شاهد يروي: لـ هذا انقلب حافظ الأسد على رفاقه .. وما فعله بهم “لا يُصدق”


مروان حبش: عضو قيادة قطرية ِ وزير سوري أسبق  – سجين سابق

بعد حرب حزيران 1067 تم توافق بين الرئيس الأمريكي جونسون ورئيس وزراء الاتحاد السوفييتي كوسيغين في اجتماعهما بمدينة غلاسبو في الولايات المتحدة على صيغة قرار تقدم به وزير خارجية بريطلنيا جورج براون إلى مجلس الأمن وتمت الموافقة عليه بتاريخ 22تشرين الثاني 1967 وعرف بالقرار 242 .

رفضت القيادة السورية الاعتراف به . وفيما بعد ، ومن خلال رسالتين ، بزمنيين متتاليين ، وجهتهما اللجنة المركزية والحكومة السوفييتية لقيادة الحزب في سورية تمنتا فيهما من القيادة السورية إعادة النظر في موقفها من قرار مجلس الأمن والتعامل مع السفير يارنج ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لمناقشة إمكانية تطبيق هذا القرار مع الدول المعنية به ، وأكدت القيادة السورية على الأسباب التي أملت عليها رفض قرار مجلس الأمن .

وصل الحال ما بين القيادة بأكثرية أعضائها وعضو القيادة وزير الدفاع الفريق حافظ إلى مفترق طرق، نتيجة أسباب عديدة وجوهرية و تباين كبير في الرؤية نحو المستقبل، وفي أعقاب تصرف من الملازم أول رفعت أسد، وكان المذكور قد ارتكب عدة أعمال لا تليق ببعثي ، وخارجة عن وظيفته ، ونقلت إلى شقيقه وزير الدفاع الذي كان يعد بمنع أخيه عن تكرارها ولكن الوعود بقيت وعودا ، دفعت بالأمين العام للحزب رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي ، للمرة الثانية ،إلى تقديم استقالته من كل مناصبه الحزبية والحكومية ، وبعد أكثر من اجتماع للقيادة القومية للحزب ، تقرر دعوة المؤتمر القومي العاشر لدورة استثنائية في أوائل شهر تشرين الثاني 1970 لمعالجة الأزمة القائمة ، وبعد مناقشة التقرير المقدم من القيادة القومية توصل المؤتمر مساء 12/11/إلى قرارات عديدة ومن بينها تغيير قيادة الجيش.

بعد انتهاء المؤتمر من أعماله توجهت أنا والرفيق محمد سعيد طالب إلى منزل الأمين العام الدكتور نور الدين الأناسي للاطمئنان عن صحته , والتقينا عنده باللواء صلاح ، وبعد الحديث عما يمكن أن يتصرف به الفريق حافظ ، طلب الدكتور نور الدين مني ومن محمد سعيد طالب التعاون مع وزير الدفاع في حال قيامه بانقلاب وبرر طلبه بسببين ، أولهما ، أن الفريق حافظ يودنا ويمدحنا كثيرا ويرغب في التعاون معنا ، وثانيهما ، أننا بتعاوننا نستطيع حماية الرفاق البعثيين في الحزب مما يتوقع أن يحل بهم . ولم نشاطر الرفيق الأمين العام وجهة نظره ووافق اللواء صلاح على رأينا .

من اليمين:سفير بلغاريا في سورية- محمد سعيد طالب- مروان حبش- د. ابراهيم ماخوس- أحمد حمدوني(رئيس اتحاد الفلاحين في سورية) الصورة: 1969

كان السفير السوفييتي نور الدين محي الدينوف على موعد مع الأمين العام المساعد اللواء المتقاعد صلاح جديد صباح يوم 13/11 في مبنى القيادة القومية، وطلب السفير الاعتراف بالقرار 242 مقابل الضغط لإيقاف إجراءات الانقلاب الذي بدأ الفريق حافظ باتخاذها منذ قرار القيادة دعوة المؤتمر ، و تبلغ السفير بأن القيادة لا ترى أي مبرر للاعتراف بالقرار ، كما اعتذر الأمين العام المساعد عن قبول عرض السفير باستعداد الاتحاد السوفييتي لاستضافته والإقامة فيه .

