on
في نقد مفهوم الواقع ومفهوم الحقيقة
جاد الكريم الجباعي
الواقع والواقعية من أكثر الكلمات – المفاهيم رواجًا، في سائر الخطابات، وأكثرها التباسًا ومدعاة للتعصب والاستبداد، لأنهما حجة كل محتج، وعُدَّة كل معتد، وسند لكل مدع، وسلاح في يد كل مساجل ومجادل، وخيوط النسيج التأويلي لخطاب أي سلطة، علاوة على الخطاب العلموي. وما من شك في أن مفهوم الواقع يعادل مفهوم الحقيقة منطقيًا، خلافًا للرؤى اللاهوتية. لذلك كانت كيفية إدراك ما هو الواقع معادلة لما يعتقد كل متكلم أو متكلمة أنه الحقيقة. وليس احتكار الحقيقة، الذي هو مبدأ التعصب ومبدأ الاستبداد، سوى إيمان الفرد أو الجماعة، بأن تصوره أو تصورها للواقع هو الواقع ذاته. وقد أدرك ياسين الحافظ أهمية أن نخرج رؤوسنا من الواقع، لا لأن نخرج الواقع من رؤوسنا.
من الثابت أن الأفراد يخلتفون في كيفية التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل؛ لا في التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل، وتختلف الجماعات في ذلك أيضًا. في ضوء هذا الاختلاف، الذي لا يمكن نفيه، إلا بافتراض أن الأفراد نسخ كربونية متشابها تشابهًا تاما، نكون إزاء ما لا حصر له مما يسمى “الواقع” وما لا حصر له مما تسمى “الحقيقة”. إذ ينتقي كل منا مجموعة قليلة من الأحداث والظواهر، بحكم محدودية قدراته، ويسميها الواقع والحقيقة، والأمر ليس كذلك بالطبع، لأنه ما من شخص يستطيع الإحاطة بجميع الأحداث والظواهر وإدراك علاقاتها المتبادلة، الظاهرة منها والخافية.
ولكن إذا افترضنا أن هنالك تصورات لما هو الواقع بعدد الأفراد الذين يتصورون، لا بد أن يكون ثمة ما هو مشترك بين هذه التصورات جميعًا، لأن الإنسان هو الإنسان، في كل زمان ومكان، وإن كان يظهر، في كل مرة، على نحو ما تجعله ظروف حياته وشروط وجوده التاريخية، أو على نحو ما ينتج هو نفسه أشكال وجوده، ويطور ظروف حياته وشروط وجوده. لذلك نفترض أن هذا المشترك هو الواقع، الذي لا يستطيع أي فرد أن يصل وحده إلى إدراكه.
السؤال الآن، كيف يمكن التوصل إلى هذا المشترك، سواء في مجالات ضيقة أم في مجالات أوسع فأوسع؟ وعلى سبيل المثال، كيف يمكن أن يتوصل السوريون إلى إدراك مشترك لما هو الواقع السوري، المتعدد في ذاته وفي تأويلاته، واستشفاف ممكناته، ومن ثم، كيف يمكن أن يتوصلوا إلى حقائق نسبية مشتركة وقيم نسبية مشتركة تساعدهم في اجتراح حلول مناسبة للمشكلات المزمنة والطارئة، يربح منها الجميع، وإن بنسب متفاوتة، لأن خسارة هذا الطرف أو ذاك ربح صاف للجميع بالتساوي؟ افترضنا، في مناسبات عدة، أنْ لا سبيل إلى ذلك سوى بالحوار والنقاشات العامة المفتوحة، في مناخ من الحرية.
