في نقد جوزيف مسعد: هل يمكن للآخر أن يتكلم؟

لطالما كان نقد نقد فكر الاستشراق موضوعاً غير رائجٍ للنقاش في العالم العربي، ولطالما لُمِز نقاد نقد الاستشراق الإدوارد سعيديّ بأنهم مستشرقون أو كارهون لذواتِهم، أو تم وصفُهم بالفكرة الاستشراقية الأساسية القائلة بأن أفكارهم أوروبية المركز، عدا قلة منهم ممن استطاعوا النجاة، مثل مهدي عامل الذي لم يترك باباً لنقده على عكس غيره، وإن كان طبقاً لنقد الاستشراق بنظرته الواسعة، يتسلح بمعرفةٍ أوروبية المركز بحكم ماركسيته.

وهذا ما يقول به جوزيف مسعد، الأستاذ في جامعة كولومبيا وأحد تلاميذ إدوارد سعيد. يهتم مسعد بموضوعات ما بعد-الكولونيالية والاستشراق وما بعده، وأهم كتبه في هذه المجالات، اشتهاء العرب، والإسلام في الليبرالية الصادر باللغة الإنكليزية والمترجم حديثاً، وهو يُعتبر أحد أهم ما بعد-الكولونياليين العرب في أيامنا.

تبدو أفكار مسعد رائجة عند بعض اليساريين والإسلاميين، وعند بعض ما بعد-البنيويين، بحكم حدته وصرامته النقدية تجاه الغرب ومعرفته المُصَدَّرة لنا. ففي كتابه اشتهاء العرب يرتكز مسعد على فكرة التغلغل الإمبريالي في الذات الشرقية، بعد أن يفصِل بين الغرب ونقيضه الشرقي بشكل عائم ومتوسع يحدده أحياناً بالفعل الإمبريالي. حيث يرى أن الغرب يؤثر على غير الغربي بأنماط مختلفة من الهيمنة الإبستيمية، منها مسائل الجنسانية، فيبدأ بنقد هذه الهيمنة من تفكيك المصطلحات القَبْلية التي بُنيت عليها المسألة الجنسانية مثل: جنسانية، حضارة، تقدم، نهضة، انحطاط، بصفتها مصطلحات مستوردة، ليتوسع فيها بعد ذلك في كتابه.

أما في كتابه الآخر الإسلام في الليبرالية، يناقش مسعد كيف صاغت الليبرالية منذ أواخر القرن الثامن عشر صورةً للإسلام لا تجعله فقط «آخراً» لها من خلال تقديمه بصورة أخروية، وإنما كونت حداً مضاداً لكل ما يجب أن تكون عليه هي ذاتها، بحيث تكون نقيضَ الإسلام، وليس فقط آخراً له.

إن أطروحة مسعد كما تصفها لمى أبو عودة، التي كانت قد نقدت اشتهاء العرب، بسيطةٌ، بل وموغلة في البساطة، وهي كذلك تعتمد على مسلّمات محددة مبنية على أفكار تتعلق بالاستشراق ومفاهيم الهوية والتطور الرأسمالي وثنائية الخطاب/المعرفة.

وهنا يكمن سؤالٌ مهم: هل كان من الممكن أن تكون نظريات مسعد دون أن توجد نظريات سعيد؟ هل يلتقيان في الأسس؟ هل يفترقان بعد ذلك؟

 

جوزيف مسعد والاستشراق الكلاسيكي

يبني مسعد أطروحته على أسسٍ سعيدية فيما يتعلق بفكرة أوروبا والغرب، وعلى منهجٍ متأثرٍ بفوكو وريموند ويليامز وإيريك أورباخ. وبما أن مسعد ينطلق من نقد الاستشراق ليؤسس أطروحته، فإن ما ينطبق على نقد نقد الاستشراق الخاص بسعيد، ينطبق على مسعد أيضاً.

