ترامب عبر المنظار الفرنسي


بدر الدين عرودكي

“هل أحتاج إلى القول إن القليل مما سيبقى من السياسة سيتخبط بألم في معانقة الحيوانية العامة، وأن الحكومات سترغم من أجل بقائها ومن أجل إيجاد شبح نظام على أن تلجأ إلى وسائل سترتعد من جرائها فرائص إنسانيتنا المعاصرة التي اشتد مع ذلك عودها”.

كتب الشاعر الفرنسي بودلير هذه الكلمات قبل نيف وقرن ونصف، أي حوالي عام 1861. وعن أميركا تحديدًا. كما لو أنه يعيش بيننا اليوم. وستقرأ للمرة الأولى عام 1887، بعد عشرين عامًا من وفاة الشاعر، طافحة بعنف لهجة الحقيقة. وكما يقول فيليب روجيه، مؤلف كتاب “العدو الأميركي، في أصول النزعة الفرنسية المعادية لأميركا”، يصف بودلير “قبل قرن من جان بودريار، مجيء عالم اللاحدث الذي جاء فعلًا: عاصفة لا تنطوي على أي شيء جديد، لا معرفة ولا ألم”. بودلير الذي نحت بالفرنسية عام 1855 فعل تأمْرَكَ (s’américaniser) والذي أراد عبره أن يصف الإنسان الذي غسلته الفلسفة المادية “فأضاع مفهوم الاختلافات التي تسم ظواهر العالم المادي والعالم الأخلاقي، الطبيعي وما فوق الطبيعي”!

أسَرَ هذا الصوت القادم من وراء القبر عددًا من كبار كتاب فرنسا: من كلوديل إلى بروست. وكان ستندال، قبلهم، بعد أن اختصر عام 1830 رأيه في أميركا بكلمات ثلاث: “وهناك لاوجود للأوبرا!”، قد صفق بيديه عام 1834 حين قرأ ما قاله صراحة تاليران، أحد كبار الساسة الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وهو يجيب نابليون الذي سأله عن طبع الأميركان: “يا صاحب الجلالة، إنهم خنازير كبيرة، وخنازير متوحشة”!

وفي عام 1900، سيسخر كاتب إنكليزي هذه المرة، شارل ديكنز، عبر لازمة ستكون كلية الحضور لدى الفرنسيين آنئذ وستتكرر في محاضراته الأميركية مثيرة حملات العداء ضده حين قال: “يبدو غريبًا في بلد يحكمه أنصار الحماية، أن تحمى فيه  كل المنتجات الوطنية فيما عدا منتجات العقل”.

تشير هذه المقتطفات التي تحفل بأمثالها الأدبيات الفرنسية، السياسية منها والفكرية والأدبية على امتداد أكثر من قرنيْن، إلى عمق العداء الكامن في اللاوعي الفرنسي إزاء الولايات المتحدة الأميركية، لن تخفف منه تصريحات السياسيين الفرنسيين بهذه المناسبة أو تلك حين “تؤكد” على عمق الصداقة الفرنسية الأميركية وتاريخيتها.

وفي ضوئها إنما يجب أن تقرأ تصريحات فرنسوا هولاند على إثر إعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية. فهو يعلم تمام العلم أنه لن يكون بوسع الرئيس الجديد للولايات المتحدة التي سبق وصادقت على اتفاقية باريس حول التغير المناخي أن يضرب بالاتفاقية عرض الحائط كما صرح خلال حملته الانتخابية. لكنه مع ذلك لم يتوان عن القول إن فوز ترامب يدشن حقبة من الشك. فهناك أولًا المسافة بين نوايا الرئيس الأميركي المنتخب على صعيد السياسة الدولية التي عبر عنها خلال حملته الانتخابية والتحديات التي بدأ يكتشف عددًا منها في الواقع السياسي الدولي أكبر من أن تستوعبها مشروعات سياسية وإن صيغت لأغراض الحملة الانتخابية إلا أنها تنبئ عن إرادة حديدية في التغيير على صعيد السياستين الداخلية والخارجية في آن. وهناك ثانيًا الحزب الجمهوري الذي حمل ترامب وهنًا على وهن كي يكون مرشحه لرئاسة الولايات المتحدة، وعانى في سبيل ذلك من التضارب الحاد في آراء ومواقف مسؤوليه الكبار، مما كان هذا المرشح يقدمه على أنه السياسة الأميركية الموعودة باسم حزبهم. هذا بالإضافة ثالثًا إلى أنه لا يمكن بالطبع وراء ذلك كله تجاهل ثوابت السياسة الخارجية الأميركية، أيًا كان الحزب الحاكم، سواء تجاه أوربا أو بقية مناطق العالم، والتي لا يحيد عنها الرئيس، أكان ديمقراطيًا  أم جمهوريًا، إلا في بعض التفاصيل التي لا تمس خطها العام.

كان دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية قد استثار العداء الفرنسي الكامن حين قال إن “فرنسا لم تعد فرنسا!”، الأمر الذي استدعى جوابًا مباشرًا وسريعًا من مانويل فالس، رئيس الوزراء الفرنسي: “فرنسا هي فرنسا. وفرنسا قوية”. كان ذلك بمناسبة الحديث عن الهجمات الإرهابية التي  عرفتها فرنسا في مدينتي باريس ونيس خصوصًا. وربما ذلك ما جعل أول رسالة وجهها الرئيس الفرنسي لتهنئة الرئيس الأميركي المنتخب: “ما هو على المحك إنما هو السلام، ومكافحة الإرهاب، والوضع في الشرق الأوسط، والعلاقات الاقتصادية، والمحافظة على الكوكب الأرضي” تبدو وكأنها تنبيه يبقى على طابعه الدبلوماسي، شديد اللهجة. فهي على وجه الدقة الموضوعات التي كان ترامب يصرخ بمواقفه بصددها خلال حملته، والتي أعلن عبرها صراحة عن الانقلاب الذي يريد القيام به في مجالاتها، مثيرًا بذلك، إثر نجاحه، مخاوف الجميع، وفي مقدمتهم فرنسا.  ذلك أن هذه الأخيرة التي عانت من الإرهاب بسبب موقف حكومتها من النظام الأسدي ورئيسه وعلى الرغم من إضفائها الأولوية القصوى على ما أسمته الحرب ضد الإرهاب وضد داعش بوجه خاص غداة هجمات 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 بباريس، لا تبدو أنها سوف تقوم بأي تغيير في موقفها المبدئي إزاء النظام الأسدي الذي وضعته ولا تزال تضعه في سلة واحدة مع داعش.

لكن اليمين الفرنسي المتطرف الذي صفق كثيرًا على لسان زعيمته الحالية ماري لوبان لنجاح ترامب يأمل أن يكون هذا النجاح بشيرًا ممكنًا بوصوله إلى سدة الرئاسة الأولى في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. فطروحاته في العمق لا تختلف في قليل أو كثير عن طروحات ترامب ولاسيما حول موضوعات الهجرة والمهاجرين، وطرق مكافحة الإرهاب، والعلاقة مع نظم الاستبداد في العالم العربي. ولسوف يؤلف لو تحقق طموحه رأسًا أوربيًا لمثلث مرعب يضم بوتين في روسيا وترامب في أميركا! على أن ذلك وإن بقي واحدًا من بعض استيهامات وأوهام هذا اليمين الذي يتخذ من مخاوف الناس عتلة لصعوده، إلا أنه في الوقت نفسه احتمال سيكون من الخطأ الاستهانة به. فعناصره تتوافر في المشهد السياسي الفرنسي الحالي من خلال ضعف الاشتراكيين نتيجة إخفاقاتهم خلال السنوات الأربع الأخيرة لدى الرأي العام وتشرذم اليسار عمومًا من ناحية، وانقسامات اليمين التقليدي التي يمكن إن تفاقمت أن تودي به لصالح اليمين المتطرف، من ناحية أخرى.

قد يحول هذا العداء الفرنسي العريق الكامن لأميركا دون ذلك كله. ففرنسا، بخلاف بريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، هي الدولة الوحيدة التي لم تدخل  حربًا ضد الولايات المتحدة الأميركية، لكنها مع ذلك هي الوحيدة بين هذه الدول جميعًا وسواها من ناصبها العداء. ولعل الفرنسيين الذين سيجدون في ترامب تجسيدًا ماديًا للسبب الأساس، الحقيقي أو الخيالي، لعدائهم الذي لا يزال في الحقيقة لغزًا تاريخيًا، أن يتلافوا ما ذهب إليه الأميركيون فلا يتيحون  للتطرف أن يحقق مراميه.




المصدر