بعد مغادرة السفير انتقل الأمين العام المساعد ، إلى منزل الدكتور يوسف زعين المجاور لمبنى القيادة وبعد دخوله بقليل ، فوجئ الحاضرون بدورية مسلحة تقتحم المنزل وتقذف الشتائم المهينة واقتادتهم إلى مبنى قيادة القوى الجوية ، وليلا اجتمع وزير الدفاع مع كل من يوسف زعين ومصطفى رستم على انفراد وحاول ، دون جدوى ، إقناعهم بالتعاون معه، وأن الأزمة بينه وبين اللواء صلاح ، وأطلقهما فجر 14 / 11 .

في ضحى يوم 14 ، أرسل الفريق حافظ عددا من ضباط القيادة للاجتماع مع الدكتور نور الدين في منزله في محاولة لإقناعه بأن اللواء صلاح هو سبب الأزمة ، وبأن الأمور ستبقى في الحزب والدولة على حالها ، وكان رده عليهم بضرورة إطلاق الموقوفين والالتزام بمقررات المؤتمر .

كان تجمعنا أنا ومحمد سعيد طالب مع الفريق حافظ ، إضافة إلى رفاقية الحزب وزمالة عضوية القيادة ،علاقة ود متبادل ، ونتيجة ذلك حاول الفريق حافظ في اليوم التالي الاجتماع معي ومع محمد سعيد طالب لمناقشة ما وصلت إليه الحال ، وإمكانية العمل معا ، ولظرف معين لم يتم اللقاء .

في مساء يوم 14 / 11 نقل الموقفون الثلاثة ، من مبنى قيادة القوى الجوية إلى سجن المزة العسكري ، و بعد 16 / 11 فرضت الإقامة الجبرية على الأمين العام للحزب والرقابة المباشرة على مدار الساعة ، على بقية أعضاء القيادة . وبعد أسبوع من ذلك اعتقل الدكتور نور الدين في سجن المزة . ، وفي فجر 21 / 12 اعتقل مروان حبش ومحمد رباح الطويل .

كان السفير الألماني الشرقي – قبل اعتقالي بحوالي عشرة أيام ، قد نقل إلى دعوة لزيارة ألمانيا الشرقية بصفتي رئيس جمعية الصداقة مع ألمانيا الديمقراطية ، واعتذرت عن تلبيتها في مثل هذا الظرف ، كما نقل الي أحد الرفاق يوم 14 / 12أنه تقرر اعتقالي ويتمنى علي الاختفاء ومغادرة القطر سراً _ لأن أعضاء القيادة منعوا من المغادرة بعد 16 / 11 وعممت أسماؤهم على مراكز الحدود– ولم أوافق على ذلك ، لأنني لا أ طيق اللجوء السياسي ، ولكنني لم أحسب أن اعتقالي سيطول قرابة ربع قرن .

وتتابعت اعتقالات أمناء وأعضاء قيادات الفرو ع والمحافظين الذي رفضوا التعاون مع الوضع الجديد ، وكذلك اعتقالات أعضاء القيادة ، باستثناء من استطاع منهم مغادرة القطر سراً ، الدكتور حبيب حداد عضو القيادة القطرية والدكتور عمار الراوي عضو القيادة القومية من العراق ، و كان أعضاء القيادة القومية ، مجلي نصراوين وحاكم الفايز وسلمان عبد الله والدكتور فؤاد شاكر ، وعلي بن عقيل قد انتقلوا قبل 16/11 إلى لبنان .

