on
لقاء الحداثة والفقر يحمل ضغط الدم إلى بليون إنسان الراقصة «الجاسوسة» فتنت الفرنسيين والألمان خلال الحرب
عندما يطالعك اسم ماتا هاري تتذكر للفور الراقصة الهولندية الشهيرة التي وصفت بـ «الجاسوسة» و»المومس» والتي تمّ اعدامها رمياً بالرصاص في مدينة فنسين الفرنسية في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1917 خلال الحرب العالمية الأولى. هذه «الجاسوسة» كُتب عنها الكثير من المؤلفات التاريخية والتوثيقية وانتقلت شخصيتها الفاتنة إلى السينما والمسرح، وقد أدت دورها ممثلات كبيرات مثل غريتا غاربو وجانّ مورو وسيلفيا كريستل. ويقال إن كتاباً أو ملفاً في مجلة كان يصدر عنها كل عام في فترة ما بين الحربين. وعلى رغم الأضواء الساطعة التي ألقيت عليها وعلى سيرتها والتي لم تدع زاوية معتمة في حياتها، يظل الغموض يلف هذه السيدة الغريبة الأطوار والملغزة بعد مضي نحو مئة عام على إعدامها، والتي لم تتمكن المحاكم والتحقيقات من ان تلحظ دليلاً حسياً او ملموساً يدينها صراحة بتهمة التجسس.
الروائي البرازيلي العالمي باولو كويلو استهوته شخصية ماتا هاري فقرر ان يكتب عنها رواية عنوانها «الجاسوسة» (صدرت ترجمتها العربية بقلم رنا الصيفي عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي تملك حقوق نشر اعمال كويلو كاملة بالعربية) منطلقاً من الوثائق الهائلة التي تتناولها والتي تضمها الكتب والتحقيقات الصحافية. والخطوة الأولى التي نجح في انجازها تمثلت في تلبسه هذه الشخصية وجعلها هي الراوية التي تسرد سيرتها من خلال رسالة طويلة تخيل أنها كتبتها في زنزانتها الرقم 12 في سجن سان لازار للنساء في باريس الذي قبعت فيه والذي تديره راهبات. لكنّ كويلو يستهل روايته بمشهد اقتيادها من السجن الى حقل الإعدام بعدما رُفض طلب الاسترحام الذي تقدمت به الى رئيس الجمهورية. وقبل اقتيادها سلمت محاميها رسالتها الطويلة التي تضم سيرتها كما روتها، ومظروفين فيهما قصاصات صحافية وقالت: «انا جاهزة». وأمام فرقة الرماية وقفت بشجاعة ورفضت ان تُقيد يداها وأن تُعصب عيناها، وشخصت الى الجنود ببنادقهم المرفوعة من غير ان تظهر على وجهها سمات خوف او اضطراب.
الكاتب والبطلة
ينتقل القارئ من ثم الى السيرة الذاتية التي ترويها ماتا هاري في الرسالة او التي يرويها بالأحرى كويلو على لسان بطلته. وفي هذه اللعبة يسمح الروائي لنفسه ان يعيد كتابة قصة هذه الجاسوسة مضيفاً الى سيرتها ما سمحت له مخيلته الواسعة من تصور وقائع وأحداث وحتى شخصيات، وحاذفاً في الحين نفسه وقائع وأحداثاً تناقلها كتّاب سيرتها وهي حقيقية ومثبتة تاريخياً. انها ماتا هاري ولكن كما يتصورها صاحب «الكيميائي». لم يخنها كل الخيانة ولكن لم يكن وفياً لها كل الوفاء، حتى ليمكن القول انه خلق امرأة خاصة تدعى ماتا هاري كويلو. وهذا يتبين بسهولة اذا تمت المقارنة بين ماتا كشخصية تاريخية وماتا كشخصية روائية. والقارئ سينحاز حتماً الى ماتا الروائية ولو سجل بضعة مآخذ على كويلو الذي ارخى على هذه الشخصية نظراته ورؤاه. وقد سعى منذ الصفحات الأولى الى جعلها بمثابة البطلة الضحية التي واجهت قدرها ببأس وقوة وصنعت اسطورتها بنفسها، متحدية الأعراف والتقاليد ومتحررة من وطأة الأخلاق التي كانت سائدة حينذاك. ومع ان كويلو نقل على لسانها قولها القاطع أمام المحكمة : «أنا عاهرة نعم، جاسوسة أبداً»، فهو آثر أن يسميها «الجاسوسة»، لكنه لم يتلكأ في اضفاء ملامح البراءة عليها جاعلاً منها في احيان امرأة حكيمة تنطق بالعبر والأمثال وتقرأ سفر نشيد الأناشيد، هي المومس التي خبرت الحب الشهوي مجاهرة حيناً تلو حين بنزعة وجودية او روحية. فهي تقول على سبيل المثل: «لم يوجد الله الخطيئة، نحن من أوجدها، عندما نحاول تحويل ما كان محتماً الى شيء ذاتي. كففنا عن رؤية الكل لرؤية جزء فحسب، وذاك الجزء محمل بالذنوب والأحكام، والخير مقابل الشر، وكل طرف يعتقد بأنه المحق». طبعاً هذا كلام كويلو المبهور بالحكمة، وليس كلام ماتا هاري المومس، مهما غدت مثقفة. وهذا أيضاً مما يؤخذ دوماً على روايات كويلو الذي يفرض رؤيته او وجهة نظره على شخصياته. ولم يوفر كويلو ام ماتا هاري من الحكمة فهي قبل موتها تعطي ابنتها بذور زهرة التوليب التي ترمز الى القدر وتطلب منها ان تخبئها وتتعظ بها.
