّة”، ثم استلمه مهربٌ ثالث، وكان يفترض أن يوصله إلى نقطةٍ قريبةٍ من الحدود التركيّة، إلا أنّ أحد الحواجز التابعة لأحرار الشام، رفضت السماح بعبور (رحيم)، واعتقلته. ولم يكن سبب الاعتقال أنّه “عسكريٌّ”، فما كانوا قد عرفوا ذلك بعد، بل لأنه ينتمي إلى إحدى الأقليّات الدينيّة، ولم يستطع المهرّب الذي كان يرافقه منع العناصر المسلّحة من اقتياده، حتى إنّ (رحيم) يظن أن المهرّب هو من وشى به؛ عندها صرخ في وجه المهرّب، طالبًا منه أن يعيد إليه أمواله التي دفعها مقابل إيصاله إلى الحدود التركيّة، وقد فعل ذلك قاصدًا أمام العناصر، كي يثير “فضولهم”؛ فلربما يتأخرون في تسبيب أي أذى له، طمعًا بالحصول على المال، وكي يضع هذا المهرّب في مأزقٍ مُحرج.

في الغرفة الصغيرة التي وضِع فيها “رحيم”، ابتلع هويته العسكريّة على دفعات، ولم يبق معه أيّ ورقةٍ رسميّة تثبت شخصيته، وهو ما سيعقّد وضعه القانونيّ الهش لاحقًا. كما أن هذا النوع من الابتلاع سيتكرر كثيرًا لدى هاربين لاجئين آخرين.

ما حدث لـ (رحيم) هو إحدى المشكلات التي تثير الخوف لدى “العساكر”، ولاسيّما المنتمين للأقليّات الدينيّة؛ ما يجعل طريق العبور الوحيد إلى تركيا طريقًا محفوفًا بالأخطار. فإحدى المجموعات (المشكّلة من نساءٍ وأطفالٍ فحسب) خُطفت في ريف إدلب، ولم يطلق سراحها إلا بعد دفع مبلغ باهظ (قيل لنا إنه ناهز 100 ألف دولار أميركيّ)، وبعضهن اعتُقل من المحاكم الشرعيّة لفتراتٍ طويلة، وإحدى النساء كانت قد قضت ما يزيد على شهر في سجون جبهة النصرة، من دون توجيه تهمةٍ واضحةٍ لها، ولم يُعرف مصيرها من قبلنا. لكنّ هذه الحالات لا تشكّل قاعدةً عامّة، وإنّما يتحكّم فيها مزاجيّة العناصر التابعين للفصائل الإسلاميّة المعارضة.

حالف الحظ (رحيم)، إذ إنّ أحد المهرّبين الأساسيّين في سلسلة التهريب، ينتمي إلى مدينته ذاتها، وله علاقاتٌ قويّة مع الفصائل الإسلاميّة هناك؛ حيث إنه تمكّن من زيارته في معتقله، واستطاع أن يضغط على معتقليه الذين ظهر أنّهم لا ينتمون رسميًّا أو بشكلٍ قطعيٍّ لأحرار الشام؛ وهو ما دفعهم إلى تسليمه إلى محكمةٍ شرعيّةٍ تابعةٍ لأحرار الشام، لتتولى التحقيق معه. ويظن (رحيم) أن هؤلاء الذين احتجزوه، كانوا يعقدون العزم على خطفه، وطلب فدية منه، كما تبيّن له من خلال حديثه مع المهرّب لاحقًا.

قضى الرجل نحو الشهر في التحقيق، لم يتعرّض -قط-  للضرب أو الأذى الجسديّ أو التجويع. كان التحقيق يدور حول نقطتين: إن كان قد مارس أيّ أعمالٍ قتاليّةٍ مع النظام، والنقطة الثانية هي انتماؤه الطائفيّ. وعلى الرغم من التأكّد من عدم مشاركته في أيّ أعمالٍ قتاليّةٍ مع النظام، لم يطلق سراحه إلا عن طريق المصادفة؛ إذ إنّ أحد زملاء الجامعة القدماء، كان من المشايخ المقربين من إدارة هذه المحكمة الشرعيّة، وحين عرف بقضية صديقه، تقدم بشهادةٍ جيّدةٍ بحقّه في أثناء التحقيق، تضمّنت “تقريرًا” عن “أخلاقه الحميدة”، وفي النهاية أطلق سراحه.