ومن أهم هذه الأسس التي لا بد من التطرق لها هي مسألةُ المنهج الفوكويّ، الذي استطاع إدوارد سعيد من خلاله سحب نظرياته المعرفية إلى ما قبل المرحلة الرأسمالية. وقبل ذلك مسائل التمثيل النيتشوي، التي قاربها إدوارد سعيد حول مسألة مكانية الاتصال الحضاري.

 ورغم أن هذا الاعتماد النظري على الأطروحة الفوكوية لدى إدوارد سعيد، الذي يعتبره أبرز نقاد سعيد، الناقدُ الماركسي ذو الأصول الباكستانية إعجاز أحمد، توسلاً بفوكو، موجودٌ في النقودات الأولى لأطروحة سعيد، إلا أن مسعد يبني هو الآخر أطروحته عليه، حتى بعد صدور الاستشراق بأربعين عاماً.

فإدوارد سعيد، الذي شرح استعانته بفوكو في كتاب الاستشراق قائلاً: «لقد وجدتُ أن من المفيد هنا أن أستخدم في تحديد الاستشراق مفهوم الخطاب عند ميشيل فوكو، كما وصفه في حفريات المعرفة وفي المراقبة والمعاقبة. فما أراه هو أننا ما لم نتفحص الاستشراق بوصفه خطاباً، فلن يكون في وسعنا أن نفهم ذلك الفرع المنظم أشد التنظيم، والذي استطاعت الثقافة الأوروبية من خلاله أن تتدبر الشرق، بل وأن تنتجه»1 إدوارد سعيد، الاستشراق، مطبعة نيويورك، صفحة 3..

من هذا المنطق ينطلق جوزيف مسعد، على الرغم من النقاش الدائر بين نُقّاد سعيد حول مدى إساءته استخدام فوكو، وعجزه عن توظيف النقد الفوكوي بشكلٍ سليم ومُحكم. فجيمس كليفورد، الذي يعدُّ من أول من أشاروا إلى هذه النقطة، وأشادَ به سعيد ذاته في كتابه الأنسنية والنقد الديموقراطي، كان يتساءل عن كيفية استخدام سعيد نصوص فوكو، خاصةً في هذين الكتابين المشار إليهما في الاقتباس السابق. فمثلاً، في هذين الكتابين، يناقض فوكو نفسه فيما يخص الصياغات، ولا يبدو أن سعيد يلاحظ ذلك. في حفريات المعرفة يجعل فوكو كل إرادةٍ بشريةٍ واقعةً في مجال بنية الخطاب، بينما يناقش في المراقبة والمعاقبة تاريخاً تفاوضياً يُداول بين الخطاب واللاخطاب. ويستمر انحراف سعيد عن فوكو في استخدام فكرة الخطاب ذاتها، فإدوارد سعيد، الذي يقول بإعادة الاستشراق في شكله الخطابي إلى إسخيليوس واليونان القديمة، إنما يتعارض مع الخطاب الفوكوي ويحمّله أكثر مما يحتمل.

يشير إعجاز أحمد إلى ذلك في كتابه، ويقول إن فوكو لم يستعمل مفردة الخطاب لما هو سابق للقرن السادس عشر، فالخطاب يتطلب عقلانية مرتبطة بما يسميه إعجاز أحمد التشابكَ في العلاقة المؤسساتية للإحكام السلطويّ المتزايد في الدولة الحديثة2إعجاز أحمد، الاستشراق وما بعده، دار ورد، ترجمة ثائر ديب، ص33.. والنقاش هنا عن تتبع سعيد لتاريخ الفكرة الاستشراقية وسحبها عنوةً إلى اليونان القديمة، لا ينطوي على إشكالات منهجية فقط، بل على إشكالٍ في المسألة التأريخية لهذا الانتماء اليوناني للغرب أيضاً.

