ابن أبي الضياف وتسمية العالم


منذ مائة وسبعين سنة، سافر حاكم تونس، المشير أحمد باشا باي (1806- 1855) إلى فرنسا في أول زيارةٍ رسمية، يقوم بها أمير، خارج إطار السلطنة العثمانية ودون إذنٍ من صدرها الأعظم. كان في مرافقته ثلَّة من كبار الدولة والعلماء والعسكريين، وعلى رأسهم كاتب سرِّه الشيخ أحمد بن أبي الضياف (1804-1874) الذي دوَّن، بطلبٍ من مُترجم الملك الفرنسي، لويس فيليب، كلَّ وقائع الرحلة في لغة عربية دقيقة.
من المشروع أن نتساءل اليوم عن كيفيات تمثُّل الواقع الفرنسي من خلال رحلته التي صاغها بعربية ذلك الزمن. وعن آليات التوليد المعجمي التي اعتمدها الكاتب في تسمية أشياء العالم. وسنرى هل كانت اختياراته المعجمية تحمل نظرةً ما للمجتمعيْن التونسي والفرنسي؟
تَضعنا القراءة الراهنة لنص “الرحلة”، الذي ورد في تأريخه الكبير، “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان”، أمام المجهود الخارق الذي بَذله المؤرّخ ورجل الدولة، ابن أبي الضياف، في استنطاق الواقع الفرنسي، الذي بدأ يَتَعَلْمَن بشكلٍ متسارعٍ، إثر انتصارات الثورة الفرنسية وإنجازاتها الصناعية والعسكرية.

كما نستشف في صور الرحلة وأساليب صياغتها طرقًا جديدة في فهم الواقع، تقطع مع المقولات الدينية وأسلوب السرد الأدبي، وتجْهَدُ في إيصال مضمون المراجع المُحال إليها، وإسناد الاسم المناسب لها، دون تحريف للحقيقة المفهومية. ففي أمانة بديعة، سعى الرجل إلى تسمية مؤسسات الجمهورية الفرنسية الفتيَّة (بعد قلاقل 1830) عبر انتقاء مصطلحات مؤسساتية، لا يُسقِط عليها الدلالات الفقهية التي تزخر بها كتب الشرعيات، كما فعل الطهطاوي مثلاً، فالبرلمان هو “مَجلس الوُكلاء”، وليس “مَجلس شورى”، نظرًا إلى أنَّ النواب هم وُكلاء عن الشَّعب، فوَّض إليهم أمر التداول في الشؤون السياسية باسمه ونيابةً عنه.
كما ابتكر مفردات جديدة، تظهر لأول مرة في لغة الضاد، أو ولَّد من الكلمات المألوفة معانيَ مستحدثة مثل كلمة “تعليم” أوردها للإشارة إلى الاستعراض العسكري. ويكفينا أن نلفت إلى أنَّه كان الكاتبَ العربيَّ الثاني، بعد الطهطاوي وقبل الشدياق، الذي رسم، بدقة فريدة، المَسرح الفرنسي بكل مكوناته، من شخوص ورُكحٍ ونَصٍّ وتمثيل وديكور دون اللجوء إلى الاقتراض الصوتي… مسنداً لكل تفصيل مفردة خاصة ذات طاقة إحالية دقيقة. وقد استمرَّت بعضها إلى يومنا هذا، واندثر البعض الآخرُ في غياهب النسيان، مثل كلمة “عَمَلة” (جمع عامل)، التي استخدمها للإحالة على “المُمَثِّل”.
ومن جهة ثانية، تناولت جهودُهُ اللغوية، التي لم تَحظ بعدُ بالدرس والتحليل، ترجمة المفاهيم السياسية والقانونية الفرنسية إلى مقابلاتها العربية الفصيحة، حتى كانت هذه “الرحلة”، رحلةً في تضاعيف القواميس القديمة يبحث عن مكنوناتها ويفجِّر طاقاتها التوليدية لتسمِّيَ هذا العالَمَ الفرنسي العجيب، دون أن تخضعه إلى التصوّرات الفقهية، التي تلقاها في أروقة جامع الزيتونة، فاقترح لكل مرجعٍ جديد اسماً جديداً، يوصله إلى القارئ ويدفعه إلى تبنيه وإدراك حَقيقته.
وما كانت تسمية الأشياء لديه مجرَّد ترميز عابرٍ لها، بل جهداً نهضويًا تنويريًا يهدف من خلاله إلى إدماج تلك المفاهيم في الذهنية العربية المتجمدة آنذاك، وإقناع رجال الدين والسياسة باستيعابها لتصير جزءًا من منظومتهم العربية-الإسلامية.

فحين ذكر البَرلمان، مثلاً، ذكره مقرونًا بوصفٍ تفسيري: “بيت عمران المملكة وثروتها ونجاحها”، ولما استحضر “المداولات البرلمانية التي تنعقد فيه، أردف أنها: “إلقاء على المسامع لتفكر فيه عقولُ الحرية”. وتناول في صفحاته المُشوقة هندسة المكتبة الوطنية (دار الكتب)، ودارَ العُملة أو السكة، والمدرسة العسكرية وصوَّر، للمرة الأولى، ما جرى فيها من استعراضات عسكرية أقيمت على شرف الباي، كما دقق في صياغة العبارات المصورة لمَصانع النسيج والخزف والسفن، والمارستان (المستشفى) وقصر البلدية وضريح القائد نابليون، بالإضافة إلى شوارع باريس النظيفة المضيئة.
وفي الحقيقة، لم يكن ابن أبي الضياف يَصف باريس بقدر ما كان يصف مقوِّمات التمدن الغربي ويدعو إلى تبنيها. كان يسلّط الأضواء على ما ينقص بلدَه تونس العثمانية من دعائم الحَضارة، ومَظاهر “العدل والعمران”، فباريس هي النموذج كما يفضل هذا المفكر الإصلاحي أن يراها: مَثلاً أعلى ينبغي أن ترنو إليه مُدن العالَم.
تكشف عودتنا السريعة إلى هذا النص التأسيسي الإسهام المصطلحي- اللغوي في خطاب النهضة الأولى، وقد تعين على استكناه آليات تسمية العالم فيه، وعوائقها وفخاخها ورهاناتها. ولعلَّ ما يعيشه عرب اليوم من ضبابية في المفاهيم السياسية، عائدٌ بعضه إلى عدم توفق بعض الخيارات المعجمية أثناء زيارة باي فرنسا إلى باريس قبل مائة وسبعين سنة يومًا بيومٍ.



صدى الشام