في شهر نيسان اختطف سلمان عبد الله من بيروت في فجر اليوم الذي كان سيغادر فيه لبنان الى العراق ، وأوثقوا يديه وربطوا عصابة على عينيه و كمموا فمه ، ونقلوه وهو على هذه الحالة إلى سورية ،عبر مخاضة في نهر العاصي قرب قرية ربلة ، لينتهي به المطاف في سجن المزة ،وفي يوم 6 /6/1971 اعتقل كل من الدكتور يوسف زعين وعبد الحميد مقداد ، وبتاريخ 22 / 6 تم اعتقال بقية أعضاء القيادة ، مصطفى رستم ، محمد سعيد طالب ، حديثي مراد ، أحمد الشيخ قاسم ، حمود القباني ، أنيس كنجو ، وكامل حسين عضو القيادة السابق وسفير سورية في فرنسا ، وكان قد اعتقل  أيضاً ، مجلي نصراوين الذي كان قد عاد إلى القطر في هذه الفترة ، كما اعتقل ضافي الجمعاني عضو القيادة القومية ، أمين سر التنظيم الأردني الفلسطيني الموحد ، ويوسف البرجي وحسن الخطيب من أعضاء القيادة القطرية للتنظيم الأردني الفلسطيني ، بسبب عدم قبولهم التعاون، وسجنوا في فرع التحقيق بالحلبوني ثم نقلوا الى سجن المزة كأمانة لصالح فرع الاستطلاع العسكري بدون أسماء ولم ترد أسماؤهم الى السجن الا بعد السماح بالزيارات ، إضافة إلى اعتقال العشرات من البعثيين الذين رفضوا العمل مع انقلاب 16/11 ، وفي شهر حزيران 1971 اختطف من لبنان حاكم الفايز بعد تخديره هو والدكتور فؤاد شاكر من قبل ماجد محسن الذي يقطن معهما نفس الشقة والمسؤول عن أمنهما ، بالتواطؤ مع شقيقه زهير محسن الذي كان الرئيس السادات قد لقبه بزهير العجمي في فترة الحرب الأهلية اللبنانية ، وظن الخاطفون أن الدكتور فؤاد قد فارق الحياة كما سمعوا تبادل إطلاق الرصاص في الشارع ، فاكتفوا بنقل الفايز إلى مقر الصاعقة في بيروت ، وهناك أعادوا تخديره ونقلوه في صندوق سيارة إلى سجن المزة في دمشق ، وفي لحظة نزول الخاطفين من المنزل في بيروت كان قد وصل عضو القيادة القومية مالك الأمين إلى المكان ، فأطلق عليه رئيس فريق الاختطاف الرصاص وبادله الأمين الإطلاق من مسدس كان يحمله وأرداه قتيلا ، والمقتول يدعى كمال كيال من مدينة اللاذقية ، كان طالبا في ألمانيا الغربية وفشل في دراسته وارتكب هناك بعض الجرائم أدت إلى سجنه ، وبعد انتهاء مدة عقوبته سفر إلى سورية ، ولمعرفته بوزير الداخلية محمد رباح الطويل تم استخدامه في بعض المهام لصالح الأمن .

ما يقارب ربع قرن في المعتقل … أمور لا تُصدق!

تم اعتقالنا في زنازين مفردة ، وحتى تاريخ حزيران 1971 ، كان يسمح لنا ، بما يعرف في أدبيات السجن بالتنفس وافرادياً ، 10 دقائق تبدأ بعد الساعة العاشرة والنصف ليلا وآخر المتنفسين قد يأتي دوره بعد الواحدة والنصف ، و10 دقائق ثانية تبدأ مع أذان الصبح . وحتما فان الخروج لقضاء الحاجة محدد بعد توزيع الطعام ، وانفراديا وبالتتالي ولوقت قصير جدا يجب فيه تنظيف الصحن البلاستيكي وقضاء الحاجة ، والخروج في غير هذه الأوقات يتطلب موافقة من رئيس الحرس الذي كان دوما يبخل بها ،وعديدون اضطروا للتبول في الصحن الذي يأكلون به .

