on
المسرح وكنس الآلهة وما بعد الدمّ: نصّ خيميائيّ
حاتم محمودي
إذا كان تدنيس المقدّس، بإزاء راهن كهذا الذي نحياه، يفضي بنا إلى كنس الله ورميه، كما لو إنّه عجل آدمي يستحق النقد أو القتل، فهل سنعدّ ذلك رهانا يفضي بنا إلى ضرورة نحت تكوّن الإنسان المستقبلي؟ ما هي مهمتنا نحن المسرحيين؟ أليس علينا -أوّلا- كنس مهمّة السائد من الفنّ جانبًا، وذلك بكسر مغالطاته التاريخية، بل والزجّ بها في حضيرة الآثار؛ تلك التي تمجدها حداثتنا بوصفها جزءًا من الذاكرة؟ تأمّلوا، فهذه الحداثة ذاتها تشرّع لأصنام ماضوية، إنّها شبيهة جدًا بالأصوليين، فبعد قتلها ذلك الإله لم يعد لها غير عزاء وثني.
أمّا نحن فجدّ وثنيين، فراغنا الروحي يؤكّد ذلك، وعوض أن نجلس “على مائدة التفاوض”، كما يقول درويش، نغرق أنفسنا في معارك إنتاجية ولّدتها ثقافة السوق. لم يعد ثمّة غير استهلاك فنّي وضيع أشار إليه أدرنو، ولم نكتف بذلك، بل نحن الآن نمسك راهننا المسرحي من وريده، كما لو أنّه جاهز للذبح، ونفصح بخجل -لا نصرّح به- عن حاجتنا الاجتماعية والنفسية؛ نتيجة أوضاعنا الاقتصادية والمالية المعدمة. والحال أنّ تلك ليست مهمّة الفن الحقيقي، ومن شاء الاعتراض على ذلك من باب المسرح السياسي -محتجّا بثقافة الغابرين- سنذكّره بتلك الصرخة “الآرتوية” حين أعلنت أنّ المدفع أجدر بخوض المعارك السياسيّة ومواجهة محفل الدمار.
إنّ بريخت نفسه لم يتجاوز قطر دائرة ما، وما الأرجانون الصغير (القانون) إلا بيان غضبيّ إلى حدّ ما، وقد نستطيع -أيضًا- توصيفه بالرجعيّ، فهو وظيفيّ لا أكثر، مرتبط تمام الارتباط بحقبة تاريخيّة من التاريخ البشري، وسيزول بزوالها، وهو أمر من السهل جدًّا تأكيده، فانتقال تلك الحقبة إلى مملكة الحريّة مرورًا بمملكة الضرورة -حيث أفول الصراع الطبقيّ- لن يجعلنا في حاجة -أبدًا- إلى مسرح كهذا الذي تحدّث عنه بريخت، ما يجعله رهين تلك الدائرة، وربما محض وشم قديم في ذاكرة حيوان آدمي؛ قد يصبح كائنًا آخر -بدوره- بعد أمد بعيد من القرون.
لاحظوا أننا تركنا فكرتنا الأصلية ودخلنا حقلًا من السجال المفرغ، وهذا أمر طبيعي، فقد عوّدتنا ثقافة بعض منّا -إن لم نكن جميعًا- على الهدم لا البناء، ما يجعلنا نوجّه بعض صفعات تثير الآن حسًّا غضبيًا في نفسية القارئ، إذ لم يعد لنا بعد محافل مهزلة الأشياء غير الكتابة بانفعال، وليكن؛ علينا أن نطرح أفكارنا الآن من دون البحث عن مبرّرات لها، فمن يبحث عن ركائز أو حجج للإقناع لا يمكنه -الآن- إلا أن يكون مسخًا مشوّهًا، نعم هو كذلك لأنّه خائف، بوصفه متموضعًا في مناخ حداثة ميتافيزيقية، لم تقتل الإله إلا لأنّه استوطنها؛ فظلت تجترّ ذبحه من منطلق تفاهة العلم الحديث.
