يجوبون الشوارع والأزقة بلا عائلة أو هوية أو نَسب .. الأطفال اللقطاء ظاهرة سوريّة تنذر بمستقبل مظلم


خلال مرورك بأحياء العاصمة السورية دمشق إذا صادفت أطفالاً يتنقلون في العراء، أو يفترشون الحدائق والأرصفة، لا تتفاجأ فهؤلاء أطفال سوريون فقدوا أهاليهم خلال النزوح قبل بلوغهم سن التمييز، ولم يتم التعرف على هويتهم أو المكان الذي قدموا منه، إنهم “لقطاء”

مع ازدياد أعداد القتلى وتشريد العائلات السوريّة خلا ست سنوات مضت كان الأطفال الضحية الأكبر لهذه المأساة، فإضافة لخروج 2.7 مليون طفل من العملية التعليمية بحسب تقرير لمنظمة “يونيسيف”، والدمار النفسي الذي لحق بفئة الأطفال نتيجة الحرب، طَفَتْ قضية الأطفال اللقطاء على السطح لتزيد المشهد مأساويةً.

لماذا لقطاء؟

تصحح الأخصائية النفسية والاجتماعية ميسون القاضي الخطأ الذي يقع فيه البعض، إذ أن اللقيط ليس الطفل المولود نتيجة علاقة غير شرعية فقط، بل يُعتبر لقيطاً كل طفل لم يتم التعرف على هويته وهوية ذويه، حتى لو كان من أبوين شرعيين، أي أنه فقد عائلته قبل أن يبلغ سن التمييز ودون أن يعرف اسمه أو نسبه.

وأضافت القاضي في حديث لـ “صدى الشام”: “الوضع في سوريا أفرز مئات الأطفال الذين أضاعوا نسبهم نتيجة ضياع أهلهم بالقصف، أو خلال عملية التشريد الجماعي والنزوح، حيث يفقد الكثير من الأهالي أبناءهم الذين لا يستطيعون التحدث وتحديد نسبهم، وبالتالي نحن أمام نوع جديد من اللقطاء أفرزته الظروف”، لكنّ “القاضي” أبدت اعتراضها على استخدام كلمة “لقيط” كونها غير أخلاقية كما تقول مقترحةً استبدالها بـ “مجهول النسب”.

ويشاطرها الرأي القاضي الشرعي الأول بدمشق التابع لحكومة النظام “محمود معراوي” الذي كشف أن عدد اللقطاء ازداد في سورية نتيجة فقدان الطفل لأبويه بفعل الحرب، موضحاً أنه لابد من التميز بين اللقطاء الذين ولدوا من أبوين غير شرعيين وتخليا عن الولد فأصبح مجهول النسب وبين اللقطاء الذين فقدوا والدهم ولم يبلغوا سن التمييز أي إنهم لا يستطيعون تذكّر نسبهم.

معراوي أضاف أن “دمشق تستقبل في كل أسبوع معاملة تتعلق باللقيط”، مبيناً أن دور القضاء الشرعي هو تعيين الوصي على اللقيط بهدف القيام بكل الحاجيات التي يحتاجها اللقيط من الرعاية” حسب تعبيره.
وأثبتت نتائج استطلاع أجراه صحافيان سوريان بدمشق على 60 محامياً متخصصاً بقضايا الأسرة وقانون الأحوال الشخصية في القنيطرة ودمشق وريفها، أنّ دعاوى إثبات النسب ارتفعت لتشكل 80% من القضايا التي ترافعوا بها خلال السنوات الخمس الأخيرة رغم أن نسبتها لم تزد عن 9% قبل الحرب.