المعاني والقيم هي مضمون الأفعال والأقوال، فالعلاقات الاجتماعية نسيج من المعاني والقيم والعلامات والرموز والأحكام والتصنيفات والإيمانات والتصديقات…، وما يسمى حقائق اجتماعية وحقائق عقلية أيضًا ليست سوى ما يَنْتُج من الأفعال والأقوال والعلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات. الحقائق الاجتماعية والحقائق العقلية إنتاج اجتماعي مشترك؛ ينتجها الأفراد والجماعات في سياق علاقاتهم المتبادلة، لا تنجلي ولا تتبلور إلا بالحوار والمناقشة اللذين ينتجان حقائق جديدة للمتمحاورَيْن أو المتحاورتين معًا أو للمتحاورِين والمتحاورات جميعًا. وما تسمى أوضاعًا اجتماعية إنما هي مواضعات وتفاعلات وتوافقات وممانعات تنتج من النقاش والتفاوض الدائمين بين الفاعلات والفاعلين، ولا يكون خصام ونزاع، ولا تنشب حروب إلا حين يمتنع النقاش وتتعسر المفاوضة.
في ضوء ذلك لا بد من نقد مفهوم “الواقع” ومفهوم “الحقيقة”؛ إذ ليس هنالك شيء اسمه “الواقع″، كما يتصوره بعضنا على أنه نسق منتظم، أو حقل منظَّم قبليًا، له منطقه وقوانينه الثابتة، بل هنالك أفعال تُفْعَل وأحداث تحدث على غير نظام وعلى غير اطِّراد، وليس أي منها تكرارًا لذاته، هنالك ممارسة اجتماعية لفاعلات مختلفات وفاعلين مختلفين، تصدر عن بواعث ودوافع مختلفة وتتغيَّا غايات مختلفة، وهناك حقول ومجالات مختلفة ومتداخلة ومتآثرة، نحن من نحاول تنظيمها ونمذجتها، ونسميها “الواقع” و”نظام الأشياء”، فثمة صور ذهنية مختلفة عما يسمى الواقع، بعدد الأفراد المدركين وحسب اختلافهم. وهناك مؤسسات طبيعة، كالأسرة أو العائلة أو العشيرة أو الجماعية الإثنية أو الدينية.. موروثة من عصور سحيقة، ومؤسسات صنعية، تقوم كلها بالتنظيم والتصنيف والتوزيع والتقنين، وتفرض كل منها نظامها على الأفراد فتقيد حريتهم، وتدمغهم بدمغتها، أو تسمهم بسماتها، ولا تخلو أي منها من قسر وإكراه وعنف عارٍ أو رمزي، فتغدو هي “الواقع” لدى كل منهم. قد يقال هذا نوع من نزعة اسمية[1]، عفى عليها الزمن، وطواها النسيان، ولكنها ليست كذلك فقط، بل هي نزعة مناوئة، بل مضادة للسلطة/ السلطات، التي تنظم وتسمي وتحكم وتتحكم، ومحاولة التفات إلى الأفعال والانفعالات الفردية والأحداث المفردة أو الميكروية، التي تشكل الفضاء الاجتماعي، على ما بينها من اختلاف وتفاوت، مردهما إلى اختلاف الأفراد وتفاوتهم، ورهان على الانتظامات الحرة الطوعية والعلاقات الأفقية التي تقوم على الندية والتكافؤ والتشارك الحر، أي إننا نراهن على الانتظام في مواجهة التنظيم، ومن ثم، في مواجهة “النظام”، وهذا، أي النظام، اسم آخر للسلطة الفوقية. العشوائية التي هي سمة نشاط الأفراد وممارستهم اليومية، تحمل إمكانات انتظام لا حصر لها. هذه العشوائية هي الصيغة الأولية للحرية المؤسسة في الاختلاف: نحن أحرار لأننا مختلفون.