يا لهذا السخف الآدمي الذي يعالجه مسرحنا الآن! نقابات تبحث لها -عند السلطة- عن نهود، كي تنعم ببعض فضلات السوق الثقافي! أعمال مسرحية تلهث وراء الحدث؛ كي تقتات من التباس الواقع باسم المحاكاة! بيانات تصبّ غضبها على الإرهاب، كما لو أنّه مكتوب بمداد سياسيّ يبحث له عن موقع إزاء كروموزم السلطة! ممثلون صبّوا جام سخطهم نتيجة جشع المنتجين في الحانات ومقاهي اللغو! فضاءات تتداعى جدرانها أمام هول الفراغ وقصور العناكب، بصحبة مسرحيين ينتظرون فواتير الكهرباء ويخطون مشروعاتهم على ورق أصفر! نصوص يردّدها حيوان آدميّ على خشبة محفوفة بغير المسامير الصدئة!! أما الجمهور، فهو يصفق سخرية الآن أمام هذا المسرح. صار يكفي تفاهة تلك المسكنات التي كنا نبيعها له، إنه الآن أشد قدرة على فهم تركيبة الواقع من أي فنان؛ فهو الذي يتصادم مباشرة مع الحياة وغوائلها، فصار المسرح عينًا له.
تدنيس المقدس يكون بهذا الشكل مموضعا في مناخ راهنيّ؛ هو ذاته انهيار القيم المطلقة، أفول التراجيديا على الرغم من مولدها في الجنون النيتشويّ، تنكيل -لا قرارات له- بالبطل ورمزيته، سقوط الله من الميتافيزيقيا، استنبات فيروسات القتل في جينات الإنسان، حمّى العالم على صفيح من الغازات والحروب، تحوّل الأرض إلى قرص دمويّ يحنّ مثل الألوان جميعها إلى السواد.
- وأنت أيّها المسرحي: هل ثمّة كينونة لك هنا؟
إنّك هناك، محض رقم في تلك الأسواق الثقافيّة، أمّا المسرح فقد تركك وهاجر -منذ أن خنت عشقه للقربان والدمّ-، فهو لم يعد في تلك الفسحات، ثمّ إنّ الذي تسمّيه أنت مسرحًا ما هو إلا وهم استهلاكيّ في كرنفالات ومهرجانات موسميّة، نراها تطوف العواصم باتفاقات مسبّقة بين تجّار الفنّ وأحواله.
- إلى أين هاجر؟ أين نجده الآن؟
نعم، وهذا هو الصادم، والمخيف المرعب إلى درجة ستجعلك ترتجف وأسنانك تصطكّ، إنّنا نجده في عروض تتحرّك بأقدام قصديرية ومخالب فولاذيّة، تجوب أقطار العالم وترقش الرؤوس، وتذبح باسم ذلك المقدّس الذي دُنّس. نجده في محافل الدم الارهابيّ حيث تحضر الفرجة المتضمّنة للفرجويّ الفاجع، وهذا أمر سيقودنا إلى ضرورة التأكيد على أنّ ذلك مسرح في حدّ ذاته، وهو ما لن نؤكده، بل نشير إليك فحسب، أنّه ثمّة جراحات هنا بين الجسد المصطلحي ومدلولاته الغابرة في سديمه، وأن تصرّ على رفض هذا التصوّر؛ فهذا ما يؤكدّ أصوليتك وانتماءك للسائد من الجماليات القديمة.
أكثر من ذلك، سيجدر بنا الآن أن نقدّم عزاء لا ريب فيه لهؤلاء الممثلين، فسيرة السائد من المسرح، وصولًا إلى حدّ راهنيّ، تجعلنا نجده في مناخ جديد أيًضا، ألا وهو الفرجات الوسائطية، ومولد مصطلح جديد هو “الممثل الافتراضي”، وبالتالي؛ بشرى فجائعية لنهاية الدم والخشبة، حتّى أنّ التكنولوجيا صارت تتحدّث بدلًا منّا.
يبقى السؤال مفتوحًا إلى حين: هل ثمّة إنسان مستقبليّ يتحدّث عنه الراهن من الفنّ؟
المصدر