لا يناقش سمير أمين في كتابه عن المركزية الأوروبية عدم صحة هذه الفكرة حول الانتماء اليوناني للغرب، وإن كان يفصّل في مسألة علاقة اليونانيين بالمصريين القدماء، بل إنه يقول بحداثة هذه الفكرة التي لم تأتِ إلا بعد أن تشكل ما يسميه بالوعي الرأسمالي الغربي، وأن هذه الفكرة ذات جذرٍ عاطفي نتج عن حساسيّة البرجوازيات الأوروبية من المسيحية، ما أدى إلى بحثها بعد ذلك عن بديلٍ له طابع عقلاني أكثر3Samir Amin, Eurocentrism, Monthly review press.

وينكر مسعد هذا الادعاء (أي تتبع الاستشراق لليونان القديمة) في مقابلة معه في صحيفة الاتحاد الإماراتية، ويدعي أن سعيد يقول بحداثة الاستشراق، رغم ثبات هذه الفكرة عند كل نُقّاد سعيد. وفي الواقع، تُتخذ هذه النقطة كبداية لمهاجمة أطروحة سعيد في أغلب كتب نُقّاده كما أسلفت. لكنه لا ينكر ذاك الإنكار الإبستيمي المُعمم على كل ما هو غربُي المعرفة، وإن كان بحسب أطروحة إدوارد سعيد لا شيء بالأساس خارج محيط هذا الإبستيم الغربي، فهو إن ارتكز على الخطاب الفوكوي أو على مبدأ الهوية والاختلاف لدى دريدا، سيبقى محكوماً بحيزٍ لا ينتهي من ظلال الإبستيم الغربي، واللوغوس المتعدي والمتجاوز في التاريخ حتى اليونان القديمة، فتنعدم إمكانية وجود أي حركة فكرية مقاوِمة لهذه الهيمنة الإبستيمية. وإذ انبرت الماركسية لهذا الدور منذ نشأتها، إلا أنها أُعيدت إلى فلك ذلك الإبستيم، فلا تستطيع منه فِراراً.

إدوارد سعيد

إدوارد سعيد

وهذا إنما يجئ من اتكاء نقد الاستشراق على أفكار فريدريك نيتشه حول استحالة أن يكون هناك تمثيل حقيقي، بحكم بدهيّة تشويه الوقائع في الاتصال البشري على هيئته الخطابية لا الشخصية. فالحقائق لدى نيتشه «ليست سوى أوهام نسي المرء أنها كذلك». ولأنه ليس هناك قيمة للتجربة في مقابل اللغة، فنحن إذاً محكومون بسجن الإبستيم الغربي وبالخطاب الاستشراقي.

كل هذا مسلّمٌ به لدى مسعد هو الآخر، لا ينقده ولا ينقلب عليه. إذ يقول إنه مهما كان الشخص يعادي الإمبرياليات الغربية سياسياً، فهو متواطئٌ معها معرفياً إن تبنى الإبستيم الخاص بها، والذي هو في كل مكان. ومن هؤلاء القوميون والمثليون مثلاً، فيقول في أحد لقاءاته عن بعض المثليين العرب: «إنّهم يعادون إسرائيل والعدوانَ الصهيونيّ ضدّ فلسطين والفلسطينيين، وهذه حقائق تؤيدها التصريحات الرسميّة لمنظّماتهم وأدبيّاتهم. إلا أن ما أتحدّث عنه هنا هو تواطؤٌ على المستوى الإبستمولوجيّ والأنطولوجيّ، حيث تبدأ تلك المجموعات بفهم نفسها عبر إبستمولوجيا وأنطولوجيا غربيّة معولمة تُنشَر عبر القنوات الإمبرياليّة»4مقابلة مع جوزيف مسعد لصالح مركز نماء بعنوان: إمبراطوريّة الجنسانيّة… حوار مع جوزيف مسعد..