بأمر من رئيس فريق التحقيق العميد ناجي جميل ، ألغيت فترة التنفس ، ومنع المعتقلون من النوم ليلاً ، إذ بعد انتهاء حفلات التعذيب الجسدي قرابة منتصف الليل وجميع المعتقلين الآخرين من غير أعضاء القيادة ، تبدأ حفلة ، وأرعب صدى تلك القرقعة والأصوات سكان حي المزة ، ويستمر ذلك حتى الساعة السادسة صباحاً . وهو موعد بدء الخدمات في السجن الذي يترافق مع الصراخ والشتم على المساجين العاديين من المجندين ومع صلصلة المفاتيح الكبيرة وفتح الأبواب وقرقعة براميل النفايات ، وتوزيع طعام الإفطار المكون من رغيف خبز فوقه عدد من حبات الزيتون أو ملعقة من اللبن المصفى أو المربى أو بيضة مسلوقة ، ومغرفة من الشاي في صحن البلاستيك الذي يستعمل لكل الحاجات ، يفتح باب الزنزانة ، وقت توزيع وجبة الطعام ،مرتين ، الأولى لوضع الصحن وبعد أن يتم توزيع الطعام على صحون جميع المعتقلين ، يعود السجان ويفتح الباب ثانية ليأخذ المعتقل ما بقي مما تم الجود به من الطعام – بعد أن تكون الجراذين قد هاجمته والتهمت ما يحلو لها منه – والسجان يدفع بالطعام ب ليقربه من حافة باب الزنزانة ، وبعد أن طرأ بعض التحسن على ظروف الاعتقال ، استفسرنا من بعضهم عن سبب دفع الطعام بالأحذية ، أجبنا بأنها تعليمات من رئيس لجنة التحقيق . دامت حالة الحرمان من النوم حوالي العشرة أيام ، رافقتها أعمال التعذيب والإهانات اللفظية ، وكما ذكرت ، كان العميد ناجي جميل يبدع في هذه الأساليب ، بدءا من إبلاغ السجانين بأن المعتقلين جواسيس لاسرائيل لتفادي التحدث إليهم ومرورا بثقافته الشتائمية العالية وخلع شالوخه ليضرب المعتقل وكثيرا ما كان يحلو له الضرب على الرؤوس بالطرف الحاد للمسطرة ، وهذه إشارة لينهال أعضاء فريق التحقيق ،ناجي جميل ، حكمت الشهابي ، عدنان دباغ ، علي دوبا ، علي المدني ، محمد الخولي، وخاصة بأيديهم وأرجلهم على جسد الماثل أمامهم ولا يسلم رأسه ووجهه من اللكمات وخاصة فيما يعرف بضربة المغاوير ، وهي ضربة خلف الأذن تؤدي إلى اختلال التوازن ، قبل الإيعاز بتحويله إلى المستودع ، وكلمة المستودع في أدب سجن المزة تعني والجلد بالسياط على كل نواحي الجسد ، دون استثناء ، و بعد أن ترتوي مؤقتا سادية الآمر بالجلد يصدر إيعازا بالتوقف ،.

استمرت أفواج المعتقلين ، بين فترة وأخرى ،ترفد سجن المزة ، ومع ورود كل فوج تبدأ حفلات تعذيب أعضائه وتعود أصوات وأنين المعذبين لتطرق مسامعنا ، وأيضا ، كانت مشاهدتنا لتنفيذ الإعدام ببعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم في إحدى ردهات السجن ، عودة لمرحلة جديدة من عذابنا النفسي ، إضافة إلى الحرمان من النوم ، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى بداية عقد الثمانينات إذ نقل التحقيق إلى مكان آخر .

باستثناء ثلاثة من أعضاء القيادة وضعوا في غرفة مغلقة ، بقي الآخرون في زنازين مفردة برفقة أسراب النمل وجحافل الصراصير والنور المستمر المسلط على الوجه للمصباح الكهربائي ، لمدد تتراوح بين الستة أشهر والعام والنصف ، وعادت مدة كما كانت ، باستثناء المجتمعين إذ منحوا وقتا أطول بقليل ، وحرم المعتقلون من زيارة أهاليهم لهم لمدة عام ونيف ، كما حرموا من كل حقوق المعتقل السياسي ، ومن الصحف المحلية وجهاز الراديو لمدة قاربت السنوات الثلاث ، ولما طالب البعض بكتب للمطالعة _ وهي متوفرة في مكتبة السجن – تفتقت عبقرية ناجي جميل وأمر بشراء أجزاء من: تغريبة بني هلال وقصة الملك الظاهر بيبرس وقصة الزير سالم لتثقيف أعضاء القيادة بها. ودام الأمر هذا ، عدة أشهر ، قبل أن يسمح لنا بقراءة كتب من المكتبة ، ولكن الكتب من الخارج فلم يسمح بإدخالها إلا بعد عدة سنوات ، وحسب مزاج مدير السجن .