ثمة أحداث تحدث أو أفعال تُفعل مقرونة بأقوال وتستولد آثارها أحداثًا وأفعالًا وأقوالًا أخرى تتشكل منها، مع مرور الوقت، حكايات أو سرديات، كبرى وصغرى، وسير ذاتية وخطابات، وفق مبدأ “اصطفاء الدلالات” وتأويل الأقوال والأفعال. يلاحظ هذا في المجتمعات الصغيرة والمجتمع الأوسع، أو المجتمع الكلي. وهو مما يدل على تداخل رأس المال الاجتماعي ورأس المال الثقافي الشفوي والمكتوب ورأس المال الرمزي. في السرديات الصغرى تتحول الفاعلة إلى بطلة أو شخصية محورية، بصرف النظر عن موضوع البطولة، وكذلك الفاعل. وفي السرديات الكبرى يرفع البطل إلى مستوى القداسة، فيتحول من فاعل بنفسه إلى فاعل بغيره، أي إلى موجه وملهم وموح ومقدر الأقدار ومالك زمامها، كالملك أو الأمير أو السلطان، أو القائد الرمز، لا قول فوق قوله ولا سلطة فوق سلطته، فيتداخل العقل والأسطورة، وذلك كله مرتبط بالسلطة والهيمنة أوثق ارتباط. فليس عبثًا تشبيه الملوك بالآلهة، وتشبيه الله نفسه بالملك، في النصوص الدينية.
الفاعلية الاجتماعية، في أحد وجوهها، فاعلية سياسية، مثلما هي فاعلية اقتصادية وثقافية ورمزية وأخلاقية وجمالية، لأن العلاقات الاجتماعية علاقات قوة أيضًا، أي علاقات سلطة وهيمنة. الأفعال والأقوال أشكال مختلفة للفاعلية التي هي صفة الفاعلة والفاعل، تنطلق منهما وتعود إليهما أو عليهما، خيرًا كان ذلك أم شرًا. الفعل والقول إنتاج للمعنى والقيمة، والكتابة إعادة إنتاج، إلا إذا كان الفعل عبثًا والقول هذرًا. فالعبرة كلها في المعاني والقيم التي تُحمَل على الأفعال والأقوال، وتَحمِل عليها.
نحن لا نسيطر على نتائج أفعالنا، على افتراض أننا نسيطر على أفعالنا، وندرأ عنها تأثيرات موروثاتنا ومكبوتاتنا المترسبة في اللاوعي، ونتجنب العفوية والنزق والحمق والغطرسة والفظاظة واحتكار الحقيقة؛ لأن نتائج الأفعال والأقوال متعلقة بالأخريات والآخرين، ولا نملك إزاء احتمالات تأويلها حولًا أو طوْلًا، فما أن يصدر الفعل أو القول حتى يصيرا ملك من يتجه إليها أو إليه. والذكاء كله يكمن في توجيه أفعالنا وأقوالنا الوجهة المصاقبة للنتائج التي نتوخاها، وذلكم هو فن التواصل، ورهان الاجتماع المدني.
نتاجات الفعل الاجتماعي تندرج في أنساق أو منظومات ذهنية – نفسية مختلفة عن النسق الذي صدرت منه أيما اختلاف، ناهيك عن اختلاف مواقع الأفراد ومنظوراتهم. وهذا لا ينفي وجود نماذج ذهنية – نفسية متشابهة بعض التشابه، وآليات تأويل متشابهة بعض التشابه، بحكم التربية والتنشئة والثقافة والتعليم، وتبادل المعارف والقيم والخبرات. فإذا كانت الحقيقة معادلًا معرفيًا وأخلاقيًا للواقع، بما هو منظومة منظومات ديناميكية متغيرة على الدوام، وإذا كان المجتمع نسيج تاريخي، ينسجه البشر، ولكنهم لا ينسجونه على هواهم، ليس أمام السوريات والسوريين سوى التوصل إلى حقيقة مشتركة هي سوريتهم.
[1] – إشارة إلى المدرسة الاسمية، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ولا سيما الاسمية الفرنسية ورائدها غليوم الأوكامي، والتي قامت على نفي الكليات وعدتها مجرد أسماء في اللغة أو محمولات تدل على أشياء مختلفة، لا أشياء في ذاتها، وليست أنواعًا ولا أصنافًا، لأن الشيء لا يكون محمولًا لشيء. راجع/ي، إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، 1988 الطبعة الثانية، الجزء الثالث، ص 239 وما بعدها. كان الياس مرقص بسميها “مادوية عصر النهضة”.
المصدر