فكل ما هو ذو أصول إبستيمية غربية متواطئٌ مع الإمبريالية، وإن عاداها حقاً، وهذا تسليمٌ إشكالي من مسعد. فهو أولاً ينطبق عليه شخصياً، لأن النقودات الموجهة حول منهج فوكو وتأثره باللاهوت المسيحي (يمكن العودة لأطروحات نيجري وهارت في مسائل السياسة الحيوية وما بعد-الحداثة، ونقدهم لفوكو بهذا الصدد وبما يتعلق بالحوكمة) وعلاقته بالمركزية الغربية، لا تخفى على من يهتم بموضوعات ما بعد-الحداثة، وبالتالي فإن مسعد ينطلق من الإبستيم الغربي نفسه الذي ينطلق منه من ينتقدهم.

يفعلُ مسعد كما فعل سعيد في نقده، يقفُ في موقفٍ يُجوهر الغرب ويعمّمه. وليس ذلك فقط، بل ينسى أنه ينتمي معرفياً لذلك الغرب من خلال الوسائل وأدوات التحليل.

ومما تجدر الإشارة إليه، رأي مسعد في مسألة الاستشراق المعكوس الخاصة بصادق العظم. فمسعد يرفض أطروحة العظم، أولاً: لكونها تدعي تماثل الاستغراب والاستشراق وهذا ما لا يصحّ عند مسعد، فهو يرى أن خطاب الاستشراق خطاب سلطة بينما خطاب الاستغراب لا يمثل ذلك، ولا تجوز مساواة الخطاب الاستعماري بخطاب المستعمَر. وهذا النقد حول السلطة في بنية الخطاب الاستشراقي، والذي يعود لطلال أسد بالأساس، هو وإن صحّ، إلا أنه يُغفل التماثل الإبستيمي بين الحالتين. ثانياً: لأنه يردّ هذا التماثل الإبستيمي لصالحه، فيدّعي أن الاستغراب هو الاستشراق ذاته، فهو وإن صنع مفهوماً معيناً وهويةً للآخر طبقاً لمنهجٍ دريدويّ، فإنه بالضرورة يصنع نظيراً مقابلا للذات، عند الذات نفسها وعند الآخر.

بهذا الخطاب الذي يؤسس لموقف حرِج، يقع مسعد في موقف يعتبر فيه الكولونيالية الفاعل الوحيد في التاريخ، على الأقل في بنية الخطاب ذاته. فيُصبح المستعمَر يعبّر عن ذاته من خلال هذا الخطاب الاستعماري غربي المركزية. نستطيع رؤية هذا بوضوح في النقودات الموجهة لدراسات التابع 5Subaltern studies، وكيف يدور أهم مفكريها في فلك من يحاولون مقاومته. وبالإمكان العودة إلى نقودات حميد دباشي مثلاً لغياتاري سبيفاك حول مسائل «الساتي»6الساتي هو الطقس الهندوسي القديم الذي تُلقي فيه المرأة بنفسها في محرقة زوجها المتوفى أثناء تشييعه، وشَغل موضوع الساتي العديد من المنظّرين ما بعد-الكولونياليين، ومنهم سبيفاك التي خصصت لذلك جزءً في كتابها هل يمكن للتابع أن يتكلم؟ الهندية بخصوص هذا الشأن. فهي وإن نظّرت لمسألة ما يسميه مسعد وغيره «المُخبِر المحلّي» الذي يحمل صفات معينة تخوله لعبَ دورٍ أشبه بالوسيط مع المستعمِر، إلا أنها سقطت في فخّ أسماه دباشي بـ «مترجم الاستعمار»7بالإمكان العودة إلى كتاب حميد دباشي، ما بعد الاستشراق، المترجم عن دار المتوسط..

دراسة التابع حالها هنا حال الاستشراق المعكوس (إن وُجد)، عل الأقل إبستيمياً، فكلاهما ينطلقان من الكولونيالية كبنية، وبالتالي يدور كلاهما في الفُلك نفسه، ليصبح خطاب المستعمَر وخطاب المستعمِر واحداً. وهذا ما كان انتقده سعيد نفسه حين قال في إعادة قراءته للاستشراق: «إذا كان التابع يتشكل كمحاولةِ تَمرد على محيطه كما كانت الكتابات النِّسوية الأولى تَرمُز بالأساس إلى مجرد فرصة أو حيز للمرأة تنفصل فيه عن محيطٍها الذكوري، فإنها (أي دراسات التابع) معرّضة لخطر أن تكتفي بكونها مرآة معاكسة للطغيان الذي تُعنى بمحاربته»8 Selected Subaltern Studies Edward Said, Foreword, in Guha and Spivak.