ويعدّ مسؤولون ومقربون من حركة أحرار الشام هذه التوقيفات طبيعيّة، ونوعًا من الاحتراز الأمنيّ، على حدّ زعمهم، ولا سيّما أن “الموقوف” قد قضى مدّة طويلة في الجيش النظاميّ، كما أنّ الموقوف لديهم لا يتعرّض للضرب، على غرار ما يحدث للموقوفين لدى قوات النظام من تعذيبٍ وحشيّ.

وإذا كان الطريق هو منطقةٌ “عسكريّة”، بفعل الحواجز، فإنّ الحياة المدنيّة داخل البلدات والمدن الصغيرة، لا تزال في مفاصل منها، تحافظ على مسافةٍ واضحةٍ من “العسكرة الفصائليّة” وتبعاتها. (سعيد) هو كذلك عسكريٌّ منشقٌّ في عام 2016، بقي متخفيًا في مناطق سيطرة النظام لمدّة تزيد على أربعة أشهر، قبل أن يسلك درب العبور إلى تركيا. إلا أنّ حظًا جيّدًا قد صادفه، إذ التقى في أحد الحواجز بأحد الأشخاص الذين كان يعمل معهم في تقديم المواد الإسعافيّة في العامين الأوّلين من الثورة، قبل أن يصبح هذا الشخص، أحد المسؤولين في إحدى الكتائب ذات الطابع الإسلاميّ. بعدها صار (سعيد) يستقلّ سيارة هذا الصديق في تحركاته، وهو ما وفّر له الحماية.

في إحدى البلدات التابعة لريف إدلب، والتي تملك فيها جبهة النصرة نفوذًا قويًّا، ترجل (سعيد) من سيارة صديقه، ودخل دكانًا ليشتري منها علبة سجائر، وحين رآه البائع أنّه غريبٌ عن المنطقة، وخمّن انتماءه الطائفيّ الأقليّ، طلب منه الاختباء، لأنّ عناصر جبهة النصرة قريبون من الدكان وقد يعتقلونه لسببٍ طائفيٍّ فحسب.

الحدود

على طول (900) كم من الحدود التركيّة السوريّة، في مناطقَ محدّدةٍ منها، عليك أن تجري بسرعةٍ لتقطع الأمتار القليلة، وتجتاز الشريط الشائك، ثم تختفي في حقول الذرة أو في مزارع الزيتون عن أعين “الجندرما”.

اختلفت القصص التي حدثت في مناطق عدّة من هذه الحدود، باختلاف الأحداث السوريّة على مدى السنوات الخمس المنصرمة. في بداية عام (2012)، كان والد (آلاء وسميحة) الدمشقيّ يتلقى تهديداتٍ من الأمن السوريّ باعتقال ابنتيه، بعد ما اعتقل ابنه الذي فارق الحياة في أقبية الأمن لاحقًا. حينها لم تكن حواجز النظام تتشدّد في التدقيق على العابرين بين المحافظات، ولا سيّما النساء، وهذا ما أتاح لـ (آلاء وسميحة) السفر إلى إحدى عشر ساعة من دمشق إلى القامشلي من دون قلق. ثم كان على الفتاتين الأرستقراطيتين أن تجريا تحت عواصف كانون الثاني عبر حقول الذرة، وتقطعا الأسلاك الشائكة التي تفصل الأراضي التركيّة عن منطقة (الدرباسية) السوريّة، برفقة مهرّبٍ شابٍّ لا يتجاوز عمره الـ18 سنة، وجد في تهريب الجنود والمدنيّين الهاربين من النظام السوريّ عبر الحدود مهمة بسيطة، تدرّ عليه القليل من النقود؛ حيث كانت المبالغ الماليّة اللازمة للتهريب إلى داخل تركيا قليلة، إذ دفعت (آلاء وسميحة) نحو (40.000) ليرة سورية فقط.