بعد انقضاء فترة السجن الانفرادي تم جمع كل ثلاثة أو أربعة في موقع بالسجن يعرف بالغرف ، باستثناء الدكتور نور الدين واللواء صلاح اللذان كانا في نفس الموقع ولكن كل منهما بقي في غرفة لوحده ، وبقينا هكذا إلى ربيع 1974 إذ طرأ بعض التحسن على ظروف الاعتقال ففتحت أبواب الغرف وأصبحنا نجتمع مع بعضنا كما أصبح باستطاعة الواحد منا قضاء حاجته حين يريد .

إن الغرف مختلفة المساحة ، وتتراوح مساحاتها ما بين 12 مترا مربعا وال6 أمتار مربعة ، وارتفاعها 2،5 مترا وتفتح أبوابها على موزع لا يتجاوز عرضه 75 سم ، وباستثناء واحدة لها نافذتان صغيرتان وعاليتان فالغرف الأربعة الأخرى لكل منها نافذة واحدة صغيرة وعالية ، وإحدى تلك الغرف لا تصلح للسكن إطلاقا وحشرنا أنفسنا في الغرف الأخرى ، وحولنا تلك الغرفة إلى مطبخ ، (وقلت للسكن لأن إقامتنا في ذلك امتدت قرابة ربع قرن ، وكنا نمزح بأن من حقنا طلب فروغ – بعد أن درجت عادة الفروغ – إذا ما تسنى لنا الخروج أحياء ) .

مروان حبش .. التقطت الصورة عام 1984 في سجن المزة العسكري- الكاميرا مهربة.

أثناء حرب تشرين 1973 ، كان الحراس يهرعون إلى الملاجئ كلما سمعوا صفارة الانذار، بينما بقينا نحن دون أية حماية ، ولقد سقطت عدة قنابل بالقرب من السجن وأدت الى اهتزازه بقوة ، وخاصة في الطابق العلوي ،مكان اعتقالنا .

كنا نطالب مرارا بتبديل مكان اعتقالنا ، الحار جدا في الصيف ، وخاصة أن مدخنة قازان الحمام التي يتجاوز قطرها 30 سم وهي مصنوعة من صاج سماكته 3 مم ، تخرج من الموزع الذي تطل عليه أبواب الغرف ، وحين يشعل الحمام بعد ظهر أغلب أيام الأسبوع ولساعات عديدة يتحول أنبوب المدخنة إلى جمر ينفث حرارته علينا ، ناهيك عن توجه الموقع ، إذ لا يساعد أبدا على دخول تيارات الهواء إلى الغرف ، وكنا نعيش حقا في مكان لا يصلح كزريبة ، وكنا ننتظر بفارغ الصبر وقت التنفس لنخرج إلى الباحة ، ووقتها نشعر بالفارق الكبير ما بين الداخل والخارج ، أما في افصل الشتاء فكان لنا نصيب من الأمطار الهاطلة فوق السطح وتتسلل عبر شقوقه إلى الأسرة ، ووجدنا وسيلة لتلافيها بشد خيم من مشمع النايلون فوق أسرتنا للحماية ، ولكن ثمن ذلك كان الحرمان من النوم نتيجة صوت الدلف وقت ملامستها للمشمع، وغالبا ما كانت تنهار االخيمة بعد أن تتجمع عليها كمية من المطر تعجز الأربطة عن تحمله وتكون النتيجة ما تجمع دفعة واحدة فوق سرير . وبقينا على هذه الحالة لمدة تزيد عن ال 15 عاما ، إلى أن تم إصلاح السطح . وكانت الذريعة في تأخر الاصلاح هي أن السجن سيتحول الى ثكنة للحرس الجمهوري لحماية القصر المجاور له – قصر الشعب – وقت الانتهاء من الأعمال فيه وشغله من قبل مؤسسة الرئاسة ، وترافق ذلك مع نقل المعتقلين السياسيين الى سجن صيد نايا ، وأبلغنا نحن أيضا ، الاستعداد للرحيل ، وفي آخر لحظة ، نقل الينا مدير السجن ، أمر بقاء السجن معتقلا ، وبقائنا فيه ، ووقتها لم يكن قد بقي فيه من المعتقلين السياسيين سوانا وسوى عدد آخر لا يتجاوز العشرة . ، كما نقل الينا أن الأوامر عنده هي البدء فورا بالاصلاحات الضررية .في هذه الظروف القاسية ، ورغم تكرار الطلب ، لم يسمح لنا _ ومن حسابنا الخاص – باقتناء مراوح أو براد صغير أو جهاز تلفزيون ،