فدراسات التابع في الهند مثلاً، التي كانت تُعنى بها الماركسية في دراستها -ما قبل مرحلة فرانز فانون على الأقل- ما إن انتقلت إلى المنهج الفوكوي، حتى أصبحت الكولونيالية هي الفاعل الوحيد في التاريخ الهندي، وأصبحت كل البنى الاجتماعية في الهند مثل: الطائفة والطائفية (التي أصبح المجتمع الهندي يُقسّم بناءً عليها)، القبيلة، الطبقة، الجندر، تُفهم في سياقٍ ما بعد-حداثي، كدراسة نخبوية تأخذ في حسبانها الكولونيالية البريطانية كفاعل أساسيّ فيما يتعلق بحقوق هذه النخب. ليس كذلك فحسب، بل تقوم ما بعد-الكولونيالية على نصوص تأسيسية تسطّح العامل الاجتماعي وتجرّده من فاعليته، لمصلحة عوامل أخرى من مثل ما تسميه سبيفاك وهومي بابا بـ «السلاسل السيميوطيقية».

جوزيف مسعد كمخالفٍ لإدوارد سعيد

ينطلق مسعد من سعيد في كل مبادئه الأساسية، وفي كل التسليمات التي يبني عليها أطروحته، ويقول عن علاقة أطروحته -التي نال عليها درجة الدكتوراه- عن تفكيك الأثر الكولونيالي على الهوية الأردنية، بمنهج سعيد: «ترتبطُ بنقد الاستشراق لدى إدوارد سعيد»9محاضرة: الاختراق الكولونيالي والتيارات السياسية والحقوقية في العالم العربي.. أيضاً، كما يقول سعيد مثلاً بأن الغرب احتاج شرقاً ليصنع هويته، فإن مسعد يقول شيئاً مشابهاً في كتابه الإسلام في الليبرالية، فيقول نافياً حيادية الليبرالية كعقيدة: «احتاجت الليبرالية إلى تشكيل ما تُعاديه، حتى تؤسس ذاتها»10 Islam in Liberalism, Joseph Massad, University of Chicago Press.

لكن ما يبدو لنا أن مسعد، وإن تماهى مع سعيد في الأسس، فإنه يفترق وينفصل عنه في معنى وروح نقد الاستشراق السعيدي. تلك الروح التي تطرق لها إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية الذي أعاد فيه قراءة الاستشراق، وقام بتقييم نقاده فأشاد ببعضهم وردَّ على بعض. يُقصد بروح نقد الاستشراقية، رفع الثقافة عن كونها مجرد مُنتج للعملية الكولونيالة.

وهنا نعود لمسألة العلاقة بين الاستشراق والكولونيالية عند الاثنين، فسعيد وإن قال بتلازم الاستشراق والكولونيالية في أوروبا في عصور ما بعد التنوير، إلا أنه يؤكد على أهمية الاستشراق في الخطاب الأوروبي في القرون الوسيطة، وكيف شكّل مخيالاً معيّناً صاغ الذهنية الأوروبية. ليؤكد فيما بعد أهمية الخطاب الاستشراقي من الناحية السياسية لاحقاً، وكيف «سلّمَ» الاستشراقُ الشرقَ للكولونيالية الغربية. ويسرد مثالاً على ذلك فكرة قناة السويس، فهي نتيجة منطقية عنده لفكر الاستشراق وجهوده، أكثر بكثير مما هي نتيجة طبيعية للتنافس الفرنسي–الإنكليزي على بناء الإمبراطورية، والحفاظ عليها عِبْرَ الهيمنة على الشرق.