وعلى الرغم من أنّ المسافة بين الدولتين تقطع سيرًا على الأقدام خلال نصف ساعة في بعض المناطق في وقت السلم، إلا أنّها باتت –بعد الحرب– مسافة طويلة لن ينساها المرء، وهي مسافة قد تطول لساعاتٍ عدّة، وقد تنتهي بالموت.

فشلت محاولة (آلاء وسميحة) العبور لمرّتين متتاليتين، حيث كانت “الجندرما” تكشف هؤلاء العابرين، وتوقفهم عن طريق تسليط الأضواء عليهم وإطلاق الصفارات، أو إطلاق النار في الهواء أحيانًا. وفي المرّة الأولى كان الوحل قد غطى جسديهما بشكل كامل، فقام أحد عناصر “الجندرما” بإعطائهم معطفه العسكريّ ليتقوا به البرد، ومن ثم خيروهما بين الذهاب إلى المخيم أو العودة إلى سورية، فاختارتا العودة إلى سورية، لتنجح محاولتهما الثالثة لاحقًا.

في صيف (2016) الماضي، عبرت مجموعةٌ مكوّنة من نساءٍ فحسب، المنطقة الفاصلة بين الجانب السوريّ والتركيّ، وهي منطقةٌ سهليّةٌ مكشوفة. حيث اكتشفتها أضواء “الجندرما”، فاضطرت المجموعة للاختباء وراء الصخور مع المهرّب الذي رافقها، لمدة (24) ساعةً، معظمها تحت الشمس الحارقة، بلا ماءٍ أو طعام، حتى حلّ الظلام من جديد.

لم تكن الجندرما “لطيفة” دائمًا، ولا سيّما في الفترات التالية بعد سيطرة (داعش) وحزب الـ PYD على مساحةٍ واسعةٍ من الحدود المشتركة، وحدوث إطلاق نار – في بعض الأحيان – من جانب المسلّحين على الجندرما، كما ورد في تقرير منظمة العفو الدولية (صراع البقاء… اللاجئون من سورية في تركيا – 2014). وهو ما أدّى إلى ارتفاع مستوى التدقيق والعنف من الجندرما، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى حدّ إطلاق النار على الهاربين؛ ما تسبب في مقتل وإصابة عشراتٍ منهم. كما اعتقل بعض الهاربين بعد عبورهم الحدود، ووضعوا قيد الاحتجاز لفتراتٍ مختلفة، قبل أن يطلق سراحهم؛ بعضهم يعاده إلى سورية، وبعضهم الآخر يُمنح بطاقة “كيملك”، ويُسمح له بالبقاء في تركيا.

عبر “رحيم” الحدود مع ثلاثين شخصًا تقريبًا، حيث صعدوا مناطق جبليّة وعرة جدًّا، كثيفة الأحراش والنباتات، وكان يتقدّمهم مهرّبٌ واحد، ويتخللهم ويتبعهم خمسة آخرون، وتكوّنت هذه المجموعة من نساء وأطفال صغار ورضّع، ورجال وعجائز، أحدهم كان عليه أن يصل إلى تركيا؛ لإجراء عمليّةٍ جراحيّة، خلال هذا الطريق تصبح السلطة المطلقة بيد المهرّب. قال لنا (رحيم): “للحظةٍ واحدةٍ شعرت بالدهشة، عندما بدأ أحد الرضّع بالبكاء، فصرخ المهرّب ذو الأعوام العشرين، بالمرأة التي يرافقها زوجها، “يا شر… أغلقي فمه! ضعيه على حلمتك ليرضع…” وقد كان هذا الأسلوب سائدًا خلال فترة العبور، ولا يلقى أيّ اعتراض؛ شعرت بقدر ساخر… من الجيش إلى المهرّبين التجّار إلى هذه اللحظة؛ حيث لا كرامة لنا إطلاقًا ولا قدرة”.

