قليل من النور في الأعلى


نداء الدندشي

كنت وصديقتي نتسكع في شوارع إحدى العواصم الأوربية، بعد أن قُذفتُ والملايين من أبناء بلدي سورية خارج وطننا الأصلي، ثم نُثرنا في بلدات ومدن وعواصم العالم، كما يُنثر الفلفل على الطعام، فتنتشر ذراته الصغيرة على سطح القدر؛ لتضيف إلى الطعام مذاقًا شهيًا ومستساغًا، لكن من جهة أخرى، هو أمر يستدعي التأمل والتفكير؛ حتى لحظة وجيزة، كانت هذه الذرات مجتمعة معًا في كف حاملها، متآلفة ومتجانسة مع بعضها، على الرغم من تنوع أصنافها، ثم وبحركة صغيرة انتشرت على سطح القدر؛ بحيث يصعب عدها أو جمعها من جديد، كما اكتسبت لدى ملامستها الطعام خصائص جديدة، لم تكن لها، نعم هكذا انتشرنا على سطح العالم، كذرات الفلفل هذه.

حين فاجأنا مطر أوروبا الصيفي الذي يأتيك دون توقع أو انتظار، اقترحتُ طريقًا مختصرًا يمر عبر مجمع للبنايات، ثم يفضي إلى مخزن كبير، يمكننا ان نمضي فيه بعض الوقت، ريثما يتوقف المطر. لفتُّ انتباهها ونحن نعبر أحد الأبنية أن تتأمل بعض الرسوم الجدارية الجميلة (الفرسك) التي تزين سقف المكان، وتعود في تاريخها إلى نهايات القرن التاسع عشر، بدليل النقش النافر الذي كنت بحثت عنه في زيارتي السابقة إلى المكان، كنت في أثنائها أحاول اكتشاف المدينة منفردة؛  خشية أن أُمنع، على عادتنا نحن -القادمين- من الشرق، من التلفت والنظر والتأمل حولي بتمعن.. رد فعل صديقتي كان مفاجأة كبيرة لي، لقد توقفت السيدة بلا حراك؛ وهي تدير نظرها إلى مساحة سقف البناء؛ ولدهشتي، قالت: إنها تمر من هنا منذ خمسة وعشرين عامًا، دون أن ترى ما تراه الآن، نعم ربع قرن لم يخطر لها  -ولو مرة واحدة- أن ترفع رأسها إلى الأعلى؛ لتتفحص الأمكنة حولها، وتحاول اكتشافها.

هذا الموقف أعاد إلى ذاكرتي نزهة تعود سنوات إلى الوراء، مع صديقة لي في أحد شوارع دمشق؛ حين لاحظت أنها تسير، وقد ثبتت نظرها نحو الأمام، ولم تشأ أن تحرك رأسها في أي اتجاه؛ احترامًا لما قد يقوله الناس في شرقنا الجميل، عن المرأة إن هي أكثرت قليلًا من التلفت، قررت أن الفت انتباهها إلى تناسق العمارة وتنوعها وتجانسها مع بعضها، في أحد الشوارع الدمشقية التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عمارة جميلة تتميز بشرفاتها الخشبية الصغيرة، ومشربياتها المزخرفة. ما زلت -حتى الآن- أذكر كيف تأملت صديقتي ما تراه، ورددت باقتضاب أنها لم تلحظ هذا من قبل، ثم تابعت دون أن تبدي أي ملاحظة، أو تكلف نفسها عناء التفكير بأن محيطها يمتلئ بأشياء جميلة، تستحق منها عناء رفع رأسها قليلًا إلى الأعلى.

في مجتمعاتنا الشرقية، ترزح المرأة تحت وطأة رأي المجتمع، وتحديده للأطر العامة لسلوكها؛ حتى وإن ارتقت بتعليمها أو بمركزها الوظيفي، بلا وعي منها، وهي كذلك إن خرجت إلى عوالم أكثر اتساعًا، بينما يتقوقع الرجل حول أفكار غير مقتنع بها في قرارة نفسه، أفكار سجينة مفهوم الرأي العام، وهو يخشى التحرك خارج إطارها؛ خشية انتقاد الآخرين له، وتعرضهم لرأيه بطريقة فظة، ببساطة، معظمنا لا يحاول أن يكتشف محيطه جيدًا؛ ليخرج ولو قليلًا عن الدائرة الصغيرة التي وُضِع بداخلها، أو ليصنع لنفسه دائرته الخاصة، ويوزع على خطوطها بعض ما يمكن أن يعكس ذاته وعوالمه الخاصة به، ما يحب وما لا يحب، وأيضًا ماذا يرفض من مفاهيم عامة أصبحت عرفًا. لكن تحجيم مجتمعاتنا ليس علة الحكومات الدكتاتورية التي عرفناها، ونصبت أسلاكها الشائكة على عقولنا فحسب، وشجعت تخلفنا، إن لم نقل رسمته في أقبية مخابراتها؛ بل هو –أيضًا- ربيب المجتمع الذي ننتمي إليه، الذي ما إن تفتح ونسج لنفسه أجنحة رقيقة، قد تحمله يومًا في رحلة معرفية إلى حقول الحياة، أو اكتشاف العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ حتى عاد وسجل ردته نحو الوراء.

تبدو الآن الفرصة سانحة على الرغم من التشتت والآلام، لإعادة النظر بكل أخطائنا، السياسية منها والمجتمعية، لكن هل سيتمكن الجميع من الرجوع إلى سورية، وهم يحملون خصائص جديدة وجميلة، أم أننا سنحقق حلم العودة يومًا ما، لكن، ونحن في حالة أشد بؤسًا على صعيد الوعي والثقافة، مما كنا عليه، وخذلنا بمرارة.




المصدر