 بينما يصوغ مسعد مفاهيماً بَعديّة تكون أساسها العملية الكولونيالية، فلا مجال لاستخدام هذا المصطلح أو ذاك دون أن يكون أثره الاستعماري هو الأساس في فهم المصطلح أو ما يندرج تحته. فمثلاً، أي حديث عن مصطلحات مثل مصطلحات الحضارة أو الثقافة أو الديموقراطية هو بالضرورة ابتدع استشراقي بسبب تكوّن هذه المصطلحات في سياق غربي، وبالتالي من المستحيل تبنّيها دون افتتان بالغرب الكولونيالي أو استلهام منه.

وهذا يوقع مسعد في إشكالات تتعلق بالفهم التاريخي لهذه المصطلحات، وبفهم هؤلاء المثقفين الذين يتهمهم بالتواطؤ مع الاستعمار، مثل: قاسم أمين، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، علي عبد الرازق، وطه حسين… إلخ. فعندما يتحدث مسعد عن الديموقراطية على سبيل المثال، يُقولب المصطلح تماماً، مثل من ينتقدهم، في سياقٍ غربيٍ رغم وجود تفسيرات عديدة تنزع الديموقراطية عن الفكر الغربي. وهكذا فإن مسعد يكرّس ذات الفكرة التي ينتقدها، التي يُبنى عليها نسب الديموقراطية للغرب: الشرق العاطفي المتوحش في مقابل الغرب العقلاني. وهكذا أيضاً يتحدث مسعد عن محمد عبده، الذي وإن برر الاستعمار الإنجليزي للهند وتسامح مع الحكم الفرنسي في تونس، لكنه نفسه الذي ثار ضد الإنجليز في الثورة العُرابية.

دون تحليل عميق لتلك المصطلحات أو لأولئك الأشخاص، يقع مسعد في شَرك تسطيح هذه المسائل المعقدة، أو في شَرك تسطيح الشخوص ونزعها من سياقاتها (وهذا يبدو تقليداً عند السعيديين، ولنا في نقد سعيد لماركس نموذجٌ على ذلك) والغوص في مستنقعات المزايدة الأخلاقية. فلن يُغني جمال الدين الأفغاني، مثلاً، أن يقول بأن مقاومة الهجمة الاستعمارية الأوروبية الشاملة الشرسة على كل ديار العرب والمسلمين تتطلب تكاتف المسلمين جميعاً، فهو لارتباطه بالإسلام التنويري يُعتبر متواطئاً «معرفياً» مع ذلك الاستعمار.

 ويجدر بنا أن نشير إلى رغبةٍ عند مسعد، نراها جليةً في نصوصه، في ترك انطباع لدى القارئ برغبة المستعمر باقتحام هذا الشرق عن طريق مفاهيم الديموقراطية والتعددية والتقدم والنسوية والجنسانية، وخاصة عندما يتحدث عن دور المنظمات غير الحكومية في البلدان العربية. ولكن ما مدى صحة هذا الادعاء؟ فمسعد برأيي يعمم نوعاً محدداً من الكولونيالية كان هاجسه نقل الشرق إلى مستوى معين من التحضّر. لكن هذا لا يصحّ دائماً، فلو نظرنا إلى بعض الإمبرياليات الغربية، الأميركيّة تحديداً، لوجدنا تواطؤاً مع أنظمة رجعية واستبدادية ضد كل المصطلحات التي يشير إليها مسعد بصفتها تدل على تحضّر وتطور، أو تحمل في إرثها اللغوي أي معنىً تقدّمي.

كيف نقاوم الهيمنة الاستشراقية؟ ومن يستطيع أن يكون خارج الإبستيم الغربي؟

من ذا الذي باستطاعته أن يهرب من ذلك الإبستيم الغربي؟  فشبح الاستشراق يطارد كل ما هو خارج أوروبا، كما كان يُقال عن الماركسية داخل أوروبا أواخر القرن التاسع عشر.