استقبل مهربٌ جديدٌ (رحيم) ومن كان معه داخل الأراضي التركيّة، وهو تركيٌّ يتحدث اللغة العربيّة تحدثًا جيّدًا. وبعد أن وجّه إهانة مقصودة للسوريّين بقوله: “تستحقون ما يفعله بشار الأسد بكم”، استغلهم برفع تعرفة الحافلة التي ستنقلهم إلى (إزمير) أو (مرسين). ويتواصل المهرّبون السوريّون مع أقرانهم الأتراك، لتكتمل رحلة التهريب إلى تركيا، وغالبًا ما توجد سيارةٌ كبيرةٌ داخل الأراضي التركيّة، قرب الحدود، تنتظر الهاربين، وتنقلهم إلى مناطق أكثر عمقًا،  لتبعدهم –قدر الإمكان- عن دوريات الجندرما، ثم تتولى إيصالهم إلى المدن الرئيسة التي يقصدون الوصول إليها؛ كي تجنبهم طلب الهوية أو أوراقًا ثبوتية، لا يملكها أغلبهم، عند قطع التذاكر.

استقرَّ حال (رحيم) و(سعيد) كعاملين في إحدى ورشات صناعة الثياب في تركيا، لمدّة تتراوح بين 12 إلى 14 ساعة يوميًّا، براتب لا يزيد على 1000 ليرة تركية (333 دولار)، ويوم عطلة واحد في الأسبوع. أما الآخرون، فإن طريقهم قد ينتهي في معتقلٍ تابع للشرطة التركيّة، أو قتلى أو مصابين، أو محتضنين من أصدقاء أتراك، أو في المحطة النهائية التي ابتغوها، كما حال “أحمد” الذي وصل من بلدته وسط سورية إلى ألمانيا، خلال ستة أيام بعد أن دفع 6000 دولار. أو أن ينتهي الطريق في محطةٍ ما قبل المحطة النهائيّة؛ فـ “آلاء” فشلت في عبور الحدود الدنماركيّة إلى السويد، وأجبرت على توقيع لجوئها في الدنمارك، وأُخذ منها جواز سفرها الذي حصلت عليه برشوة قدّمتها لأحد المسؤولين في النظام، ووُضعت في “كامب”؛ لكنّها هربت منه ليلًا، واستطاعت عبور الجسر الفاصل بين السويد والدنمارك، بعد أن “ابتلعت” اسمها، إذ إنّها غيرته؛ كي لا تعاد إلى الدنمارك مجدّدًا، حين تقدّم على طلب اللجوء في السويد، وهذا ما أفقدها شهادتها الجامعيّة.

وعلى الرغم من هذه التعقيدات والمخاوف، التي شكلتها طرقٌ بريّةٌ ترابيّة وثانويّة، لم يكن أحدٌ من السوريّين يعيرها اهتمامًا قبل خمس سنوات من الآن، إلّا أنّ السوريين يسابقون الزمن مستسلمين للقدر، قبل إكمال الجدار التركي على الحدود، الذي من المفترض أن يُنتهى منه قبل الربيع المقبل، ويتساءلون عن الطريق الجديد للعبور، بعد اكتمال هذا الجدار؛ حيث تشكل تركيا الآن – وفي المستقبل على ما يبدو – المنفذ الوحيد خارج الجحيم السوريّ، والذي يمكن أن يكون للسوريين محطة موقتة أو دائمة.

[1] ملاحظة: جميع الأسماء الواردة في هذا التقرير هي أسماء مستعارة لشخصيات لم ترغب بالإفصاح عن هويتها.




المصدر