كان على مراقب الزيارة أن يكتب تقريرا مفصلا عن كل ما يتم تداوله في زيارات أعضاء القيادة ، وينقل التقرير إلى أعلى الجهات المسؤولة ، وبعد انقضاء أكثر من عقد على اعتقالنا . وكنا يومها أكثر من قضى مدة من الاعتقال السياسي في تاريخ سورية ، كانت التقارير تسجل تراكم مشاكل أسر المعتقلين ، و شب ، أيضا ، أطفال المعتقلين و من كان عمره 10 سنوات أصبح في العشرين من العمر ، ومنهم ابنة الدكتور يوسف زعين التي طلبت من والدها في احدى الزيارات عام 1980 أن يأذن لها بعقد قرانها ، وتمنت لو كان باستطاعته مشاركتها تلك المناسبة ، وسجل المراقب في تقريره ما سمع ، ومن ناحية ثانية أصبح النظام محرجا ، أمام بعض قادة الدول والسياسيين العرب والأجانب الذين تربطهم معه علاقات ود وصداقة ، وكان هؤلاء قد تمنوا ، ولأكثر من مرة ،على المسؤولين إطلاقنا ، وكوسيلة لتخفيف تلك المطالبة وردت فكرة إمكانية نقل مكان الاعتقال، انفراديا ، ولعدة أسابيع أو أكثر، إلى استراحة القصور

كان الدكتور يوسف، ، أول من تم تبليغه ، إذا كان يرغب في ذلك ، ولم تتجاوز إقامته فيها العشرين يوما وبعد عودته إلى سجن المزة العسكري ، جاء رئيس الحرس لا بلاغ الدكتور نور الدين تهيئة نفسه للنزول إلى الاستراحة ، وشجعناه على ذلك لسببين : الأول ،أن سوء حالته الصحية تقتضي تغيير أجواء السجن ، والثاني : محاولة معرفة النوايا تجاهنا ، لأن ما كنا نتساءل عنه بين بعضنا ، ليس السبب في اعتقالنا ، بل إلى متى سيدوم هذا الاعتقال ؟ وبقي الدكتور في الاستراحة لمدة تقارب الستة أشهر ، وأثنا ء تلك الفترة تسربت أخبار نشرتها بعض الصحف في الخليج عن اتخاذ قرار بإطلاقنا في وقت قريب ،ورافقتها شائعات حول مشاركتنا في السلطة .

عاد الدكتور نور الدين ، أيضا ، إلى سجن المزة ، وبعده وافق عدد من أعضاء القيادة النزول إلى الاستراحة ، وكان النزول ، كما نوهت ، إفراديا، وبالتتالي ، وتراوحت مدة الإقامة لكل واحد ، ما بين ال15 يوما وال 45 يوما ، وفي العام 1982 سئلنا فيما إذا كان أحد منا يرغب النزول ، ورغب عدد قليل جدا في ذلك ، و لم نسأل بعد هذا التاريخ ، وأصبح على من يرغب في ذلك أن يتوجه بطلب خطي ، وكنا نشجع الرفاق المعتقلين من أعضاء القيادة من خارج القطر ، وخاصة العراقيين ، على ذلك ، لأن أسرهم تأتي كل عامين مرة لزيارتهم .