سيرة موجزة
تسرد ماتا هاري سيرتها موجزة وهي اصلاً معروفة: ولدت في لوواردن، احدى قرى هولندا النائية في 7 آب (اغسطس) 1876، اسمها الحقيقي مارغريتا زيلّيه، أفلس والدها ثم توفيت والدتها فانتقلت الى مدينة لايدن والتحقت بإحدى مدارسها. في السادسة عشرة من عمرها اغتصبها مدير المدرسة بعدما مددها على طاولة المقعد الدراسي فترك هذا الاغتصاب جرحاً مفتوحاً في جسدها ووجدانها. تزوجت من دون حب ضابطاً هولندياً يدعى رودولف ماكلاود يقيم في اندونيسيا في سياق مهمته العسكرية، فتعيش معه حياة قاسية، وكان ينعتها بالساقطة بعدما اكتشف انها ليست عذراء. وكان يعيد اغتصابها ممدداً اياها على الطاولة ومجبراً اياها على ارتداء الثوب المدرسي. كان يخونها مع النسوة الإندونيسيات وسواهن ويخشى دوماً ان تخونه هي فهو لا يثق بها بتاتاً. لكنه انجب منها فتاة ثم ولداً سممته مربيته فمات فقتل الخدام المربية القاتلة.
«الشمس المشرقة»
غير ان ماتا هاري لن تستسلم لهذه الحياة القاسية والباردة والمملة هي التي كانت تعلم ان في داخلها امرأة طموحاً وحالمة، تهوى الرقص والفروسية اللذين تعلمتهما منذ الفتوة. وتقرر بعد انتحار زوجة احد اصدقاء زوجها اندرياس مطلقة النار على نفسها في احدى السهرات، ان تعود الى هولندا. فيرضخ زوجها للأمر وما ان تبلغ هولندا حتى تتحرر من زواجها وتبدأ حياتها الحرة مقررة الانتقال الى باريس للعيش هناك وتحقيق احلامها في مدينة النور والفن. تبدل اسمها عشية سفرها الى باريس فيصبح ماتا هاري وهو اسم اندونيسي يعني الشمس المشرقة. في باريس تبدأ ماتا هاري حياة ملؤها الرقص والجنس والعشق واللهو والكذب فتمسي امرأة اخرى. تدعي انها تجيد الرقص الكلاسيكي الشرقي اي رقص البالية المطعم بالموسيقى والحركات الآسيوية او الإندونيسية، وتنطلق على المسارح وتحصد شهرة كبيرة وتصبح نجمة باريس، وتؤدي رقصات اباحية تجرؤ خلالها على التعري التام فتنتشر صورها في الصحف ووجهها على البطاقات البريدية…
مال وعشاق ثم الوقوع في حبائل رجال الدولة والاستخبارات حتى تصبح من غير ان تدري لعبة في ايدي الأجهزة الفرنسية والألمانية في اوج الحرب العالمية والمواجهات العسكرية. وما ساهم في اطلاق صفة الجاسوسة عليها انتقالها الى برلين ثم عودتها الى باريس… وهي اصلاً كانت تنقلت بين مدن اوروبا كافة، وفي فينا التقت سيغموند فرويد الذي اخذت عنه فكرة ان اخطاء البشر إنما ترجع الى آبائهم. وفي باريس التقت ايضاً الرسام بابلو بيكاسو الذي حاول اغواءها والرسام امادو مودلياني.
في الرسالة التي بدت اشبه بمذكرات او يوميات تعترف ماتا انها لم تكن يوماً بريئة وأنها شاءت ان تكون متحررة في عالم يحكمه الذكور وأصحاب المال والنفوذ، وأنها صبت علانية الى المال والشهرة. وتقول: « نعم كنت عاهرة. كنت أقبل العطايا والمجوهرات مقابل العطف واللذة. نعم كنت كاذبة بالإكراه». وتروي كيف أن الألمان، عندما ظنوا انهم اقنعوها على التعاون معهم استخباراتياً من قلب باريس، اطلقوا عليها اسماً سرياً هو «ه.21»، لكنها سرعان ما قصدت السفارة الفرنسية في برلين لتطلع المسؤولين على الأمر وتعلن انها لن تكون جاسوسة لمصلحة ألمانيا. لكن الأمور تجري عكس ما تصورت فإذا بها تُتهم بأنها عميلة مزدوجة للألمان والفرنسيين في وقت واحد. وما ان تعود الى باريس حتى يلقى القبض عليها وتحاكم على رغم اصرارها على براءتها ويصدر الحكم بإعدامها رمياً بالرصاص.
لم يتقيد باولو كويلو بوقائع سيرة ماتا هاري المرأة الرهيبة، كاملة ولا بالحوادث التي تخللت حياتها، بل شاءها شخصية روائية تؤدي دور الراوية في معظم فصول الرواية بينما تولى هو بنفسه سرد بقية التفاصيل. وبدا كويلو سباقاً فعلاً في تحويره شخصية ماتا هاري انتصاراً للسرد والتخييل الروائي، ونجح فعلاً في رسم ملامح اخرى لهذه الراقصة التي دخلت التاريخ من باب التجسس ولكن من غير ان يشفي غليل القارئ التائق الى التعرف الى ماتا هاري الجاسوسة الحقيقية والتاريخية.
صدى الشام