لا رعاية ولا توثيق

ومن خلال البيانات التي أتاحتها “وزارة الشؤون الاجتماعية” في حكومة نظام الأسد، فإن عدد اللقطاء في دور الرعاية بلغ 500 لقيط، 150 منهم في دمشق، و70 لقيطاً في حلب، و40 في حمص، و35 في حماه، في حين توزّع البقية على المحافظات السورية الأخرى.
إلا أن هذه البيانات لا يمكن أن تعبّر عن حجم الكارثة، إذ أن الحالات التي تصل إليها “الشؤون الاجتماعية” تنطوي على ما يصلها من بلاغات، في ظل غياب أية آلية محددة للبحث عنهم ورعايتهم، أو تكليف نفسهم بالاستجابة لجميع البلاغات على أقل تقدير، كما أن هذا الرقم يشمل فقط المناطق التي يسيطر عليها النظام ولم تصل إلى حجم المأساة التي تزداد في المناطق المحرّرة بسبب القصف اليومي الذي بات جزءاً من حياة السكّان هناك.
وعلى الجانب المقابل لم تعثر “صدى الشام” خلال بحثها على أية منظمة أو جهة أهلية تعنى بالرعاية بالأطفال فاقدي نسبهم في المناطق السورية المحررة، أو جهة إحصائية توثق أعدادهم وبياناتهم.
يقول المتطوع في الدفاع المدني بحلب “يوسف الحسيني” لـ “صدى الشام”: “إن شوارع المناطق المحررة في حلب تشهد نشاطاً كثيفاً لأطفال لم يتم التعرف على هوية أهلهم”، مشيراً إلى عدم وجود أي جهة تعنى بهم، لكن الجانب المضيء في حديثه ينطوي على نشاط فعلي من الأهالي المدنيين في محاولة التعرف على هوية الطفل ورعايته في أحيانٍ كثيرة، ولا سيما في إذا كان يعيش في الزقاق ذاته فتصبح عملية التعرف عليه أمراً سهلاً.
يُعتبر لقيطاً كل طفل لم يتم التعرف على هويته وهوية ذويه، حتى لو كان من أبوين شرعيين، أي أنه فقد عائلته قبل أن يبلغ سن التمييز ودون أن يعرف اسمه أو نسبه

الشوارع مرتع اللقطاء

على بعد أمتار من منطقة البرامكة، أكثر الأحياء بعداً عن تبعات الحرب في العاصمة دمشق طفل عمره قرابة 4 أعوام، تبدو على ملامحه التشرّد بالشوارع، حيث أكلت القذارة والأوساخ معظم جسده، في منطقة تكتظ بآلاف العابرين يومياً ولا تبعد عن مبنى وزارة الشؤون الاجتماعية التابعة لحكومة الأسد إلّا مئات الأمتار. الطفل حوّل الرصيف إلى وسادة ونام عليه، حاولنا معرفة أي شيء عنه لكن دون جدوى، لكن أحد العاملين ببسطة تبيع الكتب بمكان مجاور اكتفى بالقول “إن امرأة يبدو أنها مختلّة عقلياً رمته في المنطقة قبل أيام ولم تعد، لذلك يقوم أهالي المنطقة بإطعام الطفل باستمرار”. وبقي الطفل كما هو لفترة بين 8 – 15 يوم، قبل أن يختفي من المنطقة دون معرفة الجهة التي أخدته.
يقول المحامي “عيسى سالم” مستخدماً هذا الاسم مستعار كونه يقطن بمناطق النظام، إن هناك لجاناً مختصة تابعة لـ”وزارة الشؤون الاجتماعية”، فإذا وجدت طفلاً يبدو أن عائلته مفقودة تحاول التعرف عليه وإعادته إلى أهله، وعندما يتبين أن الطفل مشرد ولم يتم التعرف على هويته فإنه يُعد لقيطاً.
سالم أضاف في حديث لـ “صدى الشام”: “هنا يتم إرسال الطفل اللقيط إلى إحدى دور الرعاية التابعة للشؤون الاجتماعية وأبرزها “دار زيد بن حارثة لرعاية مجهولي النسب”، والتي بدورها تقترح على السجلات المدنية اتخاذ اسم للقيط، حيث يقوم مدير السجل المدني بإيجاد اسم وهمي له. إلا أن “سالم” أوضّح أن هذا الإجراء لا يحصل إلا في حالات نادرة ففي معظم الأوقات يُترك الطفل في الشارع دون رعاية بسبب عدم وجود دوريات تبحث عن الطفل.