كانت المعاملة في الاستراحة حسنة ، والمعتقل فيها يسمى ، أما إذا سأل أحد المارة عن سبب كثرة الحراس، فكان الحرس يجيبه ، إذا قبل الإجابة ، بأن في الاستراحة موقوفا من المحالين إلى لجنة الكسب غير المشروع ، وطبعا ، دون ذكر الاسم ؛ لقد سبب النزول إلى الاستراحة إزعاجا لسكان الشارع ؛ إذ تم إحصاء أسماء الأسر القاطنة في المنازل المطلة عليها وتدقيق هوياتهم ، ومما لفت انتباه الذين نزلوا إلى الاستراحة ، دهشة الضباط المسؤولين عن الحراسة ، حين علموا أنه ، لا يملك أي واحد من أعضاء القيادة المعتقلين سيارة ، ولم يكن تحت تصرفه قبل الاعتقال إلا سيارة واحدة فقط ،وكذلك لا يملك أي واحد منهم منزلا لسكنه ، باستثناء من اشترى منزلا بعد أن استلم سلفة سكن من صندوق السكن العسكري ، أو من صندوق السكن في نقابته ، وعددهم لا يتجاوز الخمسة ، وكانت تزداد دهشتهم حين علموا أن الجميع كانوا يدفعون أجرة مساكنهم من رواتبهم ، وكان راتب عضو القيادة ، هو نفس راتبه في وظيفته ، ومن لم يكن موظفا يحدد راتبه على أساس شهادته مع إضافة سنوات حصوله عليها ، وبقي الحال هكذا ، إلى منتصف العام 1969 إذ حددت القيادة راتب رئيس الدولة ب 1500 ل س وراتب كل عضو من أعضائها بما يساوي راتب الوزير البعثي ، أي 1000 ل س ويتضمن الراتب أجرة السكن للجميع ، بمن فيهم رئيس الدولة الذي لم يقبل السكن في قصر الروضة أو في منزل على حساب الدولة ، علما أن راتب الوزير غير البعثي كان 1600 ل س تقريبا ، وراتب رئيس الدولة 2500 ل س ، والواجب يحتم أن أذكر بأن عضو القيادة فوزي رضا اعتذر عن استلام أي تعويض من صندوق الحزب موضحا أن دخله من الصيدلية التي يملكها في مدينته دير الزور يكفي لتسديد نفقات اقامته في دمشق .

كانت العودة من الاستراحة إلى السجن ، تولد أسى كبيرا في نفوس أهالي المعتقل ، وخاصة أولاده الذين تركهم أطفالا ، وتعودوا خلال هذه المدة القصيرة على آبائهم وشملوا برعايتهم ، وفجأة يختطفون من جديد ويبعدون عنهم ، ويعودون ثانية إلى الزيارة الشهرية والى المعاناة التي يلاقونها للحصول على بطاقة الزيارة والوصول إلى السجن .

إن معاملتنا في السجن كأعضاء قيادة ، كانت أفضل من المعاملة التي يتعامل بها المعتقلون السياسيون الآخرون ، ولكنها كانت أدنى بكثير من معاملة المعتقل السياسي المتعارف عليها ، ولا تملك شرطا من شروطها ، وكنا نحسد السجين الجنائي ، لأن الظروف التي يعيشها في السجن العادي أفضل من ظروف اعتقالنا .

بعد أن أصيب البعض من المعتقلين بمرض عضال وأكدت التقارير الطبية ، بما يشبه اليقين ، أن حياتهم لن تطول ، تم الإفراج عنهم ، وفارقوا الحياة بعد أشهر قليلة من إطلاقهم ، كما أن العناية الطبية لم تكن بالمستوى المطلوب ، و قلة العناية تلك أدت إلى وفاة اللواء صلاح وهو معتقلا – ونتيجة ذلك ، إضافة إلى أسباب أخرى ، اتخذ قرار الإفراج عنا ، وكما اعتقلنا على دفعات ، فقد تم إطلاقنا ، أيضا ، على دفعات .

في العام 1995 زارتني فيرجينيا . ن . شيري ، وسألتني عن مشاعري في المعتقل فأجبتها : الأمس مضى بسرعة ، واليوم طويل جدا ، والغد بعيد جدا ، والرتابة القاتلة هي الصفة الجامعة ، وأتممت بما أجاب به غلامه حين سأله متى سيفرج عنا ؟، وكان ابن شمس الدولة سلطان همذان قد سجنهما في قلعة فردجان لعدة أشهر ( يقيني في الدخول كما تراه وكل الشك في أمر الخروج).

وتابعت : المعتقل ، في ظروف اعتقالنا ، يعني أنه لا يستطيع رؤية السماء حينما يريد .

لم نكن نعرف لبقائنا أمدا ، ولا لعودتنا للحرية موعدا ، كانت أعمارنا ترحل ، وترحل معها أحلامنا .

كان المو ت والحياة يتراقصان خلف قضبان المعتقل ، وكما يرحل النور نحو الليل كان العمر يرحل نحو الموت .

كانت الحياة تغادرنا في صمت والموت يمد يده ليقطف من يريد ، وبعد 23 عاما من الاعتقال ، وقبل أيام من خطف يد المنون له بتاريخ 19/8/1993 ” ، وجه اللواء صلاح جديد من معتقله رسالة الى ابنته الصغرى ” التي ولدت بعد أشهر من اعتقاله “، كتبها على الصفحة الأولى من رواية لدستويفسكي ، لكي لا تكتشفها أعين الرقيب وهذه الرسالة خير تعبير عن مشاعرنا وعن المحنة التي نعانيها ، اذ ورد فيها :

( الى أحب الناس الي …وأعز ما في الوجود …الى ابنتي الحبيبة وفاء …

ذكرى آلام وأيام صعبة نمر بها …لعلنا نجد ترجيعها وأصداءها في هذه الرواية .وكلي أمل أن يكون في وسعنا مستقبلا ترديد ما جاء في نهايتها :

– فانيا ، فانيا ، كان هذا كله حلما أليس كذلك ؟

– ما الذي كان حلما ؟

– كل شيء ، كل شيء ، كل شيء حدث هذه السنة يا فانيا ، لماذا – أنا – هدمت سعادتك ؟ وقرأت في عينيها :” كان يمكن أن نسعد معا الى الأبد “

– وفاء …يا و …ف …ا …ء هل تسمعينني ؟ أنا متفهم تماما لوضعك ومشاعرك ومدرك بعمق للظروف التي أحاطت بك سابقا وتحيط بك الآن …أنا معك …معك يا وفاء …وستجدينني دائما الى جانبك ، ولن أتخلى لحظة عنك …فهل تفهمينني أنت يا وفاء كأب وقبل ذلك كصديق …هل أنت مدركة أبعاد المأ … التي أعيشها الآن …؟ لا أدري يا حبيبتي …قد نلتقي يوما ما بدون رقابة وبدون سجن فنتحدث …ونتحدث طويلا …ولكن هذا حلم …حلم بعيد قد لا يتحقق أبدا …اذن فليس لي الآن الا الصمت ، والأحلام والصمود …على طريق الرسالة التي نذرت نفسي لها …وسأموت من أجلها …فهل سنلتقي يا وفاء … على هذه الطريق …؟

7/8/1993 أبوك…صلاح

توفي اللواء صلاح جديد ـ الذي لم يكن يعاني الا من الروماتيزم في المفاصل وبعض الالتهابات المزمنة في المعدة والكولون ـ في المعتقل ، ليلة الأربعاء / الخميس 11/12 / آب 1993 ، بعد حوالي 12 ساعة فقط من شعوره بتوعك في صحته ، نقل بعد ست ساعات من المعتقل الى مستشفى المزة العسكري ، ولم يلق هناك أية رعاية أو اهتمام ، ولما ازداد وضعه سوءا تقرر نقله (النقل يحتاج الىموافقة من أعلى مسؤول في السلطة ) حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الى مستشفى تشرين العسكري ، ولما وصل بعض الأطباء المخنصين في حوالي الساعة الثالثة صباحا كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وصدر عن ادارة المستشفى تقرير حدد أسباب الوفاة ب : وهط دوراني أدى الى قصور كلوي وهذا أدى الى انتان في الدم .

ورغم كل ذلك، كان الأمل المتجدد في كل يوم هو أن نخرج من بين جد ران المعتقل ، وبعد إطلاقنا منذ عدة سنوات ، فإننا لا نزال نعيش ظروفه ، إذ لم نعامل حتى الآن كمواطنين ، وما زالت الممنوعات مفروضة علينا ، ممنوع من جواز السفر – ممنوع من مغادرة القطر ….الخ .

 المقال في الحوار الديمقراطي بعنوان “ما يقارب ربع قرن في المعتقل”