لطالما كانت الماركسية المدرسة الفكرية المتبنية لمقاومة الهيمنة الغربية على الأطراف وعلى الجنوب العالمي، فكرياً وسياسياً واقتصادياً. ولكن ما أن أُعيدت الماركسية إلى مركز ذلك الإبستيم الغربي على يد كلٍ من نقد الاستشراق والدراسات ما بعد-الكولونيالية، حتى تم إلغاء أي إمكانية لقيام أي مقاومة فكرية تذكر. ففي إعادة قراءته لعمله الاستشراق، ينتقد سعيد فوكو فيما يخص تهميشه لماركس، الذي مارسه هو الآخر بدوره، فيقول: «إن توق فوكو لئلا يقع في شراك الاقتصادوية الماركسية، إنَّما يسوقه إلى طمس دور الطبقات، دور الاقتصاد، دور التمرد والثورة في المجتمعات التي يتناولها. […] المشكلة هي أن استخدام فوكو لمصطلح القوة يفرط في تنقُّله من مكان إلى آخر، مبتلعاً كلَّ عقبة في طريقه، […] طامساً التغيير ومعمِّياً على سيادته المادية الدقيقة. […] فهي، أي حفريات فوكو، لا تترك أدنى مجال للحركات الصاعدة، أو الثورات، أو الهيمنة المضادة، أو الكتل التاريخية»11مقالة بعنوان: ارتحال النظرية، إدوارد سعيد..

يخلّف هذا الفراغ الفكري فرصةً للأصوليات لتعيد قراءتها الأولى لنقد الاستشراق. فارتباط الأصوليات الإسلامية بنتاج إدوارد سعيد ليس حديثاً، بل تكاد تكون هي من أهم المدارس التأوّيلية التي أوّلت عمل الاستشراق، مع ما بعد-الكولونيالية والفكر الإنسانوي. فقد رأت في الكتاب ثورة دفاعٍ عن هوية شرقية مضطهَدة، وعن تمايز جوهري عن الغرب. فالنظرية ما بعد-الكولونيالية عند مسعد وعند غيره، تقف في مأزق عند الحديث عن الحالة الجهادية مثلاً، بحيث هي لا تستطيع الهروب من هذا المأزق إلا بالانحياز لتفاسير مادية تتعلق بموضوعات التفاوت الطبقي وانتفاء العدالة، أو نقد مفهوم الدولة التي يطمح لأن يقاربها هؤلاء الجهاديون بصفتها منتجاً غربياً ينطوي على مفاهيم كولونيالية مختلفة (ولنا بتصديرات وائل حلاق تفصيلٌ كافٍ بهذا الشأن).

حين سُئل مسعد عن بقاء الحركات الجهادية وحيدة خارج دائرة نقوداته، برر ذلك بأنه ينتقدها لاصطفافها مع المستعمر، وضربَ مثلاً بجهاديي إندونيسيا وحربهم ضد سوكارنو، وبارتباط المجاهدين الأفغان بالولايات المتحدة12محاضرة: الاختراق الكولونيالي والتيارات السياسية والحقوقية في العالم العربي.. لكن ماذا عن جوهر السؤال الحقيقي هنا؟ هل هم من يبقى فعلاً فقط خارج دائرة مسعد على الناحية الفكرية والمعرفية؟

تُرغم هذه الأطروحة مسعد على أن يتجاهل التناقضات الداخلية في تلك المجتمعات، التي تُنشّطُها فيها المنظمات غير الحكومية أو الحركات الحقوقية التي ينتقدها. وبما أنها تتواطأ مع الإمبرياليات الغربية معرفياً، وإن عادتها، فهو يقف ضدها بصفتها «استدخالاً معرفياً» كولونيالياً على المجتمع، بسبب وجود ذلك الحاجز المعرفي الذي يُرغم ما بعد-الكولونيالية على تلك الرؤية المثالية، التي لا ترى في هذه الصراعات إلا مجالاً للثنائية والتنافس الإمبريالي-المحلي، دون وجود إرادة ورغبة للشارع.

نقطةٌ أخرى يتماهى فيها مسعد مع الخطاب الأصولي، وهي نقده لمسألة القومية العربية التحررية، بصفتها متواطئة مع الفكر القومي الأوروبي الكولونيالي على المستويات: المعرفية والمفاهيمية والمؤسساتية، وإن قاومت هذه الكولونيالية وخاضت حروباً ضدها. بل يذهب مسعد إلى أبعد من ذلك، فيقول إن الخطاب العروبي كان مدعوماً غربياً من أجل ضرب الدولة العثمانية بعد أن تم سحب تلك الفكرة القائلة بأنها لا تمثل العنصر المسلم فيها فقط، خاصةً بعد خروج اليونانيين والأرمن والبلغاريين من مظلتها، مستفيدين من ذات الدعم الغربي الذي استفادت منه القومية العربية. وأعتقد برأيي أن هذا النقد الذي يُبالغ في تسطيح مسألة نشوء القومية، لا يتماهى فقط مع خطاب الإسلاميين التنويري الأزهري في نهاية القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين، بل حتى مع خطاب الأصوليين في سياق عدائهم مع عبد الناصر، في قراءة التاريخ قراءةً هويّاتية.

يستبعد مسعد أن يكون لاضطهاد العثمانيين لغيرهم أسبابٌ أخرى سِوى تلك الأسباب الهويّاتية المتعلقة بصعود النعرات الطورانية والشوفينية، مثل تقهقر السلطنة العثمانية لأسباب اقتصادية وسياسية، وانتشار التفاوت الطبقي في الأطراف، واضطرارها لاستبدال وتجديد طرق الهيمنة والسيطرة، مثلاً.

 نعم، هناك ارتباط وثيق للحركة القومية العربية والخطاب القومي اليساري بفكرة الدولة الحديثة، والقيم الليبرالية الخاصة بمفهوم الحرية والسيادة الذي يقف خلفها. ونعم، هناك ارتباطٌ بين ما سبق وبين تطور أنماط إنتاج الرأسمالية. لكن هذا يُعيدنا إلى مسألة صرامة هذا الفصل الحاد بين الثقافة الغربية وغير الغربية، وبين التسليم المُرسَل الذي يقول إن كل ما هو مرتبطٌ بالإمبريالية متواطئٌ معها، دون تمحيص في السياقات التاريخية لهذا الارتباط.

إن نقد ما بعد-الكولونيالية ليس بالأمر الهيّن، لأنها كما يصفها فيفيك تشيبر، وهو أحد نقادها الماركسيين، تختبئ وراء تعقيد بنيتها الفكرية، وهي نظريةٌ «متشعّبة البُنى»13 Postcolonial Theory and the Specter of Capital, Vivek Cibber, page 4. ويكمن ذلك التعقيد خلف التساؤل: حول ماذا ترتكز أي من نظرياتها؟ فما بعد الكولونيالية بدأت من النظرية الأدبية والدراسات الثقافية، لتنتشر بعد ذلك في مجالات التاريخ والأنثروبولوجيا والدراسات الشرق أوسطية والجنوب آسيوية، ليصبح الرد البديهي لأي مدافعٍ عنها في حالة توجيه أي نقد لها هو أن الناقد أغفل هذا الجانب أو ذاك، وإن عرّج على جوانب مختلفة.

هذه المرونة في القواعد النظرية، التي تشكّل برأيي باراديغماً غير محددِ المعالم، تجعل من السهل على مسعد إطلاق تعميماتٍ من شأنها تَصْنيم الإبتسيم الغربي، بما يجعله شاملاً كل شيء وقبلياً على كل شيء. فنصبح في موضعٍ خشي من آثاره إدوارد سعيد، فحاول النأي بنا عنه من خلال انعطافته الإنسانوية، بينما يقذف مسعد بنا إلى هوة عدمية أطروحات الـ «إما» والـ «أو»، إما أن تتواطأ مع قامعيك أو لا تتواطأ.

نايف الهنداس

كاتب ومترجم من السعودية.
المصدر : الجمهورية