أطفال دون نسب في المخيّمات

على غرار الأطفال المبعثرين في الشوارع السورية تشهد مخيمات النزوح في الداخل السوري واللاجئين في دول الجوار انتشاراً واضحاً لظاهرة الأطفال اللقطاء، وذلك لكون الموجودين في هذه المخيمات هم أساساً نزحوا تحت ظروف القصف والحرب، وقسم كبير منهم فقد ذويه.
في مخيم “الشيخ علي” بمنطقة الكسوة في ريف دمشق يقطن 4 آلاف نسمة حسب الأرقام المعلنة، ويشهد المخيم أكثر من حالة لأطفال مجهولي النسب، أتى بهم مواطنون آخرون خلال عملية النزوح، بعضهم تم التعرف على نسبه بحكم القرب المكاني خلال النزوح، وآخرون مجهولو النسب حتى اليوم.
يحدثنا أحد النازحين القاطنين في المخيم، عن طفلة اسمها “لين” أو هكذا أسماها الوافدون في المخيم حيث لا يعرفون شيئاً عنها سوى أنها تنحدر من منطقة “خان الشيح” التي تشهد معارك طاحنة منذ سنتين، ويحاصرها نظام الأسد بعد فرض الهدن على عدة مناطق في الغوطة الغربية.
يقول أحد قاطني المخيم والذي تحدث عن الحالة عبر اتصال هاتفي مع “صدى الشام”: “إنهم حاولوا مراراً التعرف على الفتاة دون جدوى لأن الفتاة لم تبلغ سن التمييز، فتركوها معهم ليربوها بالمخيم، موضحاً أنهم أخبروا القائمين على المخيم عن وضع الفتاة مؤخراً ليتم نقلها إلى مركز لتأهيل اللقطاء، لكن لم يتم نقلها حتى الآن.
وتبيّن الباحثة الأخصائية النفسية والاجتماعية ميسون القاضي لـ”صدى الشام”: “أن مشكلة اللقطاء في الداخل السوري بسيطةً جداً إذا ما تم مقارنتها بالحالات الموجودة خارج البلاد”، وتستند في رأيها إلى كون الأشخاص الذين هاجروا لاجئين إلى دول الجوار تعرّضوا لعنف أكبر جراء القصف والمعارك التي شهدوها، وهو ما يؤكد أن عمليات التفرقة والتشريد التي تخلّف هؤلاء الأطفال أضخم بكثير وهي مرعبة، وتضيف أن هذه الأعداد الكبيرة بمناطق النظام ربما تعكس ربع الواقع فيما إذا حلّلنا الوضع في المناطق المحرّرة وأماكن اللجوء في دول الجوار.

 

لا قانون يحميهم

“قانون اللقطاء ألغي بعد صدور قانون الأحوال المدنية” هذا ما أقر به القاضي الشرعي التابع لنظام الأسد محمود معراوي، خلال حديثه لصحيفة موالية حيث اعترف أنه: “تم إلغاء القانون الخاص باللقطاء، عندما وضع قانون الأحوال المدنية، ولم يتم إلى الآن إيجاد قانون بديل، رغم ضرورة وضع قانون خاص باللقطاء ولاسيما أن قانون الأحوال المدنية ذكر قواعد عامة عن اللقطاء ولم يدخل في التفاصيل، وخاصة أن اللقطاء يحتاجون إلى رعاية خاصة باعتبارهم مجهولي النسب”، وهو ما أضاف مشكلة جديدة لهم تتمثل في المستقبل المجهول الذي ينتظرهم وسط عجز القوانين أو غيابها، مع تجاهل مسؤولي حكومة الأسد عن معالجة هذه الظاهرة.
هذا النقص في القانون يؤدي لوجود مواطنين سوريين داخل الأراضي السورية من دون نسب أو أي إثبات، وفقاً لما يشرح المحامي “عيسى سالم” الذي أضاف أن هؤلاء عندما يكبرون سيواجهون المجتمع دون أي إثبات لشخصيتهم، ولا سيما في ظل غياب قانون يعطيهم حقوقهم.
سالم أضاف أنه عالج شخصياً عدة دعاوى في القصر العدلي تتضمن إلقاء مواطنين سوريين لأبنائهم في الشوارع نتيجة الحالة الاقتصادية وانخفاض قيمة الليرة وغلاء معظم أسعار المواد الأولية عشرات الأضعاف، وانتهى المطاف بالأطفال أنهم أرسلوا إلى دار زيد بن حارثة، لتتكفل بهم، علماً أن طفل واحد من أصل 4 أطفال اطلع سالم على ملفهم لم يتم التعرف على هوية ذويه.

عندما يَكبرون

يبدو المستقبل مظلماً أمام هؤلاء الأطفال فهم لن يبقوا صغاراً طوال حياتهم ومع بلوغهم سن الرشد والتكليف سيدخلون في معضلات أكبر أينما كانوا فانخراطهم في المجتمع يقتضي ذلك. فهل هناك من يتنبه إلى حجم الكارثة القانونية والمجتمعية الناجمة عن وجود “مواطنين” بلا هوية